شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
 في رأسي بحر كبير... وصورة جماعية للسوريين

 في رأسي بحر كبير... وصورة جماعية للسوريين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 16 أبريل 202511:31 ص

بعض الذكريات لها ملمس الماء! أظنّ أن هذا التعبير يكفي لو طُلب منّي وصف البحر. هكذا أتذكره على الأقلّ. يأتي هذا المشهد في صورة من ذاكرتي البعيدة، قبل الحرب السورية بقليل، من عام 2010 تحديداً. كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها الساحل السوري، وقد اكتشفت حينها أشياء عدة، أولها أنّ الأسماك كما البحار... لا تصعد إلى الأعلى. 

لم ليس لدينا بحر؟ 

تربطني بالمياه علاقة قديمة، ظهرت خلال تتبّعي لها منذ طفولتي. أردتُ اكتشاف هذا الشيء الذي لا يمكن إمساكه، عكس كل ما حولي في الريف الذي أعيش فيه، حيث الأشياء كلها مادية وصلبة. وحدها المياه بدت عكس ذلك، بينما تتسرب من أصابعي كلما حاولت التقاطها. دائماً ما كانت تسقط لتتجمّع في مخيلتي.

سألتُ أُستاذي مرّةً: "لم ليس لدينا بحر في القرية؟"، فأجاب بأنّ منطقتنا مرتفعة، وسفوحها تجعل مياه الأمطار تسيل بعيداً. أعترفُ مسبقاً، بأنني صنعتُ في خيالي بحراً كبيراً، معانداً من قال إنّ البحار لا تأتي إلى الجبال... لقد كان البحر طوال الوقت في رأسي.

سألتُ أُستاذي مرّةً: "لم ليس لدينا بحر في القرية؟"، فأجاب بأنّ منطقتنا مرتفعة، وسفوحها تجعل مياه الأمطار تسيل بعيداً. أعترفُ مسبقاً، بأنني صنعتُ في خيالي بحراً كبيراً، معانداً من قال إنّ البحار لا تأتي إلى الجبال... لقد كان البحر طوال الوقت في رأسي

نزولاً نحو الساحل

انطلقت حافلتنا من السويداء، مروراً بدمشق وحمص، وصولاً إلى الساحل. منحتني تلك الحافلة فرصتي الأولى لأرى البلد خارج نطاق قريتي، وكان وصولنا مصحوباً بسلسلة من المشاهد المتلاحقة، في شريط بانورامي بصري امتدّ من أول منزلنا إلى آخر البحر.

قد يبدو مشهد الهبوط من أيّ قمة سريعاً، كتدحرج كرةٍ من أعلى الجبل. لكن حينما تكون الكرة حاملةً في داخلها طفلاً، تصبح كل الأشياء أبطأ، وتسبقها حماسة تترقّب الوصول ليفلت قدميه للشاطئ. 

حملَ الباص وجوهنا وحقائبنا وهواء بلدتي البارد، وعند كل استراحة، كنا نستبدل بعضاً من هوائنا برياح المنطقة التي نعبرها. هكذا بدأ اختلاطنا مع الأماكن؛ استمرّت الحافلة في السير بينما كنت أحاول الوقوف على أصابع قدمَيّ لأصل إلى الشباك، وأتتبع أيّ خط أزرق يشير إلى اقتراب وصولنا، سائلاً كل من حولي بنزقٍ متكرر: "مطوّلين؟".

إلى اليوم، وكلما تذكرت ذاك الصيف، سال الموج من ذاكرتي. البحر هو أحد ذكرياتي التي أحبّها، والتي ما زالتْ حيّةً في داخلي بشكلها ورائحتها وملمسها، وكلما استحضرتها شعرتُ بطعم الملوحة في حلقي.

انطلقت حافلتنا من السويداء، مروراً بدمشق وحمص، وصولاً إلى الساحل. منحتني تلك الحافلة فرصتي الأولى لأرى البلد خارج نطاق قريتي، وكان وصولنا مصحوباً بسلسلة من المشاهد المتلاحقة، في شريط بانورامي بصري امتدّ من أول منزلنا إلى آخر البحر


الأماكن التي تعرفنا

طرطوس كانت وجهتنا الأولى، أذكر جيداً ذهولي بالمكان؛ زرقة بحره واتساعه، وتأمل طفل عاش في المرتفعات يرى الشاطئ لأول مرة، وكأنّ المياه خرجت من رأسه للتو، وأصبحت قابلةً للّمس.

استطعتُ بناء علاقة سريعة مع المكان، فطرطوس لا تشبه المدن المعتادة، بل يتخللها خَضار ريفي يشبه خضار قريتي التي جئت منها. بدا الساحل امتزاجاً نادر لثلاثة أمكنة أُطبقت فوق بعضها؛ مدينة وقرية وبحر جاء من الجبال. هنا ظهرت علاقة قربي الأولى بالساحل السوري. كانت الأشجار صلة وصلي مع الأماكن الجديدة، حيث خيّل إليّ أنّ المدن لا تعرف أصحابها كما الأرياف. 

المسافة بين طرطوس واللاذقية كانت أقرب مما توقعت. لم ألحظ فروقاً كثيرةً بينهما سوى أن ساحل طرطوس يحوي أصدافاً ملوّنةً، بينما ساحل اللاذقية تكثر فيه الحصى الملساء، وكلاهما يتشاركان بحراً واحداً.

من الجيد أنّ البحار لا تسمح لنا بوضع حدود جغرافية فوقها، وهذا الأمر الثاني الذي تعلمته من رحلتي؛ البحار عكس البلاد... لا يمكن اقتطاعها. 

من الجيد أنّ البحار لا تسمح لنا بوضع حدود جغرافية فوقها، وهذا الأمر الثاني الذي تعلمته من رحلتي؛ البحار عكس البلاد... لا يمكن اقتطاعها. 

يقال إنّ الأماكن تشبه ساكنيها. مع الوقت، يتشرّب الناس طبيعة أرضهم ليستطيعوا العيش معها لا عليها، وبالطريقة نفسها فرضَ الساحل علاقته معنا، وكأنّه ألفنا قبل أن نألفه. 

لم يمرّ وقت طوبل حتى شعرتُ بانتمائي إلى المكان، وهذا لا يحصل كثيراً مع طفل حذر، تَشبّه البحر بذاكرتي وشجر قريتي ليمنحني صورةً أعرفها؛ هكذا وجدَ المكان ما يربطه بكل السوريين الذين جاؤوه من كل الأماكن، وخالط لهجاتهم المختلفة وأجسادهم دون أن يتلامسوا حتى!

ثلاثة أيام كانت كافيةً لأحبّ مدينةً جديدةً، تتّسع لقدمين تركضان في كل الاتجاهات، ويدين تحاولان امساك البحر طوال الوقت. 

البحر... ملحُ البلاد الأوّل 

لم أكن أعرف أن تلك الرحلة ستكون آخر زيارة لي إلى الساحل، فالحرب السريعة قطعت كل طرقاتنا، وكبرتُ في قريتي التي لا بحر فيها. كثيراً ما دعاني أصدقائي لاحقاً لزيارتهم في الساحل، وبينما انتظرتُ الظرف المناسب، سافر أصدقائي إلى خارج البلاد كلها، سقط نظام الأسد، وبقيت الحرب تدور حول نفسها.

ما حدث في الساحل السوري مؤخراً، استحضر ذاكرتي بصورة قاسية، ووضعها أمامي مثل اعتراف، إذ كيف يمكن لأكثر الأماكن بساطةً أن تتوحش إلى هذا الحدّ! ألمي لها لم يكن مجرد استعطاف، بل ذنب تجاه هذه البلاد التي لا ترتاح منّا. أدركتُ أنّ الأماكن التي نألفها تتصل بنا طوال الوقت، وهذا ثالث ما علّمني إياه البحر؛ أن البلاد التي تُحبنا... تؤلمنا أيضاً، حتى وإن كانت تبعد عنّا مسافة 15 عاماً. 

حقيقةً، لم يختلف يوماً ألمي تجاه أي منطقة متضررة من شمال البلد حتى جنوبه، إلا أنّ الساحل كان آخر ذاكرة حيّة امتلكتها من سوريا القديمة؛ جمعتني مع السوريين في صورة يصعب وصفها، اختصرت لي لقاءً كثيفاً في مكان واحد اتّسع للجميع، للبسطاء والأرستقراطيين، للفتيات والجدّات، للأطفال وللشيوخ، وللمايوهات القصيرة والجلابيات المنكمشة.

حقيقةً، لم يختلف يوماً ألمي تجاه أي منطقة متضررة من شمال البلد حتى جنوبه، إلا أنّ الساحل كان آخر ذاكرة حيّة امتلكتها من سوريا القديمة؛ جمعتني مع السوريين في صورة يصعب وصفها، اختصرت لي لقاءً كثيفاً في مكان واحد اتّسع للجميع

في الساحل، يصعب التقاط صورة شخصية وحدك، في كل محاولاتي، ظهر الآخرون في صوري بل في أكثرها خصوصيةً، منهم من بان من غير قصد، ومنهم من لاحظ الكاميرا وشاركني اللقطة بابتسامة ما زالت محفوظةً في ألبوم صورنا العائلية.

أعترفُ شخصياً، بأنّ أماكننا تحتاج منا اعتذاراً عميقاً، وأنّ العدالة غائبة طالما يملكها البشر أحباب السلاح، وحتى الأماكن يمكن أن تعاقَب، لأنّ شخصاً قتل إنساناً داخله قبل أن يوجه سلاحه نحو الآخر، ولو نسينا كيف نكون بشراً عادلين، علينا فقط أن نتشبّه بأماكننا التي جمعتنا كلنا قبل أن نتقاسمها في صحون جوعنا الكثيرة.  

هناك، في آخر اليوم، يخرج السوريون من بللٍ مشترك، بثياب ثقيلة وأكتاف ساخنة ورمال ملتصقة بالأقدام، يحملون أحجاراً ملوّنةً ووجوه بعضهم المخزّنة في كاميراتهم ويعودون غلى منازلهم. هؤلاء هم السوريون الذين أعرفهم جيداً، الذين يجمعهم ملح أرضهم وخبزها وماء بحرها.

هؤلاء من علّموني كيف أنّ البلاد تصبح كافيةً عندما نتقاسم ملحها، وأحنّ عندما نحضن أمهاتها، وتصير أكثر اتساعاً لو تشاركنا ابتسامةً جماعيةً في صورة عائلية أخرى.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image