شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
سوريا وثقافة المجزرة

سوريا وثقافة المجزرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتطرف

الاثنين 10 مارس 202501:32 م

يتساءل البعض عن الأسباب المباشرة التي قادت إلى ارتكاب مجازر بحق علويي الساحل السوري. قسم يتحدث عن مؤامرة إيرانية وثانٍ عن مخطط أميركي- إسرائيلي وثالث عن مكيدة روسية... ولكن هل هذا هو السؤال الأساسي الذي ينبغي طرحه الآن؟ هل هنالك ما يمكن أن يبرر المجازر التي تستهدف مدنيين مسالمين؟

ينجذب كثيرون إلى تركيز تفكيرهم على الأسباب المباشرة التي أدت إلى اندلاع اشتباكات بين حفنة من المجموعات العلوية المسلحة وبين عناصر من قوة الأمن العام التابعة للنظام السوري الجديد. أسبقية البيضة على الدجاجة أو عكسها حاضرة دائماً في تفكيرنا بالأسباب والمسببات.

ويسقط كثيرون من هؤلاء في فخ تبرير المجازر لأنهم ركّزوا على البحث عن إجابات عن سؤال هامشي في لحظة معيّنة. فالسؤال الأساسي الآن ليس كيف بدأت الاشتباكات بين مسلّحين. السؤال الآن هو: كيف ولماذا تمددت الاشتباكات لتتحول إلى غزوة يشنّها عسكريون مسلحون ومنظَّمون على قرى علوية، ويرتكبون خلالها مجازر جماعية بحق مدنيين عُزّل، ترقى إلى التطهير العرقي.

ما جرى ولا يزال يجري في سوريا يطرح علينا ضرورة التفكير في كراهية "الآخر" المنتشرة بين فئات واسعة من مجتمعاتنا، وفي ثقافة الانتقام، وفي ثقافة المجزرة المعششة في رؤوس كثيرين منّا، وفي ثقافة تبرير المجازر الجاهزة حتى قبل ارتكاب المجازر


المَقْتلة الطائفية

يمكن أن نتحدث إلى ما لا نهاية عن أسباب الاشتباكات التي بدأت مساء الخميس، في السادس من آذار/ مارس الحالي. ولنفترض وجود مؤامرة ضد النظام السوري الجديد، بماذا تفيدنا بالضبط هذه الفرضية في تحليل ما يجري؟ هل الحدث المحوري اليوم هو الاشتباكات التي تقع بين عصابات من فلول نظام الأسد وبين قوات عسكرية من النظام الجديد، وحدث مثلها الكثير منذ سقوط نظام الأسد؟ أم الحدث المركزي هو المَقْتلة الطائفية التي تقع أمام أعيننا مخلّفة مئات الضحايا من العلويين وقرى محروقة يحترق معها مستقبل سوريا؟

ما جرى ولا يزال يجري في سوريا يطرح علينا ضرورة التفكير في كراهية "الآخر" المنتشرة بين فئات واسعة من مجتمعاتنا، وفي ثقافة الانتقام، وفي ثقافة المجزرة المعششة في رؤوس كثيرين منّا، وفي ثقافة تبرير المجازر الجاهزة حتى قبل ارتكاب المجازر وهو أمر يدلّ إذا دلّ على هامشية السؤال عن الأسباب المباشرة للأحداث.

لم يبدأ كل شيء مساء الخميس

علينا العودة إلى تاريخ أقدم. علينا العودة إلى الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، يوم إعلان إسقاط نظام الأسد. يومها نصّبت "هيئة تحرير الشام" نفسها سلطة أمر واقع وراحت، خطوة وراء خطوة، تعمل على تمكين سيطرتها على كافة الأطراف الأخرى، بمنطق غلبة لا يولي أي أهمية للحوار مع المجتمع السوري شديد التنوع سياسياً، والأهم دينياً وعرقياً، وبمنطق إسلامي يريد من كل الجماعات الأهلية غير السنّية أن ترضى بأن تتحوّل، مقابل أمنها وأمانها وحقها في الحياة، إلى ما يشبه "أهل ذمّة".

وهذا لا يكفي. علينا العودة أكثر في الماضي، إلى الربع الأول من العام 2011، عندما طالبت شرائح واسعة من السوريين بحقوقها وبحرياتها، فلاقتها أجهزة الأمن بسفك الدماء، ما أوقع سوريا في أتون عدة حروب أهلية متزامنة، أشرسها تلك التي اتخذت شكلاً دينياً- مذهبياً.

كان نظام الأسد أحد طرفي هذا الصراع، ورفع، بين ما رفعه، شعار "حماية العلويين"، واستقدم إلى سوريا ميليشيات شيعية متعددة الجنسيات تابعة لإيران. أما طرفه الآخر، فكان جماعات عسكرية مختلفة المشارب والتوجهات، سرعان ما اختفى جزء كبير منها ولم يتبقَّ في الميدان تقريباً إلا جماعات ذات خلفيات سلفية جهادية، استقدمت بدورها إلى سوريا جهاديين من مختلف الجنسيات، وأبرزها "جبهة النصرة" التي تحوّلت لاحقاً إلى "جبهة فتح الشام" ثم إلى "هيئة تحرير الشام"، ومنها أتت السلطة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع.

وكان عنوان المجازر الطائفية حاضراً في تلك الحرب، وارتكبها طرفا الصراع، وإنْ كان عنف النظام السوري وهيئاته الرديفة وحلفائه أوسع بأضعاف، والأرجح أن ذلك ارتبط بما توفّر لكل طرف من قَتَلة وعدّة قتل، وليس أكثر.

وأيضاً هذا لا يكفي. علينا العودة إلى النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي وصراعات الضباط المتحدرين من أقليات دينية مع زملائهم السنّة، وما تلا ذلك بعد فترة وجيزة من صراع بين ضباط الأقليات أنفسهم، ثم بين الضباط العلويين أنفسهم، وصولاً إلى استفراد الرئيس السوري حافظ الأسد بالحكم وما أعقبه من صراع بين نظامه وبين الإخوان المسلمين أفضى إلى مجازر أزهقت أرواح آلاف المدنيين السنّة في مدينة حماة.

وحتى هذا لا يكفي. علينا العودة أكثر إلى تأسيس سوريا واشتهارها بالانقلابات العسكرية. بل علينا العودة إلى ما قبل سوريا، إلى تشكيل الانتداب الفرنسي أربع دويلات (دولة العلويين، دولة الدروز، دولتي دمشق وحلب) قبل جمعها في دولة سورية واحدة، وها نحن بعد عقود من ذلك يمكن أن نتساءل عن جدوى توحيدها! وبل علينا العودة إلى الحقبة العثمانية ومسألة الأقليات الدينية في السلطنة...

في ظروف تبدو فيها نار الانقسام والطائفية ظاهرة للعيان، قررت السلطة السورية الجديدة إطلاق جحافل مجموعات إسلامية سنّية ذات خلفيات جهادية لفرض السيطرة على مناطق العلويين الذين يُعتبرون كفرة في أدبيات كل هذه المجموعات... فماذا كانت تنتظر؟

مسلسل الأقليات

لم يبدأ كل شيء بعد سقوط نظام الأسد، ولم يبدأ عام 2011، ولم يبدأ مع حكم البعث، ولم يبدأ حتى مع تأسيس سوريا. المجازر الأخيرة بحق العلويين لم تأتِ من فراغ بل تناسلت من بدايات كثيرة يصعب حصرها.

هي حلقة جديدة من مسلسل مسألة الأقليات في المشرق التي لم ينوجد حتى الآن الحل المناسب لها. الأقليات في سوريا اليوم، كما كل أٌقليات المشرق، مضطربة بين خياريْ الانفصال الجغرافي والاتحاد مع الجماعات الأخرى في دولة تحترم التنوّع. أما سنّة سوريا، وبوصفهم أكثرية ديموغرافية، فينقسمون بين نخبة مدينية تدفع نحو دولة مواطنة محايدة دينياً وعرقياً وبين أكثرية شعبية ساقتها الأحداث والجماعات الإسلامية المقاتلة إلى تبني ثقافة الحفاظ على سوريا موحدة ذات سلطة مركزية يهيمن فيها السنّة العرب على الآخرين، بوصفهم "القوم الأعلى شأناً".

في هذه الظروف شديدة التعقيد، حيث نار الانقسام والطائفية ظاهرة للعيان، وليست حتى تحت الرماد، قررت السلطة السورية الجديدة إطلاق جحافل مجموعات إسلامية سنّية ذات خلفيات جهادية، لم تنتظم بعد في سلك عسكري منضبط، لفرض السيطرة على مناطق العلويين الذين يُعتبرون كفرة في أدبيات كل هذه المجموعات، والذين يُحَمّلون وزر ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم بحق السنّة.

ماذا كانت تنتظر؟ النتيجة معروفة وها هي تُكتب أمام أعيننا بدماء العلويين لتضع مستقبل السوريين أمام احتمالين: إما حكم إسلامي مستبد أو دولة جديدة محايدة دينياً يشارك كل السوريين في رسم ملامحها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

العدالة الاجتماعية ضرورةٌ ملحّة

بينما يحسب المتطرّفون أنّهم يحملون لواء العدالة، لكنّهم في الواقع، يتحدّون جوهرها، وهو أنّ لكلّ امرئٍ الحق في الشعور بأنّ رأيه وكيانه ووجوده أشياء مُقدَّرة، ولو اختلف مع الآخر.

في رصيف22، نسعى إلى نقل رؤيتنا، لنُظهر للعالم كيف بإمكان العدالة الاجتماعية والمساواة تحسين حياتهم، من دون تطرّفٍ، بل بعقلانيةٍ مُطلقة.

Website by WhiteBeard
Popup Image