إذا كان المثل الشعبي المصري "عض قلبي ولا تعض رغيفي" الذي يعبر عن الاستعداد للتعرض لأي خيبات أمل عاطفية في مقابل الحفاظ على رغيف العيش (الخبز)، يعكس بشكل أو بآخر حال المصريين على مر العقود، فإن هناك في المقابل مثلاً آخر لا يقل عنه أهمية وحضورًا يقول "عض قلبي ورغيفي ولا تعض مزاجي"، فالمزاج لدى الشعب المصري أقرب للإدمان الممنوع من الاقتراب من حافته ولو من بعيد.
ويمثل التدخين، بشقيه السجائر والشيشة (النارجيلة)، عصب المزاج المصري الأقوى، ونواته الأبرز، وقاعدة ارتكازه التي تتزايد يومًا تلو الآخر، فأكثر من نصف المصريين يُدخن (18 مليوناً يدخنون بشكل مباشر ويمثلون حوالي 17% من إجمالي السكان، ونحو 34 مليوناً يدخنون سلبيًا من خلال التعرض للمدخنين، ليصل إجمالي من يدخنون، إيجابًا وسلبًا نحو 52 مليوناً) بحسب بيانات الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
وقد أسال سوق التدخين، الواسع والمضمون في نفس الوقت، والذي وصل حجم مبيعاته السنوية خلال العام الماضي إلى نحو 135 مليار جنيه (حوالي 4.5 مليار دولار بسعر الدولار 30 جنيهًا في البنوك الرسمية 2023) لُعاب القائمين على أمور الاقتصاد في مصر، ما دفعهم للتفنن في كيفية تحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب من وراء هذا الكنز الذي يتزايد حجمه وثقله عامًا تلو الآخر.
ومع تأزم الوضع الاقتصادي المصري، حيث تجاوز الدين الخارجي 152.9 مليار دولار في نهاية حزيران/يونيو 2024، بعدما تخطى الـ168 مليار دولار نهاية كانون الأول/ديسمبر 2023، وما ترتب على ذلك من تجفيف منابع الميزانية المصرية لسداد فوائد وأقساط هذا الدين، فضلاً عن الالتزامات الحكومية المترتبة على بلوغ الدين المحلي 8.7 تريليون جنيه (حوالي 175.4 مليار دولار بسعر الدولار 49.6 جنيهًا)، كان البحث عن منافذ لإنعاش الخزانة المصرية منهجًا ثابتًا لدى الحكومة.
ومع مرور الوقت، تحولت العائدات الضريبية التي تحصلها وزارة المالية من صناعة التدخين إلى أحد المكونات الرئيسية لإجمالي الضرائب التي تجمعها الحكومة، والتي تشكل نحو 80% من إيرادات الدولة المصرية بصفة عامة، ليشكل مزاج المصريين شريان الإنعاش الأكبر للاقتصاد المصري وقشة الإنقاذ التي تُبقي على توازنه النسبي وسط تلك الأمواج المتلاطمة من الأزمات تلو الأخرى.
95 مليار سيجارة سنويًا... أرقام صادمة
تُشير البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء والغرفة التجارية إلى أن المصريين يستهلكون شهريًا 7.5 مليار سيجارة، أي حوالي 250 مليون سيجارة يومياً، وقرابة 10.4 مليون سيجارة كل ساعة، فيما يبلغ متوسط استهلاك المواطن المصري من السجائر حوالي 6000 سيجارة سنويًا، وهو ما يمثل نحو أكثر من أربعة أضعاف المتوسط العالمي الذي يبلغ 1150 سيجارة.
يقول مدير تسويق في إحدى شركات التبغ المصرية، إن مبيعات السجائر في مصر لم تتأثر بأي حدث من الأحداث، وأن الإقبال على الشراء يزداد أوقات الأزمات، حتى مع ارتفاع الأسعار تزداد الطوابير أمام منافذ البيع تحسبًا لأي ارتفاعات قادمة أو حدوث أزمة في المنتجات
هناك ما يزيد عن 18 مليون مدخن في مصر تزيد أعمارهم عن 15 سنة، بما نسبته 16.8% من إجمالي السكان، منهم 33.8% من الذكور و0.3% من الإناث، أما مدخنو الشيشة (الأرجيلة) فينتمي 17.2% منهم للشباب بين الفئة العمرية 15 و29 عاماً، مقارنة بـ27.3% من كبار السن حين الفئة العمرية من 60 إلى 69 عاماً، مع العلم أن هناك من يشير إلى أن العدد أكبر من ذلك بكثير لا سيما إذا ما احتُسب من هم دون سن الخامسة عشرة، وهو رقم ليس بالقليل.
يحتل الشباب صدارة الفئات العمرية الأكثر تدخينًا في مصر، ولذلك دلالات سلبية وفق تحذيرات الأطباء وخبراء الاقتصاد، فأكثر من 22% من المدخنين ينتمون للفئة العمرية بين 35 – 40 عامًا، و21.6% بين 45 – 54 عاماً فيما تمثل الفئة العمرية بين 25-34 سنة 19.9% من إجمالي المدخنين، أما الأسر التي تحتضن فرداً مدخناً أو أكثر فتمثل نحو 39.6% من إجمالي سكان مصر، أي أن قرابة 34 مليون شخص يتعرضون للتدخين السلبي بسبب وجود شخص مدخن معهم.
وارتفع متوسط إنفاق الأسرة المصرية على التدخين من 1724.9 جنيه سنويًا (حوالي 55.3 دولارًا بسعر الدولار 31.2 جنيهًا في ذلك الوقت) قرابة 4.7% من إجمالي الإنفاق السنوي للأسرة) في 2018/2019 طبقًا للأرقام الصادرة عن مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية (مستقل) إلى نحو 2603 جنيهًا سنويًا (حوالي 83.4 دولارًا بسعر الدولار 31.2 جنيهًا) في عام 2021/2022، وفق مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء، وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أن جملة الإنفاق الأسري على التدخين في مصر تصل لـ6000 جنيه سنويًا (حوالي 192 دولارًا بسعر الدولار 31.2 جنيهًا)، حسب ما أشار رئيس جمعية مكافحة التدخين والدرن وأمراض الصدر، وجدي أمين.
ورغم ما تكشفه الأرقام الصادمة حول ضحايا المزاج في مصر، حيث يموت سنويًا 171 ألف شخص لإصابتهم بأمراض تتعلق بالتدخين، إلا أن ذلك لم يؤثر بشكل أو بآخر على استهلاك المصريين للسجائر والتبغ، حتى أوقات الأزمات الاقتصادية الحالكة التي شهدتها مصر والإقليم والعالم أجمع، لم تتأثر مبيعات شركات السجائر مقارنة بغيرها من الشركات العاملة في المجالات الأخرى بما فيها شركات الأغذية والأدوية وغيرها من الصناعات الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
يقول حمدي العاني، مدير تسويق في إحدى شركات التبغ المصرية، إن مبيعات السجائر في مصر لم تتأثر بأي حدث من الأحداث، لافتًا في حديثه لـرصيف22 أن الإقبال على الشراء يزداد أوقات الأزمات، حتى مع ارتفاع الأسعار لم يحدث التأثير المتوقع، وعلى العكس تزداد الطوابير أمام منافذ البيع تحسبًا لأي ارتفاعات قادمة أو حدوث أزمة في المعروض من منتجات الكيف، ويتابع: "الفترة الوحيدة التي تشهد تراجعًا في البيع هي خلال شهر رمضان، لكن بعد انتهائه مباشرة يشهد السوق إقبالاً كثيفًا على منافذ بيع السجائر فيُعوض التراجع في المبيعات وربما بنسب أكبر"، مضيفًا: "الكيف لدى الكثير من المصريين لا يقل أهمية عن الطعام والشراب بل ربما يزداد أهمية لدى آخرين في بعض الأوقات".
ضرائب السجائر.. عصب الاقتصاد المصري
في تشرين الأول/أكتوبر 2024 أقر مجلس النواب (البرلمان) المصري تعديلات على قانون ضريبة القيمة المضافة على السجائر والتبغ، تضمنت زيادة الضرائب المفروضة على السجائر بنسبة 12% سنويًا لمدة خمس سنوات، بحيث تحصل الدولة على 4.5 جنيهات (حوالي 0.09 دولار بسعر الدولار 49.6 جنيهًا) على كل علبة سجائر يتم بيعها بالشريحة الأولى (التي لا تزيد قيمة العلبة فيها عن 43.72 جنيهًا – حوالي 0.88 دولار) و7 جنيهات (حوالي 0.14 دولار) على الشريحة الثانية (يراوِح سعر العلبة بين 34.7 – 50 جنيهًا – حوالي 0.70 – 1.01 دولار) و7.5 جنيهات (حوالي 0.15 دولار) على الشريحة الثالثة (علبة السجائر التي يزيد سعرها عن 50.4 جنيهًا – حوالي 1.02 دولار)، وقد وافقت وزارة المالية على تطبيق تلك الزيادات التي كانت بمثابة منح شركات التبغ الضوء الأخضر لرفع الأسعار بما يتناسب مع النسب المرتفعة في قيمة الضرائب المحصلة.
بالعودة للأرقام والإحصائيات، فقد قفزت الضرائب التي تحصّلها الدولة من السجائر والتبغ ومنتجاتها قرابة 5 أضعاف في غضون عشرة سنوات فقط.
بالعودة للأرقام والإحصائيات، فقد قفزت الضرائب التي تحصلها الدولة من السجائر والتبغ قرابة 5 أضعاف في غضون عشرة سنوات فقط، حيث ارتفعت من 19.2 مليار جنيه (حوالي 1.2 مليار دولار بسعر الدولار 16 جنيهًا) خلال 2014 إلى 54.5 مليار جنيه (حوالي 3.5 مليار دولار) خلال 2017، ثم 60.1 مليار جنيه (حوالي 3.8 مليار دولار) في 2018، و67.1 مليار (حوالي 4.3 مليار دولار) في 2019، و73.3 مليار جنيه (حوالي 4.7 مليار دولار) عام 2020، و74.9 مليار جنيه (حوالي 4.8 مليار دولار) في 2021، و81.7 مليار جنيه (حوالي 5.1 مليار دولار) 2022، و85 مليار جنيه (حوالي 5.3 مليار دولار) 2023، حتى بلغت 95.6 مليار جنيه (حوالي 6.1 مليار دولار) 2024.
وتعد الضرائب المحصلة من السجائر والتبغ العمود الفقري لإيرادات الدولة المصرية، وعصب الاقتصاد الوطني الأبرز، ففي 2019 على سبيل المثال مثلت قرابة 7.5% من إجمالي الإيرادات التي دخلت خزينة الحكومة (67.1 مليار جنيه – حوالي 4.3 مليار دولار بسعر 19.6 جنيه للدولار في ذلك الوقت من إجمالي 736 مليار جنيه – حوالي 47.1 مليار دولار – إجمالي الإيرادات المصرية من الضرائب في ذلك العام)، فيما بلغت نحو قرابة 20% في 2015/2016.
ورغم إضافة الدولة لأنواع عدة من الضرائب خلال السنوات الأخيرة لزيادة غلتها الإيرادية، مثل الضرائب على القيمة المضافة، الدخل، الممتلكات، الشركات، والتجارة الدولية، إلا أن ضرائب السجائر حافظت على حصتها من الناتج الإجمالي، حيث بلغت 95 مليار جنيه (حوالي 6.1 مليار دولار) من إجمالي 1.4 مليار جنيه (حوالي 89.6 مليار دولار) قيمة إيرادات مصر الضريبية خلال العام المالي 2023/2024 بنسبة 7.1%.
وخلال السنوات العشر الأخيرة زادت الضرائب التي تشكل أكثر من 80% من إيرادات الدولة المصرية بنسبة تتجاوز 570%:
إذا ارتفعت من 260 مليار جنيه (حوالي 16.6 مليار دولار) خلال العام المالي 2013/2014 إلى 305 مليارات (حوالي 19.5 مليار دولار) في 2014/2015.
ثم بلغت في 2015/2016 حوالي 352 مليارًا (حوالي 22.5 مليار دولار)، و462 مليارًا (حوالي 29.5 مليار دولار) في 2016/2017.
ومن 629 مليارًا (حوالي 40.1 مليار دولار) في العام المالي 2017/2018، إلى 736.1 مليار (حوالي 47 مليار دولار) في 2018/2019.
ثم إلى 856.7 مليار جنيه (54.7 مليار دولار) في العام التالي.
و833.9 مليار (حوالي 53.3 مليار دولار) في 2020/2021.
و991.4 مليار (حوالي 63.4 مليار دولار) في 2021/2022.
وذلك قبل أن تدخل نادي التريليونات حين بلغت 1.2 تريليون جنيه (حوالي 76.4 مليار دولار) في العام المالي 2022/2023 ونحو 1.48 تريليون جنيه (حوالي 94.7 مليار دولار) في 2023/2024.
كيف المصريين.. الدجاجة التي تبيض ذهبًا
واقع الاقتصاد المأزوم والالتزامات المالية المتفاقمة والشح الدولاري التي تعاني منه الدولة المصرية دفع بالحكومة إلى محاولة توظيف سوق التبغ والدخان بما يحقق أكبر عائد منه، ففي نيسان/أبريل 2022 منحت الدولة ترخيصًا لإحدى الشركات الخاصة لدخول سوق السجائر بعدما كان مُحتكرًا من الشركة الشرقية للدخان (إيسترن كومباني) نظير ضخ سيولة دولارية في السوق المصري.
وفي نهاية العام الماضي باعت الحكومة المصرية – تحت ضغوط صندوق النقد الدولي والالتزامات المالية القاسية– جزءًا من حصتها في إيسترن كومباني لعملاق التبغ العالمي، فيليب موريس إنترناشيونال، المملوك لرجل الأعمال الإماراتي عبدالله الحسيني، وهي الصفقة التي أثارت حينها الكثير من التساؤلات حول سوق التبغ ومستقبله.
تُعد الضرائب المحصّلة من السجائر والتبغ العمود الفقري لإيرادات الدولة المصرية، وعصب الاقتصاد الوطني الأبرز، ففي 2019 على سبيل المثال مثلت قرابة 7.5% من إجمالي الإيرادات التي دخلت خزينة الحكومة (حوالي 4.3 مليار دولار)، فيما بلغت نحو قرابة 20% في 2015/2016
وهكذا تحولت صناعة التبغ ومنتجات مزاج المصريين إلى الدجاجة التي تبيض ذهبًا للحكومة المصرية، والفرصة التي لا يمكن تفويتها بأي ثمن، في ظل محافظة تلك الصناعة على سوقها الرائج، القادر على الصمود في وجه أي متغيرات أو عراقيل تهددها، والقابل للتمدد والتوسع رأسيًا وأفقيًا يومًا تلو الآخر.
وقد عرف المصريون التدخين بدايات القرن السابع عشر، تحديدًا عام 1601م حين دخل نبات التبغ للبلاد لأول مرة، إذ كان يُستخدم عن طريق المضغ، وظل الأمر هكذا حتى دخلت صناعة السجائر مصر بعد ثورة 1919، حين أُسست "شركة سجائر محمود فهمي" كأول شركة تصنع الدخان في البلاد (أنتجت سجائر تحمل اسم "بيت الأمة" نسبة إلى الزعيم سعد زغلول)، لكن كان الاعتماد وقتها على التبغ المستورد من الخارج حتى عام 1799، حين بدأت زراعته في محافظة الفيوم (جنوب) ومعرفة ما عُرف بـ"السجائر الملفوفة".
ثم احتكر الأرمن صناعة السجائر في مصر لأكثر من 200 عام، حتى أسس السلطان أحمد فؤاد شركة "الشرقية للدخان" (Eastern Company) والمستمرة حتى اليوم، وتعد أحد أكبر عمالة صناعة التبغ في العالم حيث تنتج سنويًا أكثر من 75 مليار سيجارة وإن تراجعت مؤخرًا بسبب النقص في إمدادات المواد الخام بسبب ارتفاع أسعار الدولار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه