أكتب مستلقياً على جذع شجرة في إحدى حدائق العاصمة التشيكية براغ. درجة الحرارة 3 تحت الصفر. على الرغم من أنني أشعر بكبدي وهو يشارف على الاستواء، إلا أنّ هذه النار لا تساعدني على الدفء! كل شيء يوحي بالصقيع ويُنبئ بالمذبحة! كان قلبي يرتخي ببطء شديد ثم ينقبض بسرعة هائلة. كالعادة يدي اليسرى أول المتفاعلين؛ تخدّرت وانضمّ إليها جسدي كله.
أستخدمُ الآلة الحاسبة لطرح 1992 من 2025، لأعرف كم بلغت من العمر؛ هل أصبحت في سنٍّ قد أتعرض فيها لاحتشاء عضلة قلبية؟ كان ناتج الطرح هو 33، لكنني أملك عزماً يوحي بأنني في الخامسة والعشرين، ما دفعني إلى التأكد من تاريخ اليوم لحساب عمري؛ فربما أبدو صغيراً على الجلطات والأزمات القلبية. كان التاريخ يُشير إلى الثامن من آذار/ مارس! قبل أن أحسب عمري بدقة، رنّ الموبايل وانقطعت أفكاري، ثم سرَت سبلة نارية من جبيني امتدت إلى رقبتي ثم إلى أسفل ظهري. أجبت. كان صوتُ أختي خافتاً وكانت تجهدُ للنطق. سألتها: هل قُتل أحد آخر (كان قد وصل خبر مقتل ابن خالتي قبل يوم)؟ فانهارت بالبكاء. طلبتُ منها عدم إخباري والانتظار دقيقة لأحضّر نفسي لتلقّي الخبر، تنفّست بعمق وقبضتُ أحشائي، ثم نطقت أختي بأسماء أبناء خالي، ومعهم معظم شباب القرية ورجالها إلا من استطاع الهروب إلى الأحراش، ومصيرهم غير معروف بعد. انهارت بالبكاء وقطعت الاتصال.
هذه المرة لم تتركني أخبار البلاد وشائعاتها حائراً فترةً طويلةً للتأكد من صحّتها، فأنا أملك شبكة إنترنت سريعة، وأستطيع بنقرة واحدة فتح المقالات ومشاهدة الفيديوهات والصور بجودة عالية
هذه المرة لم تتركني أخبار البلاد وشائعاتها حائراً فترةً طويلةً للتأكد من صحّتها، فأنا أملك شبكة إنترنت سريعة، وأستطيع بنقرة واحدة فتح المقالات ومشاهدة الفيديوهات والصور بجودة عالية، على عكس المجازر التي حصلت من قبل في البيضا في ريف بانياس وريف اللاذقية الشمالي والغوطة الشرقية وعدرا العمالية وغيرها خلال سنوات الحرب، عندما كانت شبكة الانترنت سيئةً، والتأكد من المعلومة مهمّةً صعبةً. فضلاً عن غزارة الفيديوهات هذه المرّة، ونشرها في وقت واحد على مرأى العالم، كأنّ القَتَلة يستريحون معاً بعد المجزرة! لينشروا ما وثّقوه، ثم يعودوا إلى اجتياح قرية جديدة أو حيّ جديد. أجزم أنّي لم أرَ زخماً ووضوحاً في محتوى دموي كَزخم محتوى مجزرة الساحل السوري، ودون قيود، كأنّ موظفي شركة "ميتا" غلبهم النعاس، ولم ينتبهوا إلى خرق المنشورات معاييرها!
لأول مرة ومنذ أربعة عشر عاماً، تحدث كارثة إنسانية في مدينتي ولا يضجّ هاتفي بالرسائل. كان الجميع تحت تهديد القتل! مع ضعف شبكة الإنترنت والاتصالات الخليوية في سوريا، كان فيسبوك وسيلتي الوحيدة لأطمئن بسرعة على أكبر عدد ممكن. أعدت تنزيل البرنامج بعد أن كنت قد حذفته ليقين قديم بأنّ الفيسبوك في سوريا، ضغط إضافي غير لازم. أول منشور قرأته كان لصديق عمري في مدينة جبلة، يقول فيه: "يا عالم يا إخواتنا ورفقاتنا… يا ناس ساعدوا حي العمارة… اعملوا أي شي… احكوا مع أي حدا". تجمّدت وأنا أعيد قراءة المنشور حتى بدت كلماته تتلاشى أمامي مع قراءة اسم صديق آخر في خبر يفيد بأنه خُطِف (قُتِل لاحقاً). تراكم الدمع في عينيّ وانهمر دفعةً واحدةً مع متابعة البحث عن منشورات لضحايا جدد. الوجوه التي حفر هواء المتوسط تقاسيمها، انطفأت. البعض كان يثبت أنه لا يزال على قيد الحياة باستمراره في النشر: "أنقذونا، أنقذونا"، وكأنها الوسيلة الأخيرة للنجاة، بينما اكتفى البعض الآخر بـ"سامحونا، لقد وصلوا".
لأول مرة ومنذ أربعة عشر عاماً، تحدث كارثة إنسانية في مدينتي ولا يضجّ هاتفي بالرسائل. كان الجميع تحت تهديد القتل!
في هذه الأثناء، كانت فيديوهات القَتَلة تغزو الصفحات، والجثامين متراكمة كأنّ وباءً حقيقياً يجتاح المنطقة، وقد يكون أيّ إنسان عرفته في حياتك أحد الضحايا وهذا كله يعتمد على درجة دموية ومزاجية عناصر الرتل الذي اجتاح القرية.
في كل المكالمات التي أجريتها مؤخراً، للاطمئنان على الأصدقاء في الساحل، كان الجميع يبحث عن تفسير لما يحدث. منهم من كان يصمت فجأةً، كأنّ الجدران ستبتلعه إن تحرّك. يتقصّى مصدر أيّ صوت يعبر النافذة قد يوحي بفاجعة وشيكة. كنت أرى العيون تحاول التمسك بشيء آمن، لكنها لم تجد سوى الفراغ. الانفصال كان الطاغي. كأنّ الجميع قد خرج من جسده، ليتابع المشهد من بعيد، غير قادر على استيعاب ما يحصل. كأنّ العقول رفضت التصديق، فأغلقت نفسها، وتركت الأجساد تتصرف بشكل آلي. رأيت نظرات تبحث عن إجابات لا أحد يملكها، رأيت خوفاً خاماً، غير معالج.
هول اللحظة جعل الجميع يُطالب بـ"حماية دولية" دون فهم خطورة المطلب، ودون تحديد أي دولة ونوع الحماية، كتلك التي خرجت من الغوطة وحمص سابقاً. البعض لا يزال حتى اللحظة ينام في الجبال ويرى في مواجهة الضباع سبيلاً ممكناً للنجاة. آخرون عبروا الحدود إلى لبنان بلا أوراقهم الثبوتية. البعض الآخر قصد قاعدة حميميم الروسية دون معرفة ما ينتظره، بيد أنّي على يقين تام بأنّ من يقصف طفلاً في إدلب لن يحمي آخر في اللاذقية إلا بما تمليه عليه مصالحه.
عمدت صديقتي إلى حفظ جمل محددة مثل "أرجوك لا تطلق النار"، و"لا تقتلني، أنا مسلمة"، بلغات الإيغور والشيشان، بعد انتشار مقاطع فيديو لمقاتلين آسيويين فضلاً عن بعض الجنسيات العربية، وهم يقتحمون المنازل. يُطلق هؤلاء على أنفسهم اسم "المهاجرين" إلى "أرض الرباط"، برغم أنّ الفيديوهات المنتشرة توضح أنّ معظمهم تعلّموا اللغة العربية بمستويات متفاوتة، إلا أنّ صديقتي تتمسك بما تسمّيه "الأمل الأخير" في أن يتراجع المقاتلون عن إعدامها في حال سمعوا كلمات بلغتهم الأمّ، إذ لم يجدِ نفعاً نطق الشهادتين وإفصاح الكثير من الضحايا بأنهم صائمون علّه يذكّر القَتَلة بوصايا الإسلام.
أَشهدُ أنّي قُتِلتُ مع كل طفلٍ اخترق الرصاص جسده الغَضّ، واحترقت مع كل زرعٍ تخرّب، وأُهِنتُ مع كل رجل طُلِبَ منه التشبه بالحيوانات قبل أن يُعدَم، وركعت مع كل شيخ قبل أن يُلقى جثمانه على طرف طريق.
أَشهدُ أنّي قُتِلتُ مع كل طفلٍ اخترق الرصاص جسده الغَضّ، واحترقت مع كل زرعٍ تخرّب، وأُهِنتُ مع كل رجل طُلِبَ منه التشبه بالحيوانات قبل أن يُعدَم، وركعت مع كل شيخ قبل أن يُلقى جثمانه على طرف طريق
أشهد أنّ كلمات القتلة حفرت في وجداني أبدَ الدهر. قتلتني عبارات المسلحين الأجانب مرّةً والسوريين ألف مرّة، إذ كنت منذ اللحظة الأولى من عمر الأحداث وخلال أربعة عشر عاماً، أعمل وأكتب وأحاور وأتوسّل كي لا يقع هذا المحظور. أذكر تماماً عندما وقفتُ برفقة أبناء ساحة الشيخ ضاهر، في اللاذقية عام 2011، رافعين أيدينا محاولين التهدئة، حتى بُحّت أصواتنا، ومع بدء الشتائم الطائفية انسحبنا كلّاً إلى منزله، ومن يومها ساد منطق العنف في البلاد، وبدأ شلال الدم الذي جرف الجميع ووصل بي إلى خسارة معظم من عشت وتربيت معهم بين قتيل وجريح ومعتقل ولاجئ.
أشهدُ أن الساحل غرق بدماء أبنائه، وأنّ صراخ الأطفال ظلّ معلقاً في الهواء يطرق أبواب السماء، وأنّ وجوه الأمّهات حملت ألف معنى للخوف والعجز، والقرى التي كانت تنبض بالحياة أصبحت مجرد أطلال، وأنّ البيوت التي حملت الذكريات باتت خراباً، وأنّ الصمت الذي تلا المجزرة كان أشدّ وطأةً من الضجيج، وأنّ العيون الفارغة من الحياة أصبحت شواهد حيّةً على فظاعة ما حدث.
أشهد أنني لن أنسى كل كلمة ساهمت في قتل بريء، مدنياً كان أم عسكرياً، وأنّ الأرض لم تغفر الظلم يوماً، ولن تغفر هذه المرة أيضاً، وهذه الكتب المقدسة وتجارب الشعوب لمن يعتبر. وأشهد أنّ الظلام الذي خيّم على الساحل السوري سيظل شاهداً على همجية ستُحكى للأجيال مهما تغيرت الأنظمة وتبدّلت الأسماء وتلوّنت الجلود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أمين شعباني -
منذ يومهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...
Rebecca Douglas -
منذ يومنحن أنصار الإمام المهدي عبد الله هاشم أبا الصادق(ع) ناس سلميين ندعو للسلام والمحبة وليس لنا علاقة...
Baneen Baneen -
منذ يومنقول لكم نحن لا نؤذيكم بشيء وان كنا مزعجين لهذه الدرجة، قوموا باعطائنا ارض لنعيش فيهاا وعيشوا...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا اتفق بتاااتا مع المقال لعدم انصافه اتجاه ا المراه العربية و تم اظهارها بصورة ظلم لها...
mahmoud fahmy -
منذ 5 أياممادة قوية، والأسلوب ممتاز
Apple User -
منذ أسبوعهل هناك مواقف كهذه لعلي بن ابي طالب ؟