مقدمة المحررة:
كتب معنا يوسف القدرة، منذ اليوم الأوّل للحرب على قطاع غزّة. شاركنا يومياته ويوميات الغزيّين التي كانت "أصغر" من أن تعرضها نشرات الأخبار، فيوميات الحرب الصغيرة لا تصلح للعناوين الكبرى.
قرأنا له عن تفاصيل النزوح، والهروب الأسرع من التفكير، وعن دفن أخته الصغرى وعائلتها، وبكاء أبيه وانكسار أمّه. قرأنا له أيضاً عن رقص الأطفال، وابتساماتهم، وعن تجمّع مدرسة نازحين كاملة لصنع بضعة أقراص من الفلافل للأطفال.
اليوم يخرج يوسف، من غزّة، دون أن تخرج منه كما يقول، لذا يحتفي فريق رصيف22، بسلامته من خلال نشر هذا النص "سفر الخروج"، ويتمنى السلامة لمن بقوا في القطاع.
إلى الصديق مهيب البرغوثي،
حيث أنت، وحيث لا تزال الأرواح تقيم على خرائب الوقت، وروحك منها.
النجاة... جرح آخر
يا مهيب،
أكتب إليك لا لأبشّرك بالنجاة، وإنّما لأحكي لك كيف أنّ النجاة نفسها قد تكون جرحاً آخر، قديماً يتجدد. خرجنا من غزّة، نعم، ولكنّ غزّة لم تخرج منّا. كل ما في الأمر أننا نحملها الآن على هيئة طبقات خفية، مثل نسغ الشجر الذي يسجّل كل عاصفة وكل مجاعة وكل موت.
عبَرنا عن قاتلنا المدجّج بالسلاح، وعبرنا دون الأخوة العاجزين، وحين عبرنا البحر، ظننا أن الماء يغسل الذاكرة، لكني أدركت أنّ الذاكرة لا تقطن الجلد حتى تتساقط عنه مع الملح. إنها تعيش في العظم، في نخاعه الأكثر سرّيةً، هناك حيث لا تطالها الأمواج ولا الغفران.
هنا، في مارسيليا، البحر آخر.
زرقته لا تشبه زرقة بحر غزّة.
هنا البحر ساكن، مستلقٍ مثل عجوز تعب من الحكايات.
بينما كان بحرنا شابّاً يافعاً، وصاخباً يركل الشاطئ كمن يحاول الخروج من سجنه.
كل شيء هنا يهمس في فتات قلبي: الحياة ممكنة.
الناس يمشون بهدوء، يتكلمون بهدوء، ويحزنون بهدوء.
أما نحن القادمين من النار، فنحمل في خطواتنا رنّة انفجار قديم.
خرجنا من غزّة، لكن غزّة لم تخرج منّا. نحملها في العظم، في نخاعه السرّي، هناك حيث لا تطالها الأمواج ولا الغفران، حيث يقيم الجرح القديم متخفّياً
أجلس الآن قرب النافذة في المقهى، أدخّن انتقاماً من الحرمان، وأنظر إلى زرقة البحر الغريب، وأتساءل:
من منّا نجا فعلاً؟
من بقي هناك، تحت الردم؟
ومن منّا بقي حيّاً كي يموت ببطء آخر هنا، في حضن منفى مستعار؟
موت بطيء أقل قسوة... هذه المرّة
يا مهيب،
لم نكن نبحث عن الحياة حين غادرنا غزّة.
كنا نبحث عن نوع آخر من الموت، موت بطيء، أقل قسوةً.
موت لا يأتيك وأنت تحت الأنقاض، إنما وأنت تحت شجرة، أو على رصيف، أو بين أصدقاء يضحكون دون أن يعلموا أنك تحتضر منذ زمن بعيد، من الخذلان والصمت المريب والتواطؤ.
هنا، الغياب أكبر من كل شيء.
لا وجوه العابرين تملأ الفراغ، ولا ضحكات الأطفال في الأزقّة تعيد للروح بهجتها.
نبحث عن موتٍ بطيء أقل قسوة، موتٍ يأتيك تحت شجرة أو بين ضحكات أصدقاء لا يعلمون أنك تحتضر بصمت، منذ خذلان العالم وصمته المريب.
الغربة ليست المكان، إنها الزمن. أدرك ذلك سلفاً.
والزمن هنا يسير بطريقة مختلفة، كما لو أننا قُطِعنا عن الخط الأصلي لوجودنا.
صرنا طفيليات على زمن لا يعترف بآلامنا، ولا يسألنا عن خسائرنا.
هل تعرف، يا صديقي، ما هو الأمر الأشدّ قسوةً؟
أن تكتشف أنّ الوطن غادرك قبل أن تغادره.
أن تدرك أنّ البيوت التي تحبّها صارت غباراً، وأنّ الشوارع التي كانت تحفظ وقع خطواتك سُوّيت بالأرض.
وأنّك حين تعود، إن عدت، ستعود إلى فراغ، إلى أطلالك.
طيف أمي
مهيب،
أنا لا أكتب لأشكو.
أنا أكتب لأنّ الكتابة هي الطريقة الوحيدة لأقنع نفسي بأنني لم أمُت تماماً.
وأنّ هناك جزءاً صغيراً منّي ما زال يتنفس، يتألم، ويكتب.
يزورني طيف أمّي، في المساءات القليلة الماضية.
لا تتكلم.
تجلس فحسب عند حافة السرير، وتضع يدها على رأسي، كما كانت تفعل حين كنت صغيراً وأرتجف من الكوابيس.
أفتح عيني، فلا أرى إلا السواد، وأدرك أنّ الكابوس الحقيقي هو أن تصحو، لا أن تحلم.
أحياناً، أسأل نفسي:
ماذا يعني أن تكون إنساناً بعد الخراب؟
كيف تزرع الأمل في كوكب ملوّث باليأس؟
كيف تبتسم والذكريات تملأ فمك بالرماد؟
الوطن ليس جغرافيا، بل ذاكرة مشتركة من الألم. أكتب لأترك أثراً يعرفه صديق، أثراً خلفته الرغبة المجنونة في التصالح مع الفقد، لا مع النجاة
هنا في مارسيليا، بين الأصدقاء والغرباء، أدرك أنّ الإنسان لا ينجو لأنّه أقوى، إنما لأنه أكثر قدرةً على التظاهر.
تظاهر بأنّك بخير، حتى تصدّق كذبتك.
تظاهر بأنّك نسيت، حتى تتمكن من الوقوف على قدميك.
تظاهر بأنّك تحبّ البحر، حتى لا تبكي أمامه كطفل ضائع.
هل هذه هي النجاة؟
كذبٌ مُتقَن؟
أو أنّ النجاة الحقيقية، كما كان يقول صوفيّ قديم لا أذكر اسمه، هي أن تعرف أنك ميت، وتواصل العيش برغم ذلك، بابتسامة ساخرة؟
الأرض التي لفظتني
مهيب،
أعلم أنّ هذه الرسالة ثقيلة،
لكنك من بين الجميع الوحيد الذي يعرف أنّ الكلمات، حين تهدّك، تصبح أكثر صدقاً.
وأنّ الصمت، حين يطول، لا يعني السكينة، إنما الفقدان.
أنت تعرف كما أعرف أنّ الفجيعة لا تُشفى.
وأنّ الجراح العميقة لا تلتئم، بل تتحول إلى مجرّات تدور في داخلنا، ترسم مدار أرواحنا حول غيابها.
أبحث عن الوطن في وجوه الأصدقاء الذين يشبهونني في الغربة، في نظرة الحبيب منعم عدوان، الذي يفهم دون أن أتكلم، في أغنية يمنية حزينة تهرب من شرفة مفتوحة للرفيق جميل سبيع.
أدرك أنّ الوطن ليس جغرافيا، إنه ذاكرة مشتركة من الألم.
أتعلّم أن أكون ابناً للمنفى، دون أن أنسى أنني ابن الأرض التي لفظتني.
أكتب إليك هذه الكلمات لأنني بحاجة إلى أن أترك أثراً آخر غير خطاي المرتجفة على أرصفة مارسيليا… أثراً يعرفه صديق يفهم أنّ وراء الحروف المتكسرة رغبةً مجنونةً في التصالح مع الفقد.
مهيب،
لا أطلب منك أن تردّ. اذهب ودخّن نارجيلتك والعن العالم.
يكفيني أن تعرف أنني هنا، موجود برغم كل شيء،
أحمل غزّة في قلبي مثل جرح جميل، وأحمل مارسيليا فوق كتفَيّ مثل صليب خفيف.
ابقَ هناك، أو تعال يوماً ما لنتسكع على الأرصفة، لا فرق.
في النهاية، كلنا في رحلة واحدة:
رحلة البحث عن ضوء صغير في آخر نفق طويل.
رفيقك عبر جحيمَين،
يوسف القدرة
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Bosaina Sharba -
منذ 3 أيامحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ 5 أيامالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوع'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...
Mohammed Liswi -
منذ أسبوععجبني الموضوع والفكرة