يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
حين جلستُ أفكر في ما يمكن لفتاة في أواخر العشرينات من عمرها، لم تغادر دمشق قطّ إلا صوب شقيقاتها الأكثر بؤساً، أن تتخيله، لم أستطع أن أتخيّل عوالم بعيدة المنال، أو غير حقيقية، أكثر من الحياة العادية نفسها. وهذا ليس عيباً في مخيّلتي، بل عيب في الواقع نفسه الذي نعيشه عندما يؤطّر حدود الخيال بأشياء من هذا النوع.
ما الذي يمكن أن يتخيّله المقيم في دمشق، أو في أيّ مدينة سورية أخرى، إن لم تكن عودة فقيد أو ميت؟ سأقول لكم: سيتخيّل أنّ بإمكانه شراء شقّة صغيرة بعد أكثر من عشر سنوات من العمل المُهلك، أو أقلّ الإيمان، سيارة صغيرة "بالتقسيط المريح"، أو ربما سيكون لديه من الجرأة ما يجعله يتخيّل نفسه من دون "دين شهري"، لأنّ راتبه الشهري يكفيه وزيادة. بعبارة أخرى: سيتخيّل حياةً عاديةً، لا تخلو من المشقّات أو المنغّصات بالطبع، ولكن هذه الأخيرة لا تصبح الحياة نفسها، ولا يكون الاستثناء فيها تحوّلها إلى مصائب وكوارث.
ولأنّ هذا الخيال ليس خيالي وحدي، بل خيال الآلاف من أبناء جيلي، ستدور هذه القصة المتخيلة حول حياة عادية متخيّلة لعائلة سورية صغيرة. الزوجة صحافية، مثلي، تعيش بعض المنغّصات في أحد أيام عطلتها الرسمية، وزوجها يعمل في شركة خاصة، يبدو أنها ناجحة. وفي ما يلي تفاصيل من يوم واحد من حياتهما، في مذكرة متخيَّلة للزوجة المتخيِّلة، عن أحداث متخيَّلة.
ما الذي يمكن أن يتخيّله المقيم في دمشق، أو في أيّ مدينة سورية أخرى، إن لم تكن عودة فقيد أو ميت؟
"خلّينا نحكي المسا"
"اليوم أحسم هذه المسألة نهائياً. سنغيّر مكان إقامتنا. هاتفتُ زوجي لأعلمه بذلك، فضحك قائلاً: "منحكي المسا بس أرجع عالبيت". ولكنني أؤكد له أنّ هذه ليست مزحةً، وأن لا رجعة لي عن هذا القرار. فيقول وقد استمرّ في الضحك: "ماشي ماشي، بس خلّينا نحكي المسا، هلأ مشغول شوي".
كل يوم جمعة، وهو يوم عطلتي الرسمية الوحيد، يحدث هذا. يحبّ جيراني تنظيم "الصبحيات" منذ السابعة صباحاً. أسمعهم على الشرفة المجاورة لغرفة نومي، وهم يتحدّثون عن رجال أعمال أجانب لقوا حتفهم في قاع المحيط خلال رحلة ترفيهية، ويناقشون "البيتكوين"، ناهيك عن صوت ارتطام الأطباق والكؤوس.
إلهي، لماذا عليّ أن أخوض معهم في هذا كله؟
ثمة مشكلة كبيرة في معظم أحياء دمشق وأبنيتها السكنية: استمرار نهج "عيرني كتفك". فمثلاً، إذا خرجتَ لتجلس في الشرفة، أصبح وجهك ملاصقاً لوجه جارك، وإذا نشب خلاف في منزلك، سمع به ساكنو البيت الذي بجوارك كلهم. وإذا جاءك ضيف، عرف كل من في المنازل المحيطة متى دخل هذا الضيف، ومتى خرج. وهكذا، أنت لا تسكن في منزلك وحدك، جيرانك كلهم يسكنون معك، والمصيبة أنك تسكن معهم أيضاً!
وأنا، ليس لديّ سوى يوم عطلة واحد لأنام كيفما يحلو لي. ولكن هذه "بعيدة عن أسناني".
على طاولة العشاء، نقرر أنا وزوجي الاستعانة بمكتب عقاري، وقد اتفقنا: سننتقل إلى حيّ سكنيّ جديد، وستكون فيه الشقق بعيدةً عن بعضها. يخبرني عن يومه في العمل، فيقول إنّ حجم المبيعات ارتفع هذا الأسبوع بشكل كبير في الشركة، وسينال كل موظف مكافأةً ماديةً قيّمةً. أسأله إن كانت هذه المكافأة تكفي لتبديل الأرائك واستبدالها بأرائك جديدة؟ فيطمئنني بأنها تكفي حتى لتبديل الستائر وأسرّة الأولاد.
قطّ يسرق أساور ذهبيةً
لقد كان اليوم ماطراً وبارداً جداً، ولهذا لم أغادر المنزل. ولأنني استيقظت، أو أُوقِظت، باكراً جداً، أمضيت النهار كله في القراءة. المنازل في دمشق دافئة حتى في أشدّ أيام البرد. الحمد لله أننا لا نعيش في كندا، أو السويد. لديّ صديقتان تعيشان هناك منذ سنوات، وقد أكدتا لي أنّ الحياة مستحيلة في هذين البلدين الباردين الموحشين.
يا إلهي، ما الذي يدفع الإنسان إلى استبدال كل هذا الدفء والحميمية في دمشق، بصقيع أمريكي أو أوروبي باهت؟
نشرات الأخبار على التلفزيون مملّة. على الرغم من أنني أعمل في مجال الصحافة المحلية منذ أكثر من عشرة أعوام، إلا أنّ كل ما نفعله هو كتابة الأخبار عن زيارات الحكومة واجتماعاتها، والصادرات والواردات، وعن تدمر وبصرى ومعلولا. الحدث الأكثر إثارةً الذي غطّيته في إحدى المرات، كان عن قطّ اقتحم منزل سيّدة مسنّة في منطقة باب شرقي، وسرق مصاغها. صوّره جارها بهاتفه المحمول، قبل أن يقبضوا عليه متلبّساً وهو يشدّ مجموعة أساور ذهبية بين أسنانه. نشرت الوسيلة الإعلامية التي أعمل فيها، التقرير الذي أعددته عن الحادثة على منصة "إنستغرام"، وانتشر حتى أستراليا. نعم، هذا صحيح، نقلته عنّا العديد من المنصات الأجنبية، وشاهده في إحدى المرات أكثر من 10 ملايين شخص. المفاجئ أنّ الكثير من الناس لا يعرفون ما هي سوريا!
المنازل في دمشق دافئة حتى في أشدّ أيام البرد. الحمد لله أننا لا نعيش في كندا، أو السويد. لديّ صديقتان تعيشان هناك منذ سنوات، وقد أكدتا لي أنّ الحياة مستحيلة في هذين البلدين الباردين الموحشين.
لجيراني محاسن أيضاً
عاد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة مجدداً. لم يتحدث عن المنطقة العربية كثيراً. لديه خطط واعدة في أن تسهم الولايات المتحدة في حلّ أزمات اللاجئين خلال السنوات الخمس المقبلة، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في ظروف إنسانية صعبة. لقد سمعت كثيراً عن أولئك الآسيويين الذين يعيشون ظروفاً صعبةً في أيسلندا، عن طريق كتاب قرأته مؤخراً. تتعامل معهم الشعوب الأصلية على نحو عنصري، ويتم اضطهادهم ولفظهم من المجتمع... ما الذي يدفعهم إلى ترك أوطانهم؟ الحمد لله أنني من دمشق، وأعيش في دمشق. فعلى الرغم من إزعاجات جيراني المتكررة، إلا أنّ لهم أيضاً محاسن أخرى عديدةً، فمثلاً هم يذكرون طفليَّ بـ"زبادي محلاية"، ويكونون أول المهنئين بالعيد، وأول المساندين في أوقات الأزمات. ما زلتُ أذكر أنه عندما توفي والد زوجي، في بيتنا قبل عام، اضطررنا إلى إسعافه قبل ذلك إلى المستشفى. بقي معنا أحد الجيران حتى وقت متأخر من الليل، في حين أمضى طفلاي ليلتهما عند جيران آخرين.
يا إلهي، ما الذي يدفع الإنسان إلى استبدال كل هذا الدفء والحميمية في دمشق، بصقيع أمريكي أو أوروبي باهت؟
صفقة غير رسمية
ولكن قرار تغيير السكن لا بدّ منه. لقد تزوّجنا في هذا البيت وأنجبنا طفلينا فيه، وبعد أن أصبح عملنا مريحاً ومربحاً نوعاً ما، بات من الممكن الانتقال إلى شقّة أوسع. سنطلب من الوكيل العقاري أن يعثر لنا على شقّة في حيّ قريب من العمل، فيه مدارس جيدة أيضاً. المدارس؟ أوه، المدارس لم تعد كما كانت على أيامنا، فالمدارس الحكومية اليوم تعلّم الإنكليزية والفرنسية بدءاً من الصفّ الابتدائي الأوّل. ولكن عموماً، هذه قفزة مهمة في مسار تطوّر التعليم في بلادنا، وثقيلة على كتفَي أمّ عاملة ومربية في وقت واحد. لا بدّ من إلحاقهم بمعاهد أو الإتيان بأساتذة متخصصين إلى المنزل! سأناقش هذا مع زوجي لاحقاً.
تشغلني مسائل الأطفال دوماً، أشعر بأن زوجي قد ترك لي هذه المهمة في صفقة غير رسمية. لعلّ هذا شأن معظم الأسر في سوريا، فالآباء مشغولون دوماً، والأمهات، عاملات أم مربّيات، يتحمّلن وحدهنّ تدبير أمور أطفالهنّ. هل أستطيع أن أحصي كم مرةً اضطررت فيها إلى ترك العمل لتدبير أمر من أمورهم الطارئة؟ ليس هذا فحسب، فعندما يحدث هذا، عادةً ما أضطر إلى العودة إلى العمل مجدداً، ومن ثم يأتي دور الطبخ، ونشر الغسيل، وكيّ الثياب، ومسح الغبار، واستقبال ضيف... إلخ.
أحتاج إلى مأزق!
تتشابه الأيام على نحو مقلق في حياتي. صحيح أننا نرتّب المشاوير في نهاية كل أسبوع، وأننا نسافر خارج البلاد في أغلب العطل الطويلة، وصحيح أنه ما زال في مقدوري التفرغ لتعلّم مهارات جديدة والقراءة، ولكن لا شيء مثيراً يحدث حقاً. أشعر بأنني بحاجة إلى تحدٍّ من نوع يثير في حياتي حاجةً إلى الركض غير نوع الركض في البيت أو خلف الأطفال. ركض يبتعد عن أروقة المكاتب الحكومية والدوائر الحكومية والأصوات الحكومية التي لا تقول إلا ما تقوله في كل يوم. أشعر بأنني بحاجة إلى ثورة هائلة تضعني في مأزق، مشكلة... يمكنني فيها أن أتعرّف على نفسي في الأوقات غير العادية، في أوضاع وظروف غير آمنة... كيف سأتصرف؟ ماذا سأفعل؟ هل ستخرج مني نسخة عن امرأة أخرى؟ كيف سأكون تحت التهديد وفي المصاعب؟ وفي بلاد باردة غير بلادي؟ وفي شقّة بعيدة عن صبحيات جيراني وزبادي المحلاية خاصتهم؟ كيف سأكون في حال كنت مهاجرةً آسيويةً عند الأيسلنديين؟ ماذا سأكتب لوسيلتي المحلية حينها؟ هل أحتاج إلى ثورة تخصّني حتى أخرج من "الأيام العادية"، أو إلى ثورة من نوع آخر؟
غداً هو يوم السبت، أبلغني رئيس التحرير قبل أيام بأنّ عليّ تغطية مؤتمر سيحضره ممثلون عن دول أجنبية وعربية، ناشطون في مجال البيئة والمناخ. سيناقشون ربما احتمالية استضافة دمشق مؤتمر الأمم المتحدة للتغيّر المناخي 30 COP...
ثورة على الرتابة الآمنة
لا أعرف. وقد بدأت أشعر بالنعاس بالفعل الآن. غداً هو يوم السبت، أبلغني رئيس التحرير قبل أيام بأنّ عليّ تغطية مؤتمر سيحضره ممثلون عن دول أجنبية وعربية، ناشطون في مجال البيئة والمناخ. سيناقشون ربما احتمالية استضافة دمشق مؤتمر الأمم المتحدة للتغيّر المناخي 30 COP...
ربّاه! سيثير هذا المؤتمر جنون ناشطي المناخ في سوريا، لقد خاضوا معارك كبيرةً خلال السنوات الماضية مع الحكومة وشركات النفط في البلاد، وتظاهروا عشرات المرات ضدّها... غطّيتُ بنفسي احتجاجَين، ولكن الحكومة حينها حلّت الإشكالية بحنكتها. في المقابل، هاجم حزب معارض أولئك الناشطين، قائلاً إنهم يغضّون الطرف عن مآزق أكبر في البلاد، على رأسها حقيقة أن أكثر من 30% من خرّيجي الجامعات بلا عمل، وأن أزمة كساد تلوح في الأفق. لقد كتبتُ عن هذه القضايا أكثر من أربعة تحقيقات صحافية، ولكنني لا أعرف لماذا تخوض الأحزاب مثل هذا النوع من المعارك؟ أليس لكل حزب شأنه وقضيته؟ هل يكمّم ناشطو البيئة أفواههم عن الكوارث التي تحدث لأنّ ثمة أولويات أكثر إلحاحاً الآن للحديث عنها؟ عجيب أمرهم.
وحتى هذا النوع من المعارك، أصبح عادياً، يملّه القرّاء السوريون، يملّون أيامهم العادية، مثلي، ويحتاجون إلى ثورة تغيّرهم. ثورة تحرّكهم من مناطق الراحة التي يعيشون فيها... ثورة على الرتابة الآمنة التي تنهش أحذيتهم الرياضية، وعضلات سيقانهم، وتزيد أرطال الدهون في أفخاذهم وبطونهم...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نداء حرب -
منذ 19 ساعةإثبات هلال رمضان يختلف بين الدول والمذاهب الإسلامية، وغالبًا ما يعتمد على طرق متعددة مثل الرؤية...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ أسبوعyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ أسبوعأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ اسبوعينتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ اسبوعينغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...