شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يوميات من غزة (1)...

يوميات من غزة (1)... "تلك أختي الصغرى النائمة في مقبرة جماعية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الجمعة 3 نوفمبر 202312:41 م
Read in English:

Memoirs from Gaza.. “That's my younger sister sleeping in a mass grave”

الثالثة فجراً... القصف

كلّ ما في الأمر أنهم كانوا نائمين، وفي الثالثة فجراً، جاءت طائرات الاحتلال الإسرائيلي، وأطبقت عليهم البيت، ثلاث طوابق صارت في لحظة في الأرض.

في لحظة فقدنا كلَّ من في البيت من سكان، البيت الذي يقع وسط المدينة، ستة وعشرون شهيداً جلّهم من النساء والأطفال. كانت أختي شيماء وابنتها مروى وزوجها من ضمن ضحايا القصف الإسرائيلي الوحشي.

السادسة صباحاً

في ظروف صعوبة الاتصال والتواصل، وصلنا الخبر في السادسة صباحاً. ذهبت مع أخي إلى هناك، وقفنا عاجزين أمام الركام الذي يحتاج إلى قوة إلهية كي يزيحه. من النظرة الأولى أدركت أن لا نجاة لأحد، فقد أسقطت الضربة أسقف الطوابق بعضها على بعض. حاول رجال الدفاع المدني البحث بين الركام عن صوت لأحدهم، عن جثامين، عن أمل... لا شيء هناك سوى العجز ورائحة الموت. 

قُصف منزل أختي في الثالثة فجراً، لكن في ظل صعوبة الاتصالات وصلنا الخبر في السادسة صباحاً، وقفنا عاجزين أنا وأخي أمام الركام الذي يحتاج قوة إلهية كي يزيحه 

التاسعة صباحاً

انتظرنا حتى التاسعة صباحاً إلى أن جاءت جرّافة حاولت أن تزيح أو تحرّك الركام، وبعمل حَذِر ودؤوب، أخرجوا خمسة جثامين لأطفال، تم نقلها إلى مشفى ناصر. وواصلت الجرافة العمل إلى أن فقدت القدرة على المواصلة، فالركام يحتاج إلى آلة متخصّصة.

الحادية عشرة صباحاً

الساعة صارت الحادية عشرة صباحاً، الإسعافات ورجال الدفاع المدني في المكان. الكلّ ينتظر "الباقر". طال الانتظار إلى أن وصل. بدأ الباقر في العمل المحترف في إزاحة الأسقف، على امتداد 4 ساعات.

الثالثة عصراً... إلى المقبرة الجماعية

في الثالثة عصراً اكتمل إخراج ستة وعشرين جثماناً، لم ينج أحد. نقلت الإسعافات الجثامين إلى المشفى، هناك تمّ التعرّفُ على الضحايا، وأخذ بياناتهم، وتمّ تكفينُهم وإلقاء نظرة أخيرة، والصلاة في ساحة المشفى عليهم، والتوجّه بشاحنة مكشوفة بهم إلى المقبرة، وتمّ دفنهم في "فستقية"، أي مقبرة جماعية. 

الكل ينتظر "الباقر"، طال الانتظار إلى أن وصل. بدأ الباقر في العمل المحترف في إزاحة الأسقف على امتداد 4 ساعات، تم إخراج 26 جثماناً.

أمي... الجدة التي قُصم ظهرها

كل ما في الأمر أنهم كانوا نائمين، ظلّوا كذلك. أما أمي، التي كانت شيماء آخر من أنجبته، وبعد انقطاع عن الإنجاب، فقد كانت آخر العنقود، والمقرّبة والمدلّلة، والأكثر قرباً لها على مدى واحد وعشرين عاماً، هم عمرها القصير، وكذلك حفيدتها مروى التي لم تكمل عامها الثاني بعد. فقد قصم خبر فقدانها ظهرها، ومع ذلك تراها أقوى من جبل، محتسبة، صابرة، مصلية، مسبحة، تخزّن دموعها لشتاء قادم لا يفرّق أحد بين دموعها والمطر.

أبي.. "باي باي سيدو"

أما أبي، فقد كانت المرة الأولى التي أراه فيها يبكي، في المشفى، حين رأى شيماء وابنتها. بكى، كالأطفال بكى، فلقد كان سهراناً لديها، وتأخر عندهما على غير العادة، وحين كان مغادراً البيت، ظلت حفيدته مروى متعلقة به، وتقول له "باي باي سيدو"، الجملة الذي ظل أبي يكرّرها في المشفى والمقبرة ونحن عائدون. كان في حالة صدمة مروّعة، خشيت أن يفقد عقله، لإدراكي أنه متعلّق بهما، وأنهما سبب رئيسي لحياته المشغولة بهما. 

أنا النازح من قصتي إلى قصص الآخرين

أما أنا، فتركت شيماء قبل أحد عشر عاماً، طفلة في العاشرة، وحين عدت إلى غزة، وجدتها قد تزوجت، ولديها طفلة تشبهها، تشبهها حين كانت في سنها لدرجة لا تصدق، شكلاً وروحاً، وكانت هي المهرجان الذي أبهجنا حين عدت للبلاد. الحياة التي لم تدم طويلاً، ختمناها بيوم طويل على شاطئ البحر، الجمعة التي سبقت "الحرب"، الحرب التي أكلت ما تيسّر من حياة، في بقعة جغرافية صغيرة، محاصرة منذ سبعة عشر عاماً.

حين رأى أبي شيماء وابنتها، بكى كالأطفال  فلقد كان سهراناً لديها، وحين غادر بيتها، ظلّت حفيدته مروى متعلقة به، وتقول له "باي باي سيدو"، الجملة الذي ظل أبي يكررها في المشفى والمقبرة ونحن عائدون

لم أبكِ اختي وابنتها وزوجها بعد، لم تسقط دمعة واحدة، بعد الدفن مباشرة، انشغلت بقصص الناس النازحة من الشمال إلى الجنوب، وكأنني بلا قصة، أنا النازح من قصتي إلى قصص الآخرين.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard