شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سوريا نشيد الموت

سوريا نشيد الموت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الخميس 17 أبريل 202511:06 ص

طالبان جديدان انضمّا إلى صفّي، مطلع هذا الأسبوع؛ الفتاة من قرية قبو العوامية في ريف اللاذقية، والصبي من حي القصور في بانياس. 

"سيرين" حدّثتني عن الدم الذي صبغ شوارع قريتها، وعن رائحته التي لا تزال عالقةً في أنفها، وعن صوت صراخ جيرانها الذي ما زالت تسمعه كل يوم عندما تذهب إلى النوم، برغم انتقالها من القرية. أما "لمك"، فلم يتكلم، لكنّ أمّه أخبرتنا أنّه نجا بأعجوبة. اختنقت بدموعها وهي تشرح كيف سقط من يدها وهي تركض به وبأخيه الأصغر، وأنه كان عليها في لحظة أن تفاضل بينهما، فمجرد عودتها خطوةً لالتقاطه تعني أن تخسر الاثنين. 

تتزاحم كل تلك الصور في رأسي، فيهرب النوم منّي كما في كل ليلة، فأتخيل "سيرين" متكورةً تحت غطائها ومرعوبةً، و"لمك" الصغير يركض هارباً وخائفاً. أكاد أختنق. أفتح النافذة، فتصلني أصوات رصاص من مكان قريب. أغلقها وأعود إلى فيسبوك لأغرق أكثر فأكثر في ظلمته.

اليوم، يمرّ شهر كامل على المأساة التي حلّت بالساحل. شهر كامل على الشعور بالظلم ثقيلاً، وبالفقد وحشاً لا يهدأ، وبالخوف من كل شيء رفيقاً دائماً. شهر كامل غابت فيه أصوات من رحلوا ومن بقوا على حد سواء، وبقي صوت الموت قوياً وحاداً.

كيف سيكون من حرّرنا ظالماً وقاتلاً؟!

صرت بعد مجازر الساحل مصابةً بهوس قراءة التعليقات، كمحاولة أخيرة للرؤية من كل الزوايا، أو ربما كمحاولة عبثية للفهم، فلا شيء إلا فهم الآخرين سيبقيك، اليوم، بهامش بسيط من التوازن لتتابع حياتك. 

كانت شخصاً حقيقياً، لم تكن حساباً وهمياً، ولا ذباباً إلكترونياً، فصورتها الشخصية تتوسط طفلتيها اللتين تتطبعان قبلةً كبيرةً على خدّيها، تثبت ذلك. أجل، هي سيدة عادية، ربما تحبّ اللون الأخضر أكثر من الأحمر. لكنها بالتأكيد، عندما فتحت حسابها الشخصي على فيسبوك، ذاك الصباح، ورأت صورة مانيسا الطفلة ذات الأعوام الثلاثة وعائلتها المقتولة، كتبت بكل بساطة: "حاج كذب وين الدم مو مبين". 

أجل، هي سيدة عادية، ربما تحبّ اللون الأخضر أكثر من الأحمر. لكنها بالتأكيد، عندما فتحت حسابها الشخصي على فيسبوك، ذاك الصباح، ورأت صورة مانيسا الطفلة ذات الأعوام الثلاثة وعائلتها المقتولة، كتبت بكل بساطة: "حاج كذب وين الدم مو مبين"

أما أنا، فقبل لحظات فقط من قراءة تعليقها، كنت أدقّق في عينَي "مانيسا"، وأفكر في حجم الأسى الذي يأكل قلب عمّها وهو يقلب صورها الجميلة، ليختار صورةً تناسب الموت الذي سرقها مع عائلته التي لم يبقَّ منها سواه. 

دون تفكيرٍ، أخذت لقطة شاشة، ورددت على تعليقها بالصورة، فردّت بأضحكني، تبعها تعليق من أحدهم: "وين كنتوا لما الأسد كان يعمل مجازر فينا". 

شعرت بأن جسدي ليس أكثر من قطعة لحم مرمية في شارع مزدحم، وأنّ المارّين جميعاً يتجاهلون صراخي، ويدوسونني ويتابعون السير نحو أعمالهم، مؤكدين أنّ العالم لن يتوقف عند طفلة صغيرة قُتلت مع عائلتها بدم بارد، وأنّ هذا الموت ليس الموت الأوّل ولن يكون الأخير.

الآن أنا متأكدة أكثر من أي وقت مضى، من أنك عندما تعجز عن إطلاق رصاصتك على الظلم، ستطلقها في النهاية على المظلومين. وعندما تعجز عن ردّ الخوف ستفضّل ألا تكون خائفاً، فحسب.

وقع الكثير من السوريين اليوم في الحفرة التي سبقها إليهم سوريون آخرون في الأمس. تراهم يفضّلون الاختباء من الحقيقة، خوفاً من انهيار عالمهم وسقوطه أمام عشرات الأسئلة التي سيعجزون عن إيجاد إجابات لها، وعليه يكذبون، ويبررون، ويخلطون الحابل بالنابل، دفاعاً عن السلطة، لتضيع الحقيقة في النهاية بين كومة من المغالطات المنطقية والمخاوف الذاتية والانتماءات الفردية والأفكار الملقّنة للشعب عن نفسه.

قد يكون العجز الذي نشعر به اليوم جميعاً تجاه كل ما حصل ويحصل، مع الغياب الكامل لأي شكل من أشكال العدالة، هو ما يثمر هذه اللغة المتطرفة المنحازة لألم دون آخر، والأشخاص العاجزين عن سماع أي قصة أخرى غير قصتهم. 

وقع الكثير من السوريين اليوم في الحفرة التي سبقها إليهم سوريون آخرون في الأمس. تراهم يفضّلون الاختباء من الحقيقة، خوفاً من انهيار عالمهم وسقوطه أمام عشرات الأسئلة التي سيعجزون عن إيجاد إجابات لها، وعليه يكذبون، ويبررون، ويخلطون الحابل بالنابل، دفاعاً عن السلطة

 أنا سوريّة… فهل هذا يكفي؟

يجمّدني الحزن وأنا أرى الكم الهائل من الأكاذيب، وأقرأ كل تلك الروايات المحرّضة على أهل الساحل. أدرك جيداً أنّ الهدف لا يتعدى بناء غطاء شعبي للجرائم، ليصير موتنا اليومي حدثاً عادياً وبسيطاً ومكرراً، ومجرد تداوله يجعلنا الفئة التي لا تتوقف عن إثارة المشكلات وتهديد حالة العصافير والشمس الساطعة التي تعيشها البلاد.

أتساءل وأنا أشاهد مقاطع فيديو الذبح والتعذيب ومناغشة الموت وملاعبته التي غزت العالم. ما الذي يمنع أن يرى السوريون ضحايا اليوم امتداداً لضحايا الأمس، فنعفي أنفسنا من كل هذا الارتباك في تحديد الظالم والمظلوم، ومن كل تلك الصراعات التي نفقد بها سوريّتنا ونعود إلى انتماءاتنا القبلية والبدائية؟ 

ما الذي يمنع محاسبةً علنيةً وحاسمةً لكل المجرمين، إن كانت ستعني درء خطر الموت اليومي والانتقام عن جماعة كاملة؟

"عندما يقتلونك كعلوي… دافع عن نفسك كعلوي"

منذ يوم 7/3/ 2025 وبعد أن تحوّلت صفحتي على فيسبوك إلى مأتم جماعي، وإلى نداءات استغاثة ورسائل أخيرة، بدأت أشعر بأنني مجرد شيء، لا قيمة له. حق الإنسان في الحياة هو ما يمنحه الكثير من شعوره بإنسانيته، وهذا الحق فقده كل العلويين بعد أن صاروا أهدافاً يسهل قتلهم والتنكيل بهم وتعذيبهم والتلذذ بذلك، بحكم انتمائهم الديني. 

أشعر بأنني أذوب شيئاً فشيئاً، فما جاهدت طويلاً في سبيل تحقيقه، وما كافحت كثيراً من أجله، في بلد كان مجرد الخروج فيه من المنزل يعني رحلةً طويلةً من الذلّ والخيبة، أفقده بين حملات الاعتذار وحملات من حقّ العلوي في العيش بقبره بسلام مع "إيموجي" ضاحك، ومن حق العلوي العيش في قلوبنا. 

نحن اليوم لم نعد بشراً، ولم نعد مواطنين، نحن علويون فحسب، فالقتلة ليسوا مهتمّين بمعرفة تاريخنا الشخصي، ولا تعنيهم صراعاتنا ومعاناتنا ورحلة كفاحنا. هم مهتمون بجعل جثثنا طريقهم إلى الجنة فحسب، على حدّ تعبيرهم. كل علويّ صار مشروعاً لخطأ فردي، وحدوده أن يبقى ممتناً لأنّه لم يُقتل.

في كل النقاشات مع أصدقائي، أراهم مهتمين بالتأكيد على كون بشار علوياً، وأعتقد أن المشكلة بدأت من هنا، من القول إنّ بشار الأسد رئيس علوي وحاكم علوي ومجرم علوي. لو رأيناه مجرماً دون أي انتماء، ورأينا كل المجرمين كذلك، لكان برّ الأمان إلينا أقرب. حنة آرنت أصرّت دائماً على أن تعرّف عن أيخمان، كشخص قاتل وبلا ضمير وتافهه ومجرم ومن دون مشاعر وليس قاتلاً مؤمناً بعقيدة. هو قاتل لأنه قاتل، وبشار مجرم لأنه مجرم، وليس لأنه علوي. 

أشعر بأنني أذوب شيئاً فشيئاً، فما جاهدت طويلاً في سبيل تحقيقه، وما كافحت كثيراً من أجله، في بلد كان مجرد الخروج فيه من المنزل يعني رحلةً طويلةً من الذلّ والخيبة، أفقده بين حملات الاعتذار وحملات "من حقّ العلوي في العيش بقبره بسلام" مع "إيموجي" ضاحك

 فبعيداً عن المقاتلين الذين لهم عقيدتهم الخاصة، الكثير من السوريين صاروا بسبب تلك الأفكار التي جرّمتنا كطائفة كاملة يعطون لأنفسهم الحق في مصادرة أحلامنا وصوتنا وحتى شهاداتنا العلمية، ويجعلون منّا مواطنين من الدرجة الثانية، لا يحق لهم حتى الاعتراض على موتهم أو تسريحهم أو إقصائهم.

قد يكون من المستحيل أن أفكر في يوم قريب قد أتجرأ فيه على زيارة العاصمة، التي صار فيها التظاهر تحت شعار "... أم العلوية"، مشهداً يومياً وعادياً حاضراً على مرأى ومسمع من السلطة. أليس هذا تقسيماً معنوياً؟ ما معنى بلد موحد وشعبه مقسم وخائف من بعضه؟ وما معنى بلد يكون فيه تحويل حرقة القلوب وغصة الأمهات ويُتم الأطفال إلى نكتة، أمراً عادياً، يجدد نفسه من تلقاء نفسه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image