شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هل تنتصر سوريا الجديدة للحريات الفردية؟

هل تنتصر سوريا الجديدة للحريات الفردية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

السبت 29 مارس 202511:30 ص

بعد تكرار الحوادث المتعلقة بانتهاك الحرية الفردية في سوريا، منذ سقوط نظام البعث، وتضاعف الأمر بعد أحداث الساحل السوري، يعيش طيف كبير من السوريين اليوم في حالة قلق كبير على مستقبل الحريات الفردية أولاً، ثم العامة في البلاد.

وحين نتحدث عن الحريات الفردية، فنحن نتحدث عن قائمة كبيرة من الحقوق، كحقّ العيش بأمان، وحرية الاعتقاد، واللباس، وإبداء الرأي، وذلك كله رُصدت حوله العديد من الانتهاكات في مختلف المحافظات السورية، ما يجعل الحديث عن ضمان الحريات الفردية في سوريا اليوم، محطّ جدل واسع مجتمعياً وقانونياً.

يوثّق رصيف22، في هذا التقرير، شهادات ترصد مجموعةً متنوّعةً من الانتهاكات التي طالت الحرية الفردية في سوريا، ولا سيّما منذ اندلاع أحداث الساحل السوري في 6 آذار/ مارس 2025، فضلاً عن حلول يطرحها بعض المختصين لما يتوجّب على الحكومة الحالية القيام به لمواجهة هذا التحدّي الذي يهدّد مستقبل البلاد.

حملات الدعوة إلى الإسلام

منذ إسقاط نظام بشار الأسد، راجت حملات دعويّة تعمل على حثّ السوريين غير المسلمين على اعتناق الإسلام. يقوم أصحاب هذا التوجّه، الذي لم يظهر أيّ تبنٍّ حكومي علني له حتّى تاريخه، بالتجوّل في الشوارع بسيارات مُجهّزة بمكبرات صوت لدعوة الناس إلى الإسلام، ويصبّون جهودهم في المناطق ذات الغالبية المسيحية.

"كنت في التاكسي، أوقِفنا عند حاجز لرؤية الهوية. نظر أحد العناصر إليّ بصورة غير لائقة، وقال: 'تستّري، كيف طالعة هيك برمضان؟'... تدخّل سائق التاكسي: 'الأخت مسيحية'. فكرّر العنصر الأمني نظرته غير اللائقة، وقال: 'جاييكن الدور'. مكثت بعدها في المنزل أسبوعاً خائفةً من الخروج"

وفي 19 آذار/ مارس الجاري، راج مقطع فيديو لسيارة دعويّة تتجوّل في حي الدويلعة في دمشق، ذي الأغلبية المسيحية، تحثّ الأهالي على اعتناق الإسلام، ليقوم المارّة من المسلمين والمسيحيين بإيقاف السيارة وطردها خارج الحيّ.

عن ذلك، تقول جاكلين*، من حيّ الدويلعة الدمشقي، لرصيف22: "دخلت سيارة دعويّة مع مكبّرات صوت إلى الحيّ بقصد 'هداية' سكّانه إلى الإسلام، فتصدّى لها بعض شباب الحيّ من المسلمين والمسيحيين، معربين عن رفضهم لهذا التصرّف. تكرّر الأمر في أحياء مسيحية أُخرى، مثل باب شرقي وباب توما في دمشق، وهو أمر مرفوض لأنه يشكّل انتهاكاً لحقوقنا… لا نريد أن نعيش حالة الخوف في سوريا الجديدة".

وبعد أن لاقى الأمر استهجان شريحة واسعة من السوريين، ظهر أحد من كانوا في السيارة الدعويّة في فيديو على فيسبوك، محاولاً تبرير الأمر بأنّ من كان في السيارة لم يقصد الدخول لـ"هداية المسيحيين"، بل لـ"تعزيز إيمان المسلمين"، وأشار إلى أنّ الدعاة لا يعرفون الهوية الدينية للحيّ.

ردّاً على هذه الحادثة والجدل الذي أحدثته، أقدم شاب يُدعى بدر الدين جحا، في 21 آذار/ مارس الجاري، بتشغيل بعض التراتيل الدينية المسيحية في سيارته في حيّ المالكي في دمشق، "لإظهار التآلف الإسلامي المسيحي في البلاد". لكنه تعرّض لحملة تحريض كبيرة من قبل بعض الصفحات المتطرّفة.

فظهر جحا، مساء اليوم التالي، باكياً في فيديو آخر، مستغيثاً بالأمن العام في دمشق لحمايته، بعد محاولة بعض العناصر، التي أكد أنها ليست من الأمن العام وإن كانت ترتدي زيّاً عسكرياً، دخول منزله لاعتقاله قبل هروبه منه.

لاحقاً، ظهر الشاب في فيديو عبر منصّة "المنتدى"، يقول فيه إنه التقى مع مسؤول بارز في الأمن العام في دمشق، مؤكداً أنّ اللقاء كان ودّياً، وتم إطلاق سراحه بعد حلّ الموضوع، موضحاً أنّ الخطأ الذي وقع فيه في الفيديو الأول، هو استخدام وصف "الرعاع" في الإشارة إلى من كانوا في السيارة الدعويّة.

"اسمك علي كمان؟"

عاش الساحل السوري -ولا يزال- حوادث انتقام ذات طابع طائفي بحق المدنيين العُزّل على يد "مجموعات غير منضبطة"، شاركت في العملية الأمنية التي أطلقتها الحكومة الجديدة، منذ 6 آذار/ مارس، لملاحقة فلول النظام السابق الذين هاجموا نقاطاً أمنيةً عدة.

وبحسب التقرير الأوّلي للجنة المتابعة الإنسانية وحقوق الإنسان تحت إشراف الحقوقي السوري هيثم المناع، الصادر في 23 آذار/ مارس الجاري، ارتُكبت خلال الأيام الثلاثة الأولى من "فتنة الساحل"، 25 مجزرةً جرى توثيقها. كما جرى توثيق 811 فيديو، والتحقّق من أسماء 2،246 ضحيةً معظمهم من الشباب، مع نسبة من كبار السنّ والأطفال والنساء الذين قُتِلوا على أساس انتمائهم إلى الطائفة العلوية، و42 ضحيةً من طوائف أخرى قُتلوا بسبب تعاطفهم مع المدنيين.

وتقول المهندسة الشاعرة جنى علي مصطفى، الناجية من أحداث حيّ القصور في بانياس، الذي ينتمي معظم ساكنيه إلى الطائفة العلوية والدين المسيحي، لرصيف22: "مع بدء العمليات في الساحل، لم نسمع في بانياس إلا الأصوات القادمة من جبلة، ولكن، ليل الخميس 6 آذار/ مارس، فجر الجمعة، اقترب صوت الرصاص واشتدّ الخوف بالتزامن مع إعلان حظر تجوال في بانياس حتّى العاشرة من صباح الجمعة، حيث بدأنا نشاهد المسلّحين في الشوارع يطالبون الناس بالابتعاد عن الشرفات".

تضيف جنى: "بعدها بقليل، تلقّينا اتصالاً يخبرنا ببدء حملة تفتيش واعتقالات. مع مرور الساعات، اشتدّ صوت الاشتباكات، وأخذت سيارات المسلّحين تتجوّل في الحارة. وعند الثالثة ظهراً، دخل مسلّحان اثنان إلى البناء الذي نسكن فيه، وطلبا من الأهالي فتح الأبواب وإلا سيطلقا الرصاص".

"هناك إشكاليات تتعلّق بفهم المجتمع لهذه الحريات وقدرته على التوافق مع بعضها الذي يخالف توجهاته الاجتماعية والدينية ربما، ما يدفعنا جميعاً من دولة وإعلام وقطاع مدني وتربوي، إلى إطلاق حملات توعية لحماية واحترام التنوّع والاختلاف، ووضع ضوابط لتأمين ذلك"

"فتح والدي الباب وقال: 'أهلاً وسهلاً'. سأله أحدهما عن دينه، فقال: 'علويّ'، فطلب هويته، وعندما قرأ اسمه قال: 'اسمك علي كمان! طلاع لعنّا'. سحبوا أبي، ودخلا إلى المنزل. كنا 3 صبايا، وشاب، وأمي. طلبوا منا الوقوف ووجهنا إلى الحائط. سألوا عن أخي فقلنا: صغير، بكالوريا، لا تاخدوه. أخذا هواتفنا تحت تهديد السلاح، وقام أحدهما بتفتيش المنزل وأطلق الرصاص على الحائط، ثم ذهبا وأغلقا الباب، ولم يُعيدا أبي"، تردف.

وتستطرد جنى: "بعد نصف ساعة وجدناهُما يطرقان الباب على منزل مقابل، وقتلا رجلين فيه، فاشتدّ خوفنا على أبي. بعد قليل، خرجنا لرؤية الحارة من شبّاك البناء المطلّ عليها، فوجدنا جثماناً لكنه لم يكن لوالدي. وبعد نصف ساعة، نزلت أختي فشاهدَت جثمان والدي في الطابق الثاني من البناء مقتولاً برصاصتين إحداهما في الرأس. نزلنا نبكي ونصرخ، فصعد أحد المسلّحين وهدّدنا بالموت إذا لم نرجع".

تلفت جنى، إلى أنّ "أبناء الطائفة السنّية لم يسلموا من المسلّحين، فتعرّضوا للضرب على أيديهم. شاهد بعض الجيران من السنّة جثمان والدي، فوضعوا عليه غطاءً ريثما نستطيع إدخاله إلى المنزل. وبعد مرور ساعة ونصف الساعة على الحادثة، استطعنا إدخال الجثمان، وبدّلنا ثيابه، وغسّلناه وتركناه في المنزل، وأغلقنا الباب ببعض الأثاث، وحاولنا التواصل مع بعض الأقارب بالهاتف الأرضي لإخراجه من المنزل. لكن لم يستطع أحد الدخول إلى بانياس حتّى صباح السبت، ولا حتّى الهلال الأحمر".

"صباح السبت، صرنا نرى مسلّحين غريبي المظهر يتجوّلون في الحارة، وتيقّننا أننا لن نستطيع إخراج الجثمان، وبدأنا نفكر في الهرب بأنفسنا. كان أبناء الطائفة السنّية هم من يتجوّلون في المدينة لخوف العلويّين من التحرك، ولكن المسلّحين الشيشان لم يوفّروا السنّة أيضاً. تواصلنا مع أصدقاء من السنّة لمساعدتنا، لكنهم لم يستطيعوا، فغطّينا شبابيك المنزل المطلّة على الشارع لمنع كشف أيّ حركة داخل المنزل. وصلتنا معلومات تفيد بقصف المناطق المحيطة، مع سماع تهديدات بقصف منطقتنا"، تتابع جنى.

وتواصل: "أعطى أحد الأصدقاء موقع منزلنا لسيارة الخوذ البيضاء لتنقلنا معها حال مرورها من حيّنا. وعند مرورها، صرخنا، فتوقفت، وصعد عناصرها إلينا، وساعدونا في نقل بعض الأغراض، وأخذونا إلى منزل أصدقائنا في مساكن المحطة الحرارية في بانياس. بقينا هناك ليومين، وفي اليوم الثالث ذهبنا مع صديقنا السنّي إلى مركز الهلال، لنعطيهم عنوان منزلنا ليتمكّنوا من إخراج جثمان والدي. أخرجوه، ونقلناه معاً إلى مقبرة جماعية ممتلئة بالجثامين المدفونة في خنادق بشكل طولي. أعادنا صديقنا إلى منزل مساكن المحطة، وبقينا هناك حتّى ظهر يوم الثلاثاء، وذهبنا بعدها برفقة عائلتين وسيارة للهلال الأحمر إلى طرطوس".

"تستّري، كيف طالعة هيك؟"

من جهتها، تشرح مادلين*، وهي صبية مسيحية من اللاذقية، كيف تعرّضت لانتهاك حرّيتها الشخصية من عنصر أمني عند أحد الحواجز. تقول لرصيف22: "بعد اندلاع أحداث الساحل بـ4 أيام، كنت في تاكسي عند دوار الزراعة حيث أوقِفنا عند حاجز لرؤية الهوية. نظر أحد العناصر إليّ بصورة غير لائقة، وقال: 'تستّري، كيف طالعة هيك برمضان؟'".

تردف مادلين: "كانت ثيابي محتشمةً. وتدخّل سائق التاكسي: 'الأخت مسيحية'. فكرّر العنصر الأمني نظرته غير اللائقة، وقال: 'جاييكن الدور'. مكثت بعدها في المنزل أسبوعاً خائفةً من الخروج".

"طرطوس للسنّة… العلويّة اطلعوا منّا"

أما سمير*، من المشبكة العليا في طرطوس، فيروي لرصيف22: "خرجت يوم الخميس 6 آذار/ مارس، مظاهرات سلميّة من دوار السعدي باتجاه مبنى المحافظة، تضامناً مع المدنيين الذين تعرّضوا للعنف في جبلة. وبعد وصول المتظاهرين إلى مبنى المحافظة، قام عناصر من الأمن العام بإطلاق بعض الرصاص في الهواء، ثم دخلوا إلى المبنى، فهتف المتظاهرون دعماً لجبلة، وطالبوا بإسقاط الرئيس أحمد الشرع. بعد ذلك، ظهر بعض المسلّحين بلباس مدني، وأطلقوا الرصاص في الهواء لتفريق المظاهرة، وهو ما حدث".

يتابع سمير: "لاحقاً، فُرض حظر تجوال ليلي في طرطوس، وقرابة الساعة 11 ليلاً، انتشرت فيديوهات لمظاهرة تدعم الإدارة الجديدة، وتهتف: 'طرطوس للسنّة، العلوية اطلعوا منّا'. واستيقظنا صباح الجمعة، على أصوات الرصاص في شوارع طرطوس، مع دخول مسلّحين إلى الشارع العريض، حيث أطلقوا الرصاص على السيارات والمنازل وشتموا العلويّة بقصد الترهيب".

"الحرّيات موضوع غير قابل للمساومة"

إلى ذلك، تنبّه الناشطة الحقوقية والرئيسة التنفيذية لمبادرة "دارة سلام"، رنا الشيخ علي، في حديثها إلى رصيف22، إلى أنّ "موضوع الحريات والحقوق الفردية والجماعية غير قابل للمساومة أو النقاش، وإذا ما أردنا الحديث عنه بشكل قانوني، فالإعلان الدستوري أكّد على المعاهدات والاتفاقيات الموقّع عليها من قبل سوريا بما تتضمّنه من حريات النساء، والأشخاص ذوي الإعاقة، وحريات الأديان وغيرها، ما يعني أنّ حماية حقوق الإنسان ومأسستها وأعمالها مسؤولية الدولة".

"في المقابل، هناك إشكاليات تتعلّق بفهم المجتمع لهذه الحريات وقدرته على التوافق مع بعضها الذي يخالف توجهاته الاجتماعية والدينية ربما، ما يدفعنا جميعاً من دولة وإعلام وقطاع مدني وتربوي، إلى إطلاق حملات توعية لحماية واحترام التنوّع والاختلاف، ووضع ضوابط لتأمين ذلك"، تستدرك رنا.

"تحدّيات حقوقية برسم الإدارة الجديدة"

بدوره، لا يغفل الحقوقي والخبير القانوني المعتصم الكيلاني، أنه "بعد إسقاط نظام الديكتاتور بشار الأسد، طفت فوق السطح أنماط متعدّدة من الانتهاكات التي طالت المدنيين العُزّل في مختلف أنحاء سوريا، ومن بين أكثرها وضوحاً ما جرى في حمص والمناطق الساحلية، حيث وقعت عمليات قتل وتهجير قسري وسرقات واسعة النطاق. كما شهدت مناطق أخرى عمليات طرد جماعي للمدنيين من منازلهم دون سند قانوني، وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم بحجج واهية. بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت ظاهرة التمييز الاجتماعي والديني، إذ شهدت مؤسسات حكومية وتعليمية عدة حملات لفصل الجنسين بشكل قسري، ما قيّد الحريات الشخصية، وأثّر سلباً على حقوق النساء".

يتابع الكيلاني في حديثه إلى رصيف22: "لم تقتصر الانتهاكات على ذلك، بل برزت أيضاً حملات دعويّة متشدّدة في مختلف المناطق، خاصّةً في العاصمة دمشق وريفها ومحافظات أخرى، تروّج لخطاب ديني متطرف من خلال سيارات دعويّة وملصقات تحضّ على التشدّد، ما أثار المخاوف من تغلغل الفكر المتطرّف في المجتمع. ولم يسلم أفراد مجتمع الميم-عين من الانتهاكات، حيث تعرّضوا لاعتداءات لفظية وجسدية، بالإضافة إلى حملات تحريضية، ما أدّى إلى تزايد حالات العنف والتمييز ضد هذه الفئة. وشهدت بعض الطوائف الدينية هجمات لفظية وتحريضية أيضاً، وهذا ما أدّى إلى تفاقم الانقسامات الطائفيّة داخل المجتمع السوري".

"يتعيّن على الحكومة الجديدة وضع سياسات واضحة لمكافحة الفكر المتطرّف ومنع التمييز الاجتماعي، من خلال حظر الحملات الدعويّة التي تروّج له، وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش المشترك بين مختلف مكونات المجتمع السوري، كما أنّ حماية حقوق المرأة والأقليات والمجتمع المدني يجب أن تكون من أولويات الإدارة الجديدة"

وفي ما يخصّ الخطوات الممكنة لتدارك هذا، يرى الكيلاني، أنه "تقع على عاتق الإدارة الجديدة مسؤولية قانونية وأخلاقية لمحاسبة المتورطين في هذه الانتهاكات وضمان عدم تكرارها. يتطلّب ذلك إعادة بناء المؤسسات القضائية والأمنية لضمان فرض سيادة القانون وحماية حقوق المواطنين، مع ضرورة إجراء إصلاحات هيكليّة في الأجهزة الأمنية لمنع التجاوزات، كما أنّ تحقيق العدالة الانتقالية أمر بالغ الأهمية، حيث تنبغي محاسبة جميع المتورطين في الانتهاكات وإجراء تحقيقات شفّافة تضمن إنصاف الضحايا ومنع الإفلات من العقاب".

فضلاً عمّا سبق، والحديث ما يزال للكيلاني، "يتعيّن على الحكومة الجديدة وضع سياسات واضحة لمكافحة الفكر المتطرّف ومنع التمييز الاجتماعي، من خلال حظر الحملات الدعويّة التي تروّج له، وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش المشترك بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري، كما أنّ حماية حقوق المرأة والأقليات والمجتمع المدني يجب أن تكون من أولويات الإدارة الجديدة، من خلال سنّ قوانين تحمي الفئات المستضعفة من التمييز والعنف، والعمل على تمكين المرأة وإشراكها في مراكز صنع القرار لضمان تمثيلها العادل".

ويشدّد الكيلاني، على أنّ "التعاون مع المجتمع الدولي أمر ضروري للحصول على الدعم اللازم في مجال إعادة الإعمار، وتطوير برامج لحماية حقوق الإنسان، والاستفادة من خبرات المنظّمات الحقوقية الدولية في محاسبة الجناة، فالانتهاكات التي شهدتها سوريا بعد إسقاط النظام السابق تفرض تحدّيات كبيرةً على الإدارة الجديدة، لكن التعامل معها بجدية وشفافية يمكن أن يُسهم في بناء دولة القانون والمؤسسات، حيث يتمتّع جميع المواطنين بحقوقهم دون تمييز أو خوف". قبل أن يختم بأنّ "المحاسبة الصارمة، وتعزيز ثقافة التسامح، وإرساء سياسات عادلة هي الخطوات الأساسية نحو مستقبل أكثر استقراراً وعدالةً في سوريا".

التأثيرات الاجتماعية وعلاجها

وعمّا يجب على الأهل القيام به لحماية أبنائهم من تبعات هذه التجارب المؤلمة، تقول الاختصاصية الاجتماعية روعة الكنج، لرصيف22: "أهم الطرائق التي يتعلّم الأطفال من خلالها هي 'التقليد والنمذجة'، وهذا الأسلوب يوفّر للأهل الحلّ للتعامل مع آثار التعرّض للمأساة، فإذا كانت أعصاب الأهل متماسكةً مع ثبات انفعالي جيّد، فإنّ الطفل يتعلّم ذلك ويقلّده. أما في حال وجود انفعالات عاطفية وتبنٍّ لمواقف على أساس ديني أو طائفي، فإنّ ذلك ينتقل أتوماتيكياً إلى الأطفال. لذلك، يجب التماسك أمام الأطفال وإبعادهم عن الجلسات التي تُدار فيها أحاديث مشابهة".

في السياق ذاته، تشدّد الكنج، على أنّ شبكة الدعم القائمة على وجود مجتمع خاص مشترك في العزاء والفرح، تساعد في تأمين الأطفال في المأساة من خلال تبنّي رواية واحدة لما حدث أو يحدث، كما أنّ مساعدة الطفل في التعبير عن دواخله وتفريغ حزنه، يساعد في تجاوز الكارثة، بالإضافة إلى تجنّب كلمات على غرار "بتمرق، وما صار شي.. إلخ"، إذ يفضّل دائماً الاعتراف والمكاشفة بأنّ ما جرى مؤلم ومعقّد وفهمه بحاجة إلى وقت طويل، بأسلوب واضح وصريح، مع التأكيد على أننا حالياً بأمان، ويجب أن نفكر معاً لتجاوز المشكلات.

وتؤكد الكنج، أنّ "التفريغ يفيد المتألِّم كثيراً. فيجب بدايةً أن يقوم الشخص بإفراغ كل ما بداخله من مشاعر، سواء كان طفلاً أو كبيراً، ثم يطرح أفكاره وأسئلته كلها بجرأة ومن دون تدخّل أو توجيه. مثال على ذلك: في أحداث الساحل، يجب الابتعاد عن إلصاق أسباب الكارثة بفئات محددة، فنقول إنّ بعض العناصر غير المنضبطة استغلّت الفوضى الحاصلة بسبب تغيّر الأنظمة، وإنهم قد مرّوا بخوف وألم وأزمات نفسية سابقة سبّبت لهم اضطرابات ظهرت على هذا الشكل، ولكن يوجد دائماً أشخاص جيدون لتقديم المساعدة، مع التشديد على أنّ من ارتكب الجرم سيحاسَب بالقانون وسيُنبذ مجتمعياً، ويمكن تدعيم ذلك بأمثلة عن حوادث مشابهة في العالم".

"الانتهاكات التي شهدتها سوريا بعد إسقاط الأسد، تفرض تحدّيات كبيرةً على الإدارة الجديدة، لكن التعامل معها بجدّية وشفافية يمكن أن يُسهم في بناء دولة القانون والمؤسسات".

ما هو الموقف الحكومي مما يحدث؟

في 25 شباط/ فبراير 2025، صدر البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني السوري، مؤكّداً على تعزيز الحرّية كقيمة عليا في المجتمع، باعتبارها مكسباً غالياً دفع الشعب السوري ثمنه من دماء أبنائه، وعلى ضمان حرية الرأي والتعبير، واحترام حقوق الإنسان، ودعم دور المرأة في المجالات كافة، وحماية حقوق الطفل، ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وتفعيل دور الشباب في الدولة والمجتمع، وترسيخ مبدأ المواطنة، ونبذ أشكال التمييز كافة على أساس العرق أو الدين أو المذهب، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، بعيداً عن المحاصصة العرقية والدينية، وترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين جميع مكونات الشعب السوري، ونبذ مختلف أشكال العنف والتحريض والانتقام، بما يعزز الاستقرار المجتمعي، والسلم الأهلي.

وفي 9 آذار/ مارس الجاري، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، قرارَين بتشكيل لجنة لتقصّي الحقائقِ للنظرِ والتحقيقِ في أحداثِ الساحل، ولجنة عليا للحفاظِ على السلمِ الأهليّ.

وقال الشرع، في كلمة متلفزة نقلتها الوكالة العربية السورية للأنباء "سانا": "نؤكد أننا سنحاسب بكل حزمٍ ودون تهاونٍ كلَّ من تورّط في دماء المدنيين، أو أساء إلى أهلنا، ومن تجاوز صلاحيات الدولةِ أو استغلَّ السلطة لتحقيق مآربه الخاصة، فلن يكونَ هناكَ أيُّ شخصٍ فوق القانون، وكلُّ من تلوثتْ يداه بدماء السوريين، سيواجه العدالة عاجلاً غير آجل".

في موازاة ذلك، وفي 12 آذار/ مارس الجاري، وبينما رحّب الاتحاد الأوروبي بتشكيل السلطات السورية لجنةً للتحقيق وتقصّي الحقائق في أحداث الساحل السوري، تحدّث وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في كلمة له خلال مؤتمر بروكسل التاسع للمانحين حول سوريا، عن أنّ "النظام البائد استغلّ ورقة الأقليات وأساء استخدامها، ولن نسمح باستخدام هذه الورقة مرةً أخرى، فنحن نؤمن بالمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين".

وفي 25 آذار/ مارس، أوضح المتحدث باسم لجنة تقصّي الحقائق في أحداث الساحل ياسر الفرحان، في مؤتمر صحافي، أنّ "الاجتماعات مع أطراف الأمم المتحدة كانت إيجابيةً جدّاً والمنظمة الدولية رحّبت بتشكيل اللجنة وبعملها، ونرجح إنشاء محكمة خاصة لملاحقة المتورطين في أحداث الساحل… وهناك صعوبة في إنجاز مهمتنا خلال 30 يوماً، ومن الممكن أن نطلب تمديد المهلة، والتحرّك في المناطق التي شهدت الأحداث ما زال خطراً، وبعض الشهود وأهالي الضحايا يتخوّفون من التواصل مع اللجنة".

ختاماً، تنصّ المادة 3 والمواد من 12 حتّى 23، من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 13 آذار/ مارس الجاري، على حرية الاعتقاد والأحوال الشخصية للطوائف، وصون حقوق الإنسان والمواطن وحرياته الخاصة، ومنها حرمة الحياة، وحقّ الملكية الخاصة والمساكن الخاصة، وحرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة، وحقوق المرأة والأسرة والطفل. فإلى أيّ مدى تستطيع الحكومة الحالية الوفاء بمسؤوليتها في هذا الشأن؟

*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر لاعتبارات السلامة الشخصية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image