شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تلاوات قرآنية عُدّت

تلاوات قرآنية عُدّت "خطراً" على الأزهر… ظاهرة الشيخ عنتر مسلم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والخطاب الديني

الخميس 20 فبراير 202501:18 م

لم يكن الشيخ عنتر سعيد مسلم، مجرد قارئ للقرآن في مصر، بل كان ظاهرةً صوتيةً وثقافيةً أثارت الجدل في الأوساط الدينية والشعبية. انطلق من قرية صغيرة في دلتا النيل، وسرعان ما أصبح صوته مألوفاً في المقاهي والمنازل والمساجد، ليس عبر الإذاعة الرسمية فحسب، ولكن من خلال وسيلة لم تكن تخضع للرقابة: أشرطة الكاسيت. كانت هذه الأشرطة نافذته على جمهور واسع، لكنها كانت أيضاً السبب في معركته مع الأزهر، الذي عدّ أسلوبه في التلاوة "ابتداعاً غير مقبول"، بحسب كتاب "Media of the Masses: Cassette Culture in Modern Egypt"، للباحث أندرو سيمون، وهو أستاذ متخصص في الدراسات الشرق أوسطية، يركّز في أبحاثه على وسائل الإعلام الشعبية في مصر، وكيفية تشكيل أشرطة الكاسيت فضاءً بديلاً للتعبير الديني والثقافي خارج سيطرة الدولة.

في إحدى القرى الريفية في دلتا النيل، في 17 شباط/نوفمبر 1936 وُلد طفلٌ لم يُكتب له أن يرى هذا العالم بعينيه، لكنه سيحفظه عن ظهر قلبٍ بصوته. اسمُه عنتر سعيد مسلم، ابن قرية "إما" في محافظة الغربية، والذي شاءت الأقدار أن يُحرَم من البصر في أشهره الأولى، بسبب قطرة طبية خطأ وضعتها جدّته في عينيه. لم يكن هذا الحادث سوى البداية لقصة رجل سيُسمع صوته في كل زاوية من مصر، برغم أنّ الطرق التقليدية لم تكن مُمهدةً له.

كبر عنتر، وسط بيئة يُعدّ فيها حفظ القرآن الكريم مقياساً أساسياً للتعليم والوجاهة، خاصةً لمن لم يكن له نصيب في التعليم الأكاديمي. ومع غياب البصر، بدا أنّ الطريق الوحيد المتاح أمامه هو ما كان متاحاً لكثيرين من المكفوفين في قريته: حفظ كتاب الله عن ظهر قلب، ليصبح إماماً أو قارئاً يتلو في المناسبات الدينية.

كبر عنتر، وسط بيئة يُعدّ فيها حفظ القرآن الكريم مقياساً أساسياً للتعليم والوجاهة. ومع غياب البصر، بدا أنّ الطريق الوحيد المتاح أمامه هو ما كان متاحاً لكثيرين من المكفوفين في قريته: حفظ كتاب الله عن ظهر قلب، ليصبح إماماً أو قارئاً يتلو في المناسبات الدينية

في سنّ الثامنة، كان قد أتمّ حفظ القرآن، لكنها لم تكن مجرد كلمات يرددها، بل عالماً صوتياً كاملاً يتنفس من خلاله. كان صوته قوياً، وذا نبرة مميزة، لكن الأهم من ذلك، أنه كان لديه إحساس نادر بإيقاع الآيات، كأنه يفهم الموسيقى الداخلية للنص القرآني قبل أن يدركها عقله. وبينما كان أقرانه يخططون لإرسال تسجيلاتهم إلى مشايخ الأزهر، أملاً في الظهور عبر الإذاعة الرسمية، لم يكن هذا المسار يجذبه. كان يعرف أنّ هناك شيئاً آخر في صوته، شيئاً غير تقليدي، شيئاً لن يجد مكانه في المؤسسة الدينية الرسمية بسهولة.

في ذلك الوقت، لم يكن أحد يعلم أنّ هذا الطفل الكفيف، الذي نشأ في قرية بالكاد تُعرف خارج محافظته، سيصبح لاحقاً واحداً من أكثر الأصوات إثارةً للجدل في تاريخ التلاوة في مصر. ولم يكن أحد يتخيّل أنّ صوته، الذي بدأ رحلته بين جدران الكتّاب الطينية، سينتشر عبر أشرطة الكاسيت في كل بيت، متجاوزاً الحدود التي رسمتها المؤسسة الدينية، ومحدثاً صدمةً في عالم اعتاد أن تكون أصوات قرّائه منضبطةً في حدود معيّنة.

في الوقت الذي كان فيه أقرانه من حفظة القرآن يتعلمون أحكام التجويد من مشايخ الكتّاب، كان عنتر سعيد مسلم يستمع إلى شيء آخر، شيء لم يكن متوقعاً من طفل كفيف نشأ في قرية ريفية محافظة. كانت الموسيقى تسحره، ليس من باب الترفيه، بل لأنها تحمل سرّ النغم، ذلك العنصر الغامض الذي يجعل الصوت أكثر تأثيراً، وأكثر قدرةً على التسلل إلى القلوب قبل الآذان.

لم يكن استكشافه الموسيقى مجرد فضول عابر. برغم القيود التي فرضتها البيئة الدينية المحيطة به، كان يجد طريقه إلى الأصوات التي يريد سماعها. كان يسترق السمع إلى أمواج المذياع في المقاهي، حيث تُبثّ أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكان يستمتع بتفكيك الألحان في عقله، باحثاً عن الروابط الخفية بين المقامات الموسيقية والتلاوة القرآنية.

لم يكتفِ بذلك، بل بدأ بالتعلم على الآلات الموسيقية، ليس بغرض العزف، بل لفهم كيف تُبنى الجملة الموسيقية، وكيف يمكن للصوت أن يتماوج بين الطبقات الصوتية المختلفة. كان العود والكمان وسيلتَيه لاستكشاف هذا العالم، ما منحه إدراكاً فريداً للمقامات الموسيقية العربية التي ستصبح لاحقاً العلامة الفارقة في أسلوب تلاوته.

لكن هذا الأسلوب لم يكن موضع ترحيب لدى الجميع. في عالم التلاوة التقليدي، هناك حدود صارمة تفصل بين الترتيل والطرب، وبين الخشوع الفني والتلاعب النغمي. عدّه البعض مجدداً أعاد الروح إلى النصوص القرآنية، بينما رأى فيه آخرون خروجاً غير مقبول عن القواعد، وخلطاً بين المقدّس والدنيوي.

ما بدأ كبحث شخصي عن الصوت، سرعان ما تحول إلى جدل ديني وثقافي واسع. معركة لم يكن الشيخ عنتر، يتوقعها، لكنها ستكون السمة الأبرز في مسيرته. ولم يكن الأزهر، المؤسسة الدينية الأهم في مصر، مستعداً لاستقبال قارئ بهذا النمط، خاصةً عندما بدأ صوته ينتشر بطريقة لم تعد تخضع لأي سلطة رسمية.

صعود نجم الشيخ عنتر: كيف منحته أشرطة الكاسيت صوتاً مسموعاً؟ 

لم يكن الشيخ عنتر سعيد مسلم، بحاجة إلى ميكروفونات الإذاعة الرسمية ليصل صوته إلى الناس. بدلاً من ذلك، وجدت تلاواته طريقها إلى جمهور واسع عبر أشرطة الكاسيت، تلك الأداة التي غيّرت الطريقة التي يسمع بها المصريون كل شيء، من الأغاني إلى الخطب الدينية. في البداية، كان الأمر عفوياً؛ أحد الحاضرين في مجلس تلاوة يسجّل بصوته الخام ما يسمعه، ثم يمرر الشريط إلى آخر، وهكذا تبدأ السلسلة.

بمرور الوقت، أصبح هناك طلب متزايد على تسجيلاته، ليس فقط في قريته، بل في المدن الكبرى أيضاً. محال الكاسيت في العتبة والموسكي وسور الأزبكية، التي اعتادت بيع أشرطة أم كلثوم وعبد الحليم، بدأت تضع أشرطة الشيخ عنتر بجوارها. لم يكن لديه عقد مع شركة تسجيلات كبرى، ولم تكن هناك حملة ترويجية وراء صوته، لكن ما حدث كان أشبه بعدوى صوتية انتشرت بسرعة، مدفوعةً برغبة الناس في سماع تلاوة مختلفة، أكثر إحساساً، وأكثر خروجاً عن المألوف.

مع ازدياد شعبية تسجيلاته، بدأت بعض ورش التسجيل بإنتاج نسخ محسّنة منها، ما ساعد على انتشارها أكثر. لم يكن الأزهر أو الإذاعة يتحكمان في هذه الأشرطة، ولم يكن هناك رقيب يقرر أيّ الآيات يمكن أن تُقرأ وأيّها لا. هذه الحرية المطلقة التي وفّرها الكاسيت، جعلت الشيخ عنتر أقرب إلى جمهوره من أي قارئ آخر في عصره.

مع حلول الثمانينيات، لم يعد انتشار تسجيلاته مجرد ظاهرة هامشية. في الأسواق الشعبية والمناطق العمالية، كان بإمكانك أن تجد أشرطته تُباع إلى جانب تسجيلات أحمد عدوية وحسن الأسمر، بل تفوقت مبيعاتها عليها. كان هذا أمراً غير مسبوق؛ للمرة الأولى، يصبح لقارئ قرآن جمهور يشتري تسجيلاته بالحماسة نفسها التي يشتري بها ألبومات المطربين الشعبيين.

لكن هذا النجاح لم يكن موضع ترحيب من الجميع. مع تزايد مبيعات تسجيلاته، بدأ الأزهر ينظر إلى شعبيته المتزايدة بعين القلق. لم يكن الأمر يتعلق فقط بكونه قد خرج عن أساليب التلاوة التقليدية، بل لأنه استطاع تحقيق انتشار جماهيري دون المرور عبر الفلاتر المعتادة: الإجازات الرسمية، الاعتماد المؤسسي، والموافقة على أسلوبه. لقد فرض نفسه على الساحة، ولم يكن ذلك شيئاً يمكن أن تتجاهله المؤسسة الدينية بسهولة.

المواجهة مع الأزهر: عندما أصبح الصوت تهديداً

في عالم التلاوة، حيث القواعد محددة بدقة منذ قرون، لم يكن هناك متّسع لمن يشذّ عنها، حتى لو كان صوته يجذب آلاف المستمعين. ومع تزايد شعبية الشيخ عنتر سعيد مسلم، بدا واضحاً أنّ صوته لم يعد مجرد ظاهرة صوتية، بل أصبح ظاهرةً اجتماعيةً أيضاً. كانت تسجيلاته تُباع في الأسواق، وتُتداول في المقاهي، وتُشغّل في سيارات الأجرة، لكن الأهم من ذلك، أنها كانت تصل إلى الناس بعيداً عن أي رقابة رسمية.

لم يكن مفاجئاً إذاً أن تتدخل المؤسسة الدينية. وفي خطوة غير معهودة، أصدر الأزهر قراراً بحظر تلاوته في المناسبات الرسمية، بحجة أنّ أسلوبه لا يلتزم بقواعد التجويد المتعارفة. لم يكن الأمر يتعلق بمخارج الحروف أو المقامات الموسيقية التي استخدمها فحسب، بل كان هناك بعدٌ آخر، غير معلن: كيف استطاع هذا القارئ، الذي لم يأتِ من الأزهر، أن يُحقق هذا التأثير الواسع دون المرور عبر قنوات الاعتماد التقليدية؟ 

على الرغم من أنّ بعض الفقهاء دعوا إلى محو تسجيلاته، بحجة أنها لم تلتزم تماماً بالقواعد التجويدية الصارمة، إلا أنّ هذه الدعوات لم تلقَ استجابةً واسعةً.

لكن الحظر كان غامضاً. لم يُنشر نصّ رسميّ يُحدد الأخطاء التي وقع فيها الشيخ عنتر، ولم تكن هناك لجنة واضحة خرجت بتقرير فني يبرر القرار. كل ما كان متاحاً، تصريحات مبهمة عن "عدم انضباط القراءة" و"مخالفات تجويدية"، وهي عبارات كانت تبدو لكثيرين مجرد غطاء لأسباب أخرى غير معلنة. هل كان الحظر مسألةً فنيةً بحتةً، أو أنّ المشكلة الحقيقية كانت في أنه خرج عن سيطرة المؤسسة الدينية؟ 

في السنوات التي سبقت قرار الحظر، كانت هناك تغيرات كبيرة في المشهد الديني والإعلامي في مصر. بدأت أصوات المشايخ المستقلّين بالبروز عبر أشرطة الكاسيت، بعيداً عن قيود الإذاعة والتلفزيون الرسميين. كان الأزهر، باعتباره المؤسسة الدينية الأكبر، يحاول الحفاظ على سلطته على المجال الديني، لكن الكاسيت كان يغيّر قواعد اللعبة. أصبح بإمكان أي شخص لديه جهاز تسجيل أن يصبح مؤثراً دينياً، والشيخ عنتر كان من أوائل الذين استفادوا من هذه الظاهرة.

الدعم الشعبي والمقاومة عبر الكاسيت

عندما صدر قرار الحظر، لم يكن تأثيره كما أرادته المؤسسة الدينية. وبدلاً من أن يتراجع الشيخ عنتر إلى الظلّ، ازدادت شعبيته. بدا الأمر وكأنّ الأزهر، بمحاولته تقييد صوته، قد منحه دعايةً مجانيةً.

في الأحياء الشعبية، لم يكن الناس يهتمون كثيراً بالنقاشات الفقهية حول أسلوب التلاوة. بالنسبة لهم، كان صوت الشيخ عنتر، قريباً من وجدانهم. كان مختلفاً عن أصوات القرّاء الرسميين الذين بدوا للكثيرين وكأنهم يكررون النمط نفسه دون إحساس جديد. عندما مُنع من التلاوة الرسمية، تحول الاستماع إليه إلى شكل من أشكال التحدي الصامت.

محال الكاسيت التي كانت تبيع تسجيلاته قبل قرار الحظر، بدأت تبيعها بكثافة أكبر، وكأنّ الناس كانوا يسارعون إلى اقتناء صوته قبل أن يُمحى تماماً.

وبرغم قرار الحظر، لم تختفِ تسجيلات الشيخ عنتر من الأسواق. بل على العكس، استمرت مبيعاتها في الأسواق الشعبية ومحال الكاسيت، حيث لم تكن لهذه المتاجر علاقة مباشرة بالمؤسسات الدينية الرسمية. لم يكن الأمر يتعلق بمقاومة أو تحدٍّ، بقدر ما كان مرتبطاً بعادة الاستماع التي لم تتأثر بقرارات الحظر الرسمية.

بالنسبة لكثيرين من مستمعيه، كان صوت الشيخ عنتر، مختلفاً عن الأصوات التقليدية التي اعتادوا سماعها، وكان أسلوبه في التلاوة يمسّ شريحةً واسعةً من الناس، خاصةً في الأرياف والمناطق الشعبية. لذا، حتى بعد منعه من التلاوة في المناسبات الرسمية، لم يكن هناك ما يمنع الناس من شراء أشرطته أو الاستماع إليها في بيوتهم.

بعض بائعي الكاسيت، استمرّوا في بيع تسجيلاته دون أي اعتبار لقرار الحظر، خاصةً أنّ هذه الأشرطة لم تكن مسجّلةً أو مملوكةً لجهة رسمية يمكنها فرض رقابة فعلية عليها. لم يكن هناك دافع سياسي أو محاولة متعمدة لتحدّي الأزهر، بل كان الأمر ببساطة استمراراً لعادة الاستماع التي لم تستطع القرارات الرسمية التأثير عليها.

مع الوقت، وبينما بدأت وسائل الإعلام الرسمية تتجاهل ذكره تماماً، ظلّت تسجيلاته تُباع بشكل طبيعي، وإن كان ذلك خارج الدوائر الرسمية. كان الشيخ عنتر، قد خرج من المجال المؤسسي، لكنه لم يختفِ من المشهد السمعي تماماً، حيث ظلّ صوته مسموعاً لدى جمهوره، وإن لم يعد ذلك مسموحاً به في المحافل الرسمية.

رسالة التوبة وإعادة القبول

في منتصف الثمانينيات، نشر الشيخ عنتر سعيد مسلم، رسالةً في الصحف المصرية يعترف فيها ببعض الأخطاء التي وقع فيها في أثناء التلاوة، في خطوة وُصفت بأنها محاولة لإعادة تأهيل صورته أمام المؤسسة الدينية. وفقاً لبعض الروايات، فإنّ هذه الرسالة كانت المفتاح الذي سمح له بالعودة إلى تسجيل التلاوات، لكن هذه المرة تحت إشراف دقيق من الأزهر.

بحسب الباحث أندرو سيمون، مضمون الرسالة كان إعلاناً رسمياً عن التبرؤ من تسجيلاته السابقة التي عُدّت غير منضبطة وفقاً لمقاييس التجويد المتّبعة. في هذا السياق، روّج بعض مؤيدي الأزهر، لفكرة أنّ الشيخ عنتر نفسه دعا إلى إتلاف أشرطته القديمة، برغم أنّ هذا الادّعاء لم يتم التحقق منه بشكل قاطع.

لكن هل كانت هذه التوبة نابعةً من قناعة حقيقية، أو أنها كانت مجرد محاولة للعودة إلى الساحة بعد أن ضُيّق عليه الخناق؟ لا أحد يعرف الإجابة على وجه اليقين. المؤكد أنّ تسجيلاته لم تتوقف عن الانتشار، حتى بعد نشر رسالة التوبة.

مع تزايد شعبية الشيخ عنتر سعيد مسلم، بدا واضحاً أنّ صوته لم يعد مجرد ظاهرة صوتية، بل أصبح ظاهرةً اجتماعيةً أيضاً. كانت تسجيلاته تُباع في الأسواق، وتُتداول في المقاهي، وتُشغّل في سيارات الأجرة، لكن الأهم من ذلك، أنها كانت تصل إلى الناس بعيداً عن أي رقابة رسمية

اليوم، وبعد عقود من وفاته، لم تعد أشرطة الكاسيت الوسيلة الرئيسية لسماع صوته، فتسجيلاته انتقلت إلى الإنترنت، حيث تُحقّق مئات الآلاف من المشاهدات على يوتيوب. ولم يعد صوته محصوراً في الأسواق الشعبية، بل أصبح جزءاً من أرشيف رقمي متاح عالمياً.

على الرغم من أنّ بعض الفقهاء دعوا إلى محو تسجيلاته، بحجة أنها لم تلتزم تماماً بالقواعد التجويدية الصارمة، إلا أنّ هذه الدعوات لم تلقَ استجابةً واسعةً. في الواقع، أصبح صوته اليوم متاحاً أكثر من أيّ وقت مضى، حيث يتم تحميل تسجيلاته القديمة على منصات مختلفة، ليستمع إليها جيل لم يكن قد وُلد بعد عندما كان صوته يملأ أسواق الكاسيت في الثمانينيات.

وفي مفارقة لافتة، فإنّ الوسيلة التي منحته شهرته، أي أشرطة الكاسيت، قد اختفت تقريباً من الحياة اليومية، لكن صوته، الذي كان مهدداً بالإقصاء، بقي موجوداً في فضاء رقمي لا يخضع للحدود التي حاولت المؤسسة الدينية رسمها في الماضي. وبينما تلاشت سجالات الماضي حول "شرعية" أسلوبه، بقيت تلاوته جزءاً من ذاكرة صوتية يصعب محوها.

الشيخ عنتر بين الجدلية والخلود

لم يكن الشيخ عنتر سعيد مسلم، مجرد قارئ عادي، بل كان ظاهرةً صوتيةً صنعتها الصدفة، وساعدتها التكنولوجيا، ثم اصطدمت بالمؤسسة الدينية، قبل أن تجد طريقها إلى الخلود بطريقة لم يكن يتخيّلها أحد. وبينما رآه الأزهر تهديداً للتقليد، رآه جمهوره صوتاً جديداً خرج عن المألوف في زمن لم يكن يسمح فيه بذلك.

اليوم، وبعد عقود من رحيله، لا يزال صوته يُسمع، لا عبر موجات الإذاعة الرسمية، بل عبر تسجيلات لم تفقد أهميتها، لأنّ أثره لم يكن مجرد تجربة عابرة، بل كان انعكاساً لعصر كانت فيه أشرطة الكاسيت أقوى من أي حظر، وكانت الأصوات التي تأتي من خارج الأطر الرسمية قادرةً على إيجاد جمهورها، حتى لو استغرق الأمر عقوداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image