يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
في "الاتحادية"، تفاجأ أمين القصر الجمهوري المصري، بخطاب "بينك"، ضمن مجموعة الخطابات التي تصله يومياً، وعادةً تكون مقتصرةً على المخاطبات الرسمية والشكاوى والاستغاثات.
وسط الخطابات المعتادة، لفت المسؤول الرئاسي ذلك الخطاب ذو اللون المختلف المُزيّن بـ"ستيكر بطوط" في جوانبه الأربعة. أما عن الظرف نفسه، فقد كُتب عليه بخطّ طفولي شديد الارتعاش: "إلى جدّو عبد الفتاح".
استحوذ الخطاب على الرجل، فانصرف عمّن حوله وأسرع به إلى أقرب مقعد، وقصَّ أحد جانبيه بحرص لتخرج منه ورقتان منتزعتان، على ما يبدو، من كرّاسة ذات سطور واسعة.
كُتبت على وجهَي الورقة رسالة مطوّلة بخطٍّ متعرج يدلَّ على أنّ صاحبه لا يزال يخطو خطواته الأولى في دنيا الكتابة؛ فهو إما طفل أو طفلة في بداية المراحل الابتدائية على أقصى تقدير.
وكان نصّ الرسالة ما يلي:
"إلى جدّو عبد الفتاح…
أنا عبير سعيد الأمير، وتستطيع أن تناديني "بيرو" كما تفعل أمّي وصديقاتي. أما أنا فسأناديك "جدّو" لأنّك تشبه كثيراً جدّو سعيد، والد بابا.
أنا طالبة في "غرايد 2" في مدرسة الشهيد محمد مصباح الابتدائية المشتركة.
أكتب إليك لأشكو إليك ماما وبابا، بسبب تعدّد تصرفاتهما التي تغضبني بشدّة في الآونة الأخيرة.
قبل 3 سنوات، زار المحافظ مدرستي الجميلة، التي لم أعد أدرس فيها للأسف، كما سأوضح لاحقاً. وبعدما قضينا الصباح في الاحتفاء بالمحافظ والغناء أمامه، شكوت له زميلي عمرو الذي خطف منّي "اللانش بوكس". عندها، ضحك المحافظ كثيراً وقال لي: "هذه مشكلة عويصة لن يستطيع حلّها إلا الرئيس السيسي، عليكِ بالكتابة إليه".
لا أنكر، أصبحتُ غاضبةً جداً من ماما ومن بابا. لم نعد نأكل معاً، ولم أعد أرى أمّي إلا ليلاً، أما أبي فلم أجلس معه إلا مرة في الأسبوع. كل شيء تغيّر، باتت طباعهما أكثر حِدّةً؛ لا يكفّان عن الشجار، يغيبان عنّي كثيراً، ولم يعودا يلعبان معي. لماذا يفعل البنزين كل هذا يا جدّو؟
تراجعتُ عن الكتابة إليك وقتها، لأنّ عمرو صالحني وأعاد لي "اللانش بوكس" مع "مصّاصة" بالنكهة التي أحبّها. لكنّني الآن مصمّمة على أن أكتب إليك لأشكو ما يفعله معي بابا وماما مؤخراً.
بابا تغيّر كثيراً
البداية مع بابا. تخيّل أنني لم أعد أراه!
في الماضي القريب، كان يعمل "شيفتاً" واحداً في شركة هندسية، ويعود بعده ليقضي بقية اليوم معي. كنّا نخرج كثيراً ونشتري الألعاب، أي لعبة أريدها. ذات مرّة، وفي يومٍ واحد، اشترى لي ثلاثة دباديب لشخصية "سونيك" التي أحبّها وأشاهد أفلامها كثيراً، ومن وقتها لم أعد أنام إلا وهي في حضني.
منذ عامين، تغيّر كل شيء. أصبح بابا غائباً دائماً وحين يعود يكون مرهقاً، وعادةً ما أكون نائمةً لكنّني أشعر به وهو يتسلّل إلى غرفتي ليقبّل رأسي. ذات مرة أحسستُ ببللٍ يندّي وجنتَي. لا أعتقد أنه كان بكاء. قلت لنفسي وقتها: "أكيد دا عرق، بابا مش بيعيط"... صح يا جدّو عبد الفتاح؟
في الأيام التي أُصرُّ فيها على السهر حتّى أراه، يتحامل على نفسه حتّى يجلس معي. أسأله عن غيابه الطويل، فيخبرني بأنه اضطر إلى العمل في مكانٍ آخر بعد عمله الأصلي. أعترض على ذلك وأطلب منه العودة كما كان، فيجيبني: "يا ريت، بس مش هينفع".
حينما أصررتُ عليه للّعب معي، كما كان يفعل سابقاً، افترش الأرض بصحبة دباديبي ورحنا نلعب معاً؛ نتعارك ونغيّر أصواتنا ونصطنع حرباً عالميةً تدور بيننا. لم نستمرّ طويلاً للأسف لأنه نام على الأرض.
هذه المرة، قبّلته أنا وفرشت الملاءة فوقه حتى أتت ماما وأيقظته وقادته إلى غرفة نومهما حيث ارتمى على فراشه وغاب في نومه العميق.
لم يكن مجهَداً هكذا من قبل. كان يخصص وقتاً أطول للّعب معي… هل يرضيك هذا يا جدّو عبد الفتاح؟
لا أفهم ما يحدث. باستمرار أسمع بابا وهو يقول لماما عبارات غريبة: "لازم نلمّ إيدينا شويّة" و"الأسعار بقت نار". لم أفهمها أبداً.
ما علاقة النار بالأسعار؟!
أنا أستطيع ضمّ يدي بسهولة. هل يُمكن أن يُساعد ذلك أبي؟
وحتّى أشهر قليلة، كان يمنحني 10 جنيهات مصروفاً يومياً لأشتري بها الحلوى بجانب الطعام والعصير الذي كانت تقدّمه لي ماما في"اللانش بوكس". هذا المصروف توقّف أيضاً فجأةً، وحين سألتُ أبي عن السبب، أومأ برأسه إلى أسفل، وقال دون النظر في عينيّ: "معلش، فترة وتعدّي".
حتّى "اللانش بوكس" لم يعد كما كان. كنت آخذ "2 ساندوتش فراخ" معي يومياً في المدرسة، أصبحت أجد بدلاً منهما "2 ساندوتش جبن أبيض"، لكنّني لا أحب الجبن!
حينما أبلغت بابا باعتراضي على ذلك، عاد للنظر إلى أسفل، ثم احتضنني وقال: "متزعليش"، لكنّني زعلانة يا جدّو!
ماما كمان…
أما ماما، فقد أخبرتني بأنني لن أستطيع الذهاب إلى دروس الموسيقى والرسم، أو تمرين السباحة مرةً ثانية… تخيّل يا جدّو؟ حتّى درس اللغة الإنكليزية، وحتّى "مس سارة" التي أحبها؛ لن نلتقي ثانيةً. لا أفهم لماذا تعاقبني ماما، ماذا فعلت لأُحرم من كل ما أُحبّ؟ أقسم لك بأنني لم أُغضب ماما ولم أفعل أيّ "شقاوة" يا جدّو.
باتت ماما تتشاجر مع بابا كثيراً. صحيح أنهما يحاولان فعل ذلك في غرفتهما بعيداً عنّي، لكن صوتهما العالي يصل إلى أذنيّ دائماً، بل أحيانًا من فرط الضوضاء، أضع الوسادة فوق رأسي حتى لا أسمعهما.
حين كنت أسأل ماما لماذا ليس لديّ أشقاء، كانت تجيبني: "لما تكبري شويّة". كنت أنتظر أن "أكبر شويّة" يا جدّو، وقد "كبرت شويّة فعلاً"، لكن ماما كذبت عليّ ولن تنجب لي أخاً أو أختاً! لماذا يمنعني البنزين من أن يكون لديّ أخ أو أخت يا جدّو عبد الفتاح؟
أنا وماما كنا معتادتين على التسوّق وشراء الملابس الجديدة مرةً كل الشهر، بعد أن يقبض أبي راتبه. كنا نزور المحال وننتقي منها ثياباً جميلةً بألوان مبهجة، وأحياناً متماثلة، نخرج بها مع صديقات ماما وأولادهنّ…
لم نعد نشتري ملابس جديدةً، ولم نعد نخرج مع أصدقائنا يا جدّو!
انقطعنا عن الذهاب إلى النادي ولا أعلم السبب. سمعتُ أمي تخبر "تيتا" سعاد، بأنها لن تجدّد الاشتراك هذه السنة. كنت أحبّ الذهاب إلى النادي حيث أقابل صديقاتي وأتدرّب على السباحة.
رضيت بكل ما سبق، لكن ما زاد الطين بلّةً، أنّ ماما نقلتني من مدرستي الجميلة التي فيها أصدقائي إلى مدرسة أخرى لا أعرف فيها أحداً.
طلبتُ من أمي إعادتي إلى مدرستي بأيّ ثمن، حتى لو كان الموافقة على تناول الجبن في المدرسة، فقالت: "معدش ينفع"، وحينما طلبتُ ذلك من أبي، نظر بعيداً وغادر الغرفة دون أن يجيبني.
لم ترُق لي مدرستي الجديدة أبداً. تبعد كثيراً عن البيت، لا أمتلك فيها خزانةً تحمل اسمي ولا "ديسكاً" ملوّناً أجلس عليه داخل الفصل.. والفصل فيها مزدحم للغاية.
تخيّل يا جدّو أنه لا توجد في المدرسة الجديدة غرفة موسيقى ولا أدوات موسيقية للعزف عليها!
قبل أيام، كنا نتناول الغداء مع بابا حينما ظهر رجل على شاشة التلفاز يرتدي بدلةً أنيقةً مثل التي يرتديها "مستر علاء"، مدرّس الفيزياء في مدرستي القديمة. خلفه، وُضع علم مصر الذي نحيّيه في طابور الصباح. تحدّث الرجل بكلام كثير لم أفهمه... الكثير من الأرقام لكني لمحت الكثير من الحزن يظهر على ملامح بابا.
سألت ماما مذعورةً: "البنزين هيزيد تاني؟".
ردّ بابا: "زيّ ما سمعتي".
ماما ثانيةً: "يا لهوي، هنلحّق على إيه ولا إيه؟ إحنا لسّا مش عارفين نفوق من آخر زيادة…".
اليوم صباحاً، كان صوت ماما وبابا عالياً جداً. كان بابا يقول لماما إنّ سعر أنبوبة البوتاغاز تجاوز الـ200 جنيه، وذكر مصاريف الدروس والملابس والطعام.
كنت أعتقد أنّ "عمو" الذي يحمل لنا الأنبوبة، يمنحنا إياها هديةً، لكن هل الـ"200 جنيه" مبلغ يُرعب إلى هذا الحدّ؟!
لم تتوقّف ماما عن إزعاجي. لم تعد تصطحبني بعد المدرسة إلى المنزل، بعدما بدأت تعمل في مصنع للملابس. تترك جدّتي تأخذني إلى بيتها، ولا تأتي إلا في المساء، وتكون دائماً مجهدةً و"مستعجلةً". نعود إلى منزلنا، فتحضر الطعام وتنام وهي تجلس بجواري دون أن تذاكر لي كالمعتاد.
لا أنكر، أصبحتُ غاضبةً جدّاً منها ومن بابا.
لم نعد نأكل معاً، ولم أعد أرى أمي إلا ليلاً. أما أبي، فلم أجلس معه إلا مرةً في الأسبوع.
كل شيء تغيّر، باتت طباعهما أكثر حِدّةً، لا يكفّان عن الشجار، يغيبان عنّي كثيراً، ولم يعودا يلعبان معي. لماذا يفعل البنزين كل هذا يا جدّو؟
أخيراً، وهو سبب كتابتي هذه الرسالة إليك يا جدّو عبد الفتاح؛ ما جرى بالأمس…
لقد سمعت ماما وهي تخبر "تيتا" في أثناء اصطحابي من المدرسة، بأنها وبابا قرّرا أنهما لن ينجبا أطفالاً ثانيةً… لن يكون لديّ أخ أو أخت أبداً!
حين كنت أسأل ماما لماذا ليس لديّ أشقاء، مثل أصدقائي، كانت تخبرني بأنه سيكون لديّ أخ أو أخت حتماً "لما تكبري شويّة". كنت أنتظر أن "أكبر شويّة" يا جدّو، وقد "كبرت شويّة فعلاً"، لكن ماما كذبت عليّ، ولن تنجب لي أخاً أو أختاً!
في الختام، أرجو منك يا جدّو عبد الفتاح، أن تحلّ لي هذه المشكلة العويصة، وأن تعيد لي بابا وماما كما كانا قبل ارتفاع هذا البنزين…
لماذا يمنعني البنزين من أن يكون لديّ أخ أو أخت يا جدّو عبد الفتاح؟
لكل هذه الأسباب، قرّرتُ أن أشكو إليك قسوة بابا وماما المتزايدة بعدما حرماني من ساندوتشات الفراخ، ومن النادي، ومن المدرسة التي أحبها، ومن "مس سارة"، والآن يتركونني وحيدةً مع جدّتي التي لا تستطيع اللعب. ماذا فعلت لهما لأعاقَب هكذا؟
في الختام، أرجو منك يا جدّو عبد الفتاح، أن تحلّ لي هذه المشكلة العويصة، وأن تعيد لي بابا وماما كما كانا قبل ارتفاع هذا البنزين…".
*هذه الرسالة تخيّليّة، لكن محتواها وكل ما ورد فيها من شكاوى وأحداث، ينطبق بالضرورة على آلاف الأطفال والأسر في مصر، حيث تمت زيادة أسعار البنزين، فجر 11 نيسان/ أبريل 2025، بمقدار 2 جنيه لكل لتر، وهي الزيادة الثانية في غضون 6 أشهر. ويترتّب على زيادة أسعار البنزين ارتفاع أسعار السلع والخدمات كافة، لارتباطها بالنقل وزيادة التعريفات الخاصة بالمواصلات والتوصيل. فهل تصل رسالة "عبير"، إلى "جدّو عبد الفتاح"، ويحلّ لها مشكلتها، ويوقف سعار ارتفاع الأسعار الذي سلب من أسرتها وآلاف الأسر المصرية، الأمن والاستقرار والرفاهة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohamed Adel -
منذ 4 أياملدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ 5 أياماذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...
Rebecca Douglas -
منذ أسبوعنحن أنصار الإمام المهدي عبد الله هاشم أبا الصادق(ع) ناس سلميين ندعو للسلام والمحبة وليس لنا علاقة...
Baneen Baneen -
منذ أسبوعنقول لكم نحن لا نؤذيكم بشيء وان كنا مزعجين لهذه الدرجة، قوموا باعطائنا ارض لنعيش فيهاا وعيشوا...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا اتفق بتاااتا مع المقال لعدم انصافه اتجاه ا المراه العربية و تم اظهارها بصورة ظلم لها...