شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
يوميات من غزة (26)... طوابير وقصف وبحث عن الطعام، هل أصبحت هذه حياتنا؟

يوميات من غزة (26)... طوابير وقصف وبحث عن الطعام، هل أصبحت هذه حياتنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

المشهد الأول

الأيام أخذت شكلاً يلائم الزمان والمكان. روتيناً ما تشكّل يوماً بعد يوم على مدى أكثر 120 يوماً مضت، كلما انطفأت الحياة في مكان، اشتعلت في مكان آخر. الأسواق تعرف كيف تسري كنهر صغير بين الخيام، تلك التي تبدو كتلةً واحدةً موزّعة كيفما اتّفق.

الظرف القائم وإمكانياته فرضا أسلوبهما على متن اليوم، تستيقظ العائلات مع تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، يبدأ كل فرد من العائلة بدوره المنوط به، الأطفالُ يبحثون عما تيسّر من الأخشاب والكرتون، الأمهات يعجنّ خبز اليوم، الرجال في طابور الماء، أو في الأسواق يُحضرون ما يمكن أن يكون قوت يومهم، وفيما الخبز ينضج في فرن من أفران الطين التي انتشرت حول الخيام، توقد النار لإعداد الفطور والشاي، يمكن للجميع حضور الشمس تُشرق من بين ألسنة الدخان المتصاعدة على بعد كيلو متر أو اثنين شرق المدينة، هكذا تجتمع العائلات لتناول الفطور على أصوات الانفجارات. 

نرى مهرجاً ودبدوب، وحولهما عشرات الأطفال، يغنون "لا تبالي يا غزة، وتحلي بالعزة"، ثم يختار المهرج طفلاً ليلقي قصيدة أو أغنية، إذا صفّق جمهور الأطفال، سيمنحه الدبدوب قطعة بسكويت بالعجوة هدية

المشهد الثاني

في الشارع، يجتمع بعض الأشخاص في طابور، وحين ترى الناس طابوراً فيجب السؤال عن السبب، الجميع يخرج بعد تناول ما تيسّر من الفطور للبحث في الشوارع والمدارس المحيطة عمّن يسجل أسماء النازحين أو السكان المحيطين بالمنطقة للطحين أو الكوبونات أو الخضروات، هكذا يصنعون طابوراً يطول للتسجيل، متى انتهى دورك هنا فسوف تستعجل الخطى، فثمة طابور آخر بعده، من جهة أخرى للاستلام لتسجيل سابق، لتجد نفسك وقُضي نصف النهار لتعود لخيمتك مرّة غانماً القليل من المعلّبات والخضروات، ومرّات كثيرة خائباً، صفر اليدين. 

يمكن للجميع حضور الشمس تُشرق من بين ألسنة الدخان المتصاعدة على بعد كيلو متر أو اثنين شرق المدينة، هكذا تجتمع العائلات لتناول الفطور على أصوات الانفجارات.

وكذلك طوابير الشباب الذي لن يكلّ، همّه أن يشحن الموبايلات، يتحلّقون حول مخارج الطاقة الشمسية التي توفرها كلية تدريب خان يونس "الصناعة"، أو العيادة التابعتين للأنوروا، ثم بعد ساعة أو ساعتين من الانتظار، ومتى شُحنت الموبايلات يجتمعون حول راوترات الإنترنت المنتشرة على أعمدة الشوارع، ليكونوا على اتصال مع العالم، هذا إن توفّر الإنترنت، الذي غالباً ما يكون غائب لسبب ما.

المشهد الثالث

في السوق، والسوقُ كما وصفناه نهرٌ صغير يجري في منتصف الخيام، كل بائع يفرد بضاعته على طاولة صغيرة أمامه، وأغلب البضائع هي معلبات مُنحت كمساعدات للعائلات، بعضهم يقوم ببيعها من أجل الحصول على القليل من المال، الذي يمكن أن يساعد في مصروفات أُخرى، كالحطب الذي تجاوز سعر الكيلو منه حدود الأربع دولارات، أو الخضروات قليلة الأنواع مثل البندورة التي تجاوز سعر الكيلو منها الدولار والنصف، والبطاطا أربع دولارات، والباذنجان الدولاران، والبصل أربعة دولارات، وأربعة قرون فلفل بنصف دولار، ورأس الثوم بدولار.

تلك المعلبات أيضاً تباع بأسعار خيالية، تتجاوز أربع أو خمس أضعاف السعر الأصلي، أما حاجات الأطفال فصارت تستنزف العائلات من أسعارها المجنونة. فالشيكل (الذي يعادل رُبع دولار تقريباً) والذي كان مصروفاً ليومٍ كاملٍ للطفل الواحد، لم يعُد له معنى، ولا يمكن شراء شيء به. مثلاً علبة المشروب الغازي أصبحت بدولارين ويزيد، كيس النسكافيه لكوب واحد بدولار، وقطعة البسكويت بدولار، وكيس الشيبس بدولارين، وهذه مجرد أمثلة بسيطة عن عن سعار الأسعار.

أما اللحوم، فصارت أقرب إلى الأمنيات، إذ أصبح يتجاوز سعر الكيلو منها العشرين دولار.

وإذا جاء الحديث عن الملح، فقد وصل سعر الكيلو خمسة عشر دولار في مرحلة من المراحل، والسكر خمس دولارات، والرز خمس دولارات. أما القهوة، فقد وصل سعرها إلى ما يزيد عن الأربعين دولار، وغالباً ما تكون مغشوشة.

أما أسعار الخيام فتتراوح ما بين أربعمئة إلى تسعمئة دولار للخيمة الواحدة، حسب نوعها، الذي ينسب إلى البلاد التي تبرعت بها. 

حين ترى طابوراً فيجب السؤال عن السبب، قد يكون لتسجيل أسماء النازحين للطحين أو الكوبونات أو الخضروات، ومتى انتهى دورك هنا فسوف تستعجل للاستلام من طابور سابق، لتعود لخيمتك مرّة غانماً القليل من المعلّبات والخضروات، ومرّات كثيرة صفر اليدين 

المشهد الرابع

في الأراضي الزراعية المحيطة بمنطقة المواصي من خان يونس، الكثير من أشجار الكينا المعمّرة، وكذلك أشجار الحمضيات والزيتون والنخيل والحمّامات الزراعية، سيتضح فيما بعد حجم الخراب البيئي الذي نتج عن قلع تلك الأشجار بأنواعها، فقد قطّع الناس حطبها وباعوه بالكيلو، بسبب أزمة الوقود وحاجة الناس للحطب لطهي الطعام، معتدين بذلك على حقوق أصحاب الأراضي. ليس هذا فحسب، فقد سُرقت الأنابيب من تلك الأراضي، والنايلون من الحمّامات الزراعية، مجموعات من اللصوص على هامش العدوان نهبوا كل شيء من الأراضي الزراعية.

المشهد الخامس

في ساعة الغروب، تعود العائلات إلى الخيام، تهبط العتمة سريعاً لتمحي المكان وتفاصيله، يصير كتلة صامتة يكسرها ضوء خافت من هناك أو بكاء طفل من هناك، البرد بدوره يشتد، يتحلّق الرجل على أطراف الخيام، يشعلون ناراً، تشترك كل مجموعة في موقد، يكون لهم مصدراً للدفء، ويمكنهم إضافة غلّايات الشاي لعائلاتهم المتكومة في خيامها، ويمكن كذلك تحميص بعض قطع الخبز الزائدة لتكون عشاء اليوم.

تتكون سحابة دخان فوق المخيم، فوقها سحب تنذر بالمطر، تحتها أزقة فارغة إلا من أصوات الانفجارات القريبة بين الفينة والأخرى. 

كيلو الحطب بـ4 دولارات، والبندورة بـ1.5 دولار، والبطاطا والبصل بـ4، والباذنجان بدولارين، و4 قرون فلفل بنصف دولار، ورأس الثوم بدولار، وكيلو اللحمة الذي صار كالأمنية بـ20 دولار

في المنطقة السكنية المحيطة، يسهر الشباب، مستندين على جدران المنازل حول الأعمدة التي توفّرت عليها راوترات الإنترنت ليكونوا على اتصال بالشبكة، يجمعهم الصمت والجمود إلا من حركة الأصابع على شاشة بإضاءة خافتة، وعيونهم فيها تلفّت. يظل الواحد منهم سهرانًا بالقُرب من بائع السجائر الفرط الذي يبيع السيحارة الواحدة بنصف دولار.

يظلون كذلك إلى أن تغيب شبكة الانترنت، فيغيبون بدورهم كلٌّ إلى خيمته.

المشهد السادس

في العيادة القريبة، التابعة للأونوروا، ترى طابوراً من النساء اللواتي جئن ليكشفن عن أطفالهنَّ، جوقة من البكاء والصراخ والأنين، مصابون بالسخونة والقيء والكحة وغيرها من أعراض تتشابه، يصرف لها الطبيب الأدوية ذاتها، ملامح ذابلة على وجوه أهلكها سوء التغذية وغياب الرعاية الصحية.

على هامش اليوم، يمكننا أن نرى مهرج ودبدوب، يلتف حولهما عشرات الأطفال، يغنون "لا تبالي يا غزة، وتحلي بالعزة"، ثم يختار المهرج طفل ليلقي قصيدة أو يغني أغنية، إذا صفق جمهور الأطفال، فيمنحه الدبدوب قطعة بسكويت بالعجوة هدية. هكذا يقضون ساعتين ما بين الأغاني والأشعار والهتافات، يملأ صراخهم سماء المخيم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard