دعونا ننطلق من نقطة أساسية: قف دائماً في الجهة المقابلة للعدوّ الإسرائيلي، وستكون على حقّ. هذه قاعدة ذهبية لا تحتاج إلى تحليل سياسي معقّد، أو مناظرات فكرية مطوّلة. فكلما وقفت إسرائيل في جهة، من البديهي أن تكون الجهة الأخرى هي الصواب. وهذا ليس اجتهاداً سياسياً، بل حقيقة بسيطة تأكدت عبر عقود من الزمن، وبآلاف الغارات والصواريخ التي لا تفرّق بين أحد.
العدوان الإسرائيلي: هواية قديمة لا تنتهي
منذ أن قرّرت إسرائيل أنّ وجودها "المزعوم" في هذه المنطقة، أمر طبيعي، وهي حريصة على تذكير الجميع بعدوانيتها بين الحين والآخر، سواء عبر القصف، أو التوغل، أو الاغتيالات، أو حتى مجرد التهديدات التي تصدر بين وجبة حكومية وأخرى. وعلى مدار السنوات الماضية، تحوّلت الغارات الإسرائيلية على سوريا إلى شيء يشبه برنامجاً أسبوعياً، إلى درجة أنّ البعض في سوريا قد يضبط ساعته على توقيت الغارة القادمة، تماماً كما يحدث مع المسلسلات التلفزيونية.
أما التبرير الإسرائيلي لهذه الضربات، فهو أكثر الطرائف السياسية التي يمكن سماعها في هذا العصر: "الدفاع عن النفس". وكأنّ قصف مواقع في دولة ذات سيادة، على بعد مئات الكيلومترات من تل أبيب، يدخل ضمن تعريف الدفاع عن النفس الذي لم ندرسه في أيّ كتاب قانوني أو سياسي من قبل. لكن لا بأس، فالإسرائيلي لا يحتاج إلى تبريرات مقنعة، طالما أنّ العالم مستعدّ لتصديق أيّ شيء يصدر عنه، مهما كان عبثياً.
لأنّ الشمس لا تُغطّى بغربال، و"ما فينا نتخبّى ورا خيال إصبعتنا"، فلا داعي لإنكار الحقيقة: السوريون منقسمون. طائفياً؟ نعم. سياسياً؟ بالتأكيد. عرقياً وأيديولوجياً؟ بالطبع. لكن وسط هذه الفوضى، تأتي الغارات الإسرائيلية لتذكّر الجميع بأنّ هناك عدوّاً مشتركاً، لا يفرّق بين أحد
إسرائيل والخدمات المجانية للسوريين
ولأنّ الشمس لا تُغطّى بغربال، و"ما فينا نتخبّى ورا خيال إصبعتنا"، فلا داعي لإنكار الحقيقة: السوريون منقسمون. طائفياً؟ نعم. سياسياً؟ بالتأكيد. عرقياً وأيديولوجياً؟ بالطبع. لكن وسط هذه الفوضى، تأتي الغارات الإسرائيلية لتذكّر الجميع بأنّ هناك عدوّاً مشتركاً، لا يفرّق بين أحد، ولا يهتمّ لأي تصنيفات داخلية. وهكذا، يجد السوريون أنفسهم، ولو للحظات نادرة، موحّدين في وجه العدوان، ومتّفقين على موقف واحد: "إسرائيل عدوّ، وعدوانها مرفوض".
قد يكون من الصعب اليوم العثور على نقطة يلتقي حولها السوريون جميعاً، بعد أكثر من عقد من الانقسام والتشظّي. قد يختلفون في السياسة، والاقتصاد، والأيديولوجيا، وحتى على نوعية القهوة المفضلة، لكنهم يجتمعون، ولو بغير اتفاق مسبق، على رفض الاعتداءات الإسرائيلية. وهذه الوحدة العفوية قد تكون آخر ما تبقّى من ملامح الوجدان الجمعي السوري، ذلك الشعور الذي كان يوماً ما بديهياً قبل أن تفتّته السنوات العجاف.
السوري قد يختلف مع السوري على أيّ شيء: السياسة، الاقتصاد، الهوية، وحتى على نوع القهوة الأفضل. لكنه لا يختلف أبداً على العداء لإسرائيل.
أما بالنسبة إلى السويداء، التي يحاول نتنياهو، الحديث عن "حمايتها" و"حماية الدروز فيها"، فقد جاءه الردّ سريعاً من ساحات الكرامة، حيث رفض أبناء الجبل أيّ تدخّل إسرائيلي في شؤونهم الداخلية. يحدّثني صديقي عن عادة قديمة لدى أهالي السويداء في إكرام الضيف؛ عندما يريدون التعبير عن ترحيبهم الكبير بشخصٍ ما، يقدّمون له الرصاص على طبق، فيأخذ رصاصةً ويضعها في جيبه كتعبير عن الثقة والاحترام. فإذا كان أهالي السويداء يستقبلون ضيوفهم بالرصاص، فكيف، يا "بيب"، سيكون استقبالهم لك إن حاولت الدخول إلى أراضيهم؟
والدليل؟ خروج طلاب السكن الجامعي الذي يضمّ خليطاً من المحافظات السورية كلها، إلى الساحات، بعد أقلّ من ساعة على العدوان، وهم يهتفون: "يا درعا نحنا معاكِ للموت_ الموت ولا المذلّة عن الجنوب لا ما نتخلّى". كأنهم يقولون بشكل غير مباشر: لدينا من المشكلات ما يكفينا، ولسنا بحاجة إلى عدوّ إضافي يختبر صبرنا.
التطبيع؟ شكراً... لا نريد المزيد من الكوارث
في خضمّ هذا المشهد، يأتي من يحاول إقناعنا بأنّ التطبيع مع إسرائيل قد يكون حلّاً. وهنا يجب أن نتوقف للحظة، ونفكر في الأمر بعقلانية (قدر الإمكان). من الناحية الواقعية، ما الذي سيجنيه السوريون من التطبيع مع كيان يقصف أراضيهم بشكل روتيني؟ هل سيحصلون على أسعار مخفّضة للفواكه الإسرائيلية؟ هل ستتوقف تل أبيب عن قصفهم فجأةً بدافع الامتنان؟ أو أنّ التطبيع سيكون مجرد إضافة جديدة إلى سلسلة الكوارث التي لم تعُد سوريا تحتملها؟
كل ما في الأمر أنّ الإسرائيلي، بعنجهيته المعتادة، يفترض أنّ الجميع سينتهي بهم المطاف إلى طرق بابه، متناسياً أنّ هناك شعوباً قد تضعف، تُنهك، وتتعرض لكل أشكال الضغوط، لكنها في النهاية تعرف أنّ هناك خطوطاً لا يمكن تجاوزها، وإسرائيل خطّ من هذه الخطوط. السوري، الذي ربما فقد الكثير، لم يفقد بعد وعيه بهذه القضية، ولا يحتاج إلى تذكير بأنّ العدوّ لا يتحول إلى صديق بجرّة قلم، أو بصفقة اقتصادية، أو بمكالمة هاتفية تحت الطاولة.
ما الذي سيجنيه السوريون من التطبيع مع كيان يقصف أراضيهم بشكل روتيني؟ هل سيحصلون على أسعار مخفّضة للفواكه الإسرائيلية؟ هل ستتوقف تل أبيب عن قصفهم فجأةً بدافع الامتنان؟ أو أنّ التطبيع سيكون مجرد إضافة جديدة إلى سلسلة الكوارث التي لم تعُد سوريا تحتملها؟
"شكراً إسرائيل؟"
أكبر خدمة يمكن أن يقدّمها أحد للشعب السوري، هي تحديداً ما يفعله نتنياهو، الآن. فهذه ربما أقرب فرصة لنا كشعب لنلتقي في نقطة مشتركة، وننسى -ولو مؤقتاً- كلّ الخلافات التي قسمت البلاد وأهلها لسنوات. وإن لم نغتنم هذه اللحظة، فقد نكون قد أضعنا على أنفسنا وعلى البلد فرصةً للوحدة قد لا تتكرر في المستقبل القريب.
السوري قد يختلف مع السوري على أيّ شيء: السياسة، الاقتصاد، الهوية، وحتى على نوع القهوة الأفضل. لكنه لا يختلف أبداً على العداء لإسرائيل. هذه القناعة، المتجذرة في الوجدان السوري، لم تفلح كل الأحداث والتغيرات في زعزعتها، وهي ربما آخر ما تبقّى مما يجمع السوريين جميعاً، برغم كل شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Some One -
منذ 4 أيامالذي كتب وتخيل هذه العلاقة، وتخيل مباركة الوالدين، وتقبل المجتمع لهذه المثلية الصارخة. ألم يتخيل...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ أسبوعyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ أسبوعأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ أسبوعتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ أسبوعغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...