شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بين النفي والإثبات... هل أفتى شيخ الأزهر الأسبق بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري حقاً؟

بين النفي والإثبات... هل أفتى شيخ الأزهر الأسبق بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري حقاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تُعدّ فتوى شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت، بخصوص المذهب الشيعي الجعفري، علامةً فاصلةً في تاريخ التقارب السنّي الشيعي في العصر الحديث. أجازت الفتوى التعبّد بهذا المذهب، وعدّته مذهباً معتبراً كباقي المذاهب السنّية الأربعة المعروفة عند أهل السنّة. من هو الشيخ شلتوت؟ وما نص تلك الفتوى؟ ولماذا أُثير الجدل حولها؟

من هو الشيخ شلتوت؟

وُلد الشيخ محمود شلتوت، في منية بني منصور التابعة لمركز إيتاي البارود في محافظة البحيرة في مصر في سنة 1893. في صغره حفظ القرآن في قريته، وبعدها انتقل إلى مدينة الإسكندرية ليتابع دراسته في المعهد الأزهري. وفي سن الخامسة والعشرين، نال شلتوت شهادة العالمية ليبدأ عندها حياته الوظيفية، فعُيّن مدرّساً في معهد الإسكندرية سنة 1919، وكان من المشاركين في ثورة 1919، وعُرف عنه تأييده للزعيم الوطني سعد زغلول.

تُعدّ فتوى شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت، بخصوص المذهب الشيعي الجعفري، علامةً فاصلةً في تاريخ التقارب السنّي الشيعي في العصر الحديث. أجازت الفتوى التعبّد بهذا المذهب

في تلك الفترة، اشتهر شلتوت بآرائه الإصلاحية، وكان ذلك سبباً في قيام شيخ الأزهر -المعروف بخططه المستنيرة والتجديدية- محمد المراغي، بنقله للتدريس في القسم العالي في القاهرة، ليتولى تدريس الفقه الإسلامي. بعد استقالة المراغي ووصول محمد الأحمدي الظواهري، إلى منصب شيخ الأزهر في 1929، تم التضييق على شلتوت، فاضطر عندها إلى الاستقالة من منصبه الأزهري، واتجه للعمل كمحامٍ أمام المحاكم الشرعية.

في سنة 1935، عاد الشيخ محمد مصطفى المراغي، إلى منصبه كشيخ للجامع الأزهر. تهيأت الظروف في تلك الفترة لعودة شلتوت إلى وظيفته الأزهرية من جديد، فرجع وتولّى تدريس مادة الفقه المقارن في كلية الشريعة. وفي تلك الفترة جاهر شلتوت بآرائه الجريئة في إصلاح المنظومة الأزهرية التقليدية. في هذا السياق، اصطدم بشيخه المراغي، الذي تباطأ في حركته الإصلاحية خوفاً من أعدائه المتربصين به من أصحاب الفكر التقليدي المتزمت. تذكر بعض المصادر أن شلتوت ألقى في تلك الفترة محاضرةً في كلية الشريعة تحت عنوان "السياسة العلمية التوجيهية للأزهر"، أثنى فيها على المذكرة الإصلاحية التي أصدرها المراغي، وفي الوقت نفسه، عاب عليه تأخير تنفيذ ما ورد في المذكرة من إجراءات.

قال شلتوت في محاضرته: "...لم نزل نشغل أنفسنا بالفروض الفقهية المستحيلة كما اشتغل بها فقهاء العصر المملوكي... ولم تزل الإسرائيليات ذائعةً تملأ كتب التفسير التي تُدرّس في الأزهر... ولم يزل الطلاب يمتحنون في المقروء فحسب، دون أن يتمّوا المنهج، وهم لا يقطعون من الزمن الدراسي في العام الطويل غير أربعة أشهر إن لم تقلّ!... إن ذلك كله يدلّ على أن الإصلاح المدوّن في مذكرة الأستاذ الأكبر قد تجمّد ولم ينطلق". في سنة 1950، عُيّن الشيخ محمود شلتوت، مراقباً عاماً للبحوث والثقافة الإسلامية في الأزهر. بعد اندلاع ثورة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952، عُيّن شلتوت في منصب وكيل الجامع الأزهر، وبعدها تولّى مشيخة الأزهر في سنة 1958، وظلّ في هذا المنصب حتى توفي في الثالث والعشرين من نيسان/أبريل سنة 1963.

من جهة أخرى، كان محمود شلتوت أول شيوخ الأزهر الذين لُقّبوا بلقب الإمام الأكبر. وشهدت فترة مشيخته مجموعةً من الإنجازات الكبيرة، من أهمها إنشاء مجمع البحوث الإسلامية، وإدخال العلوم الحديثة إلى الأزهر. كما أن شلتوت كان أول شيوخ الأزهر الذين سمحوا للفتيات بالالتحاق بالمعاهد الأزهرية.

ألّف شلتوت العديد من الكتب المهمة، ومنها "فقه القرآن والسنّة"، و"منهج القرآن في بناء المجتمع"، و"رسالة المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية"، و"القرآن والمرأة"، و"تنظيم العلاقات الدولية الإسلامية"، و"الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، و"الإسلام عقيدة وشريعة"، و"تفسير القرآن الكريم".

كذلك، عُرف محمود شلتوت بآرائه التجديدية المخالفة للكثير من الأفكار التقليدية الشائعة في زمنه. على سبيل المثال، عمل شلتوت على الإعلاء من شأن المرأة، وأعاد لها حقها المسلوب في المدونات الفقهية التراثية، وقدّم تفسيراً جديداً للآية رقم 282 من سورة البقرة، والتي ورد فيها: "وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ...".

علّق على تلك الآية في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة"، فقال: "إن النص ليس وارداً في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم، وإنما هو وارد في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل". أشار شلتوت كذلك إلى أن هناك عدداً من الحالات التي تتكافأ فيها شهادة المرأة مع شهادة الرجل. على سبيل المثال في اللعان -وهو إذا اتّهم رجل زوجته بالزنى، وليس لديه أربعة شهداء عليها- يشهد الرجل خمس شهادات بأنها زانية، وتشهد المرأة خمس شهادات بأنها بريئة، وهذا يدلّ على المساواة في الشهادة.

في سياق آخر، أفتى شلتوت بإباحة أموال الفائدة المصرفية، وفرّق بينها وبين الربا المحرّم. وعندما سُئل عن رأيه في أرباح صندوق التوفير، قال: "والذي نراه تطبيقاً للأحكام الشرعية، والقواعد السليمة أنه حلال ولا حرمة فيه، ذلك أن المال المودع لم يكن ديناً لصاحبه على صندوق التوفير، ولم يقترضه صندوق التوفير منه، وإنما تقدّم به صاحبه إلى المصلحة من تلقاء نفسه طائعاً مختاراً، ملتمساً قبول المصلحة إياه، وهو يعرف أن المصلحة تستغل الأموال المودعة لديها في مواد تجارية وينذر فيها -إن لم يعدم- الكساد أو الخراز وقد قصد بهذا الإيداع أولاً: حفظ ماله من الضياع، وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد، وثانياً: إمداد المصلحة بزيادة رأس مالها ليتسع نطاق معاملاتها وتكثر أرباحها فينتفع العمال والموظفون وتنتفع الحكومة بفائض الأرباح... فإذا ما عينت المصلحة لهذا التشجيع قدراً من أرباحها منسوباً إلى المال المودع بأي نسبة تريد، وتقدمت به إلى صاحب المال، كانت دون شك معاملة ذات نفع تعاونيّ عام، يشمل خيرها صاحب المال والعمال والحكومة وليس فيها مع هذا النفع العام أدنى شائبة لظلم أحد، أو استغلال لحاجة أحد...".

فتوى التعبّد بالمذهب الجعفري

عُرف الشيخ محمود شلتوت، بجهوده العظيمة في مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية. في أربعينيات القرن العشرين، شارك شلتوت مع مجموعة من العلماء من السنّة والشيعة -ومنهم محمد تقي القمي، ومحمد حسين كاشف الغطاء، ومصطفى المراغي، وعبد المجيد سليم، وحسن البنا، ومصطفي عبد الرازق- في تأسيس جماعة "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية". دافع شيخ الأزهر مراراً عن فكرة التقريب بين السنّة والشيعة باعتبارهما جناحَي الأمة الإسلامية. ظهر ذلك الدفاع واضحاً في المقالات التي نشرها شلتوت في مجلة "رسالة الإسلام" الصادرة عن دار التقريب.

دافع الكثير من الباحثين عن تلك الفتوى باعتبارها فتوى صحيحةً موثقةً صادرةً عن الشيخ شلتوت. كان الشيخ عصام تليمة -تلميذ القرضاوي ومدير مكتبه- من أشهر من قال بذلك.

قال شلتوت في بعض تلك المقالات: "إن دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة، هي دعوة الإسلام والسلام. كنت أودّ أن أستطيع تصوير فكرة الحرية المذهبية الصحيحة المستقيمة على نهج الإسلام، والتي كان عليها الأئمة الأعلام في تاريخنا الفقهي، أولئك الذين كانوا يترفعون عن العصبية الضيقة، ويربأون بدين الله وشريعته عن الجمود والخمول، فلا يزعم أحدهم أنه أتى بالحق الذي لا ريب فيه، وأن على سائر الناس أن يتبعوه، ولكن يقول: هذا مذهبي، وما وصل إليه جهدي وعلمي، ولست أبيح لأحد تقليدي واتّباعي دون أن ينظر ويعلم من أين قلت ما قلت، فإن الدليل إذا استقام فهو عمدتي، والحديث إذا صحّ فهو مذهبي".

تُعدّ الفتوى المنسوبة إلى الشيخ شلتوت، والتي أجاز فيها التعبّد بالمذهب الجعفري، أشهر فتاوى شيخ الأزهر الراحل، وأكثرها إثارةً للجدل.

سُئل شلتوت سنة 1959، عن حكم التعبّد بالمذهب الشيعي الجعفري، فأجاب قائلاً: "إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن، بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره، أيّ مذهب كان، ولا حرج عليه في شيء من ذلك. إنّ مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم، والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات".

الفتوى بين التشكيك والإثبات

شككك الكثير من رجال الدين من أهل السنّة والجماعة في صدور تلك الفتوى عن الشيخ شلتوت. كان رجل الدين المصري الراحل يوسف القرضاوي، أشهر من أعلن زيفها وبطلانها. في سنة 2009، سُئل القرضاوي، عما إذا كان فضيلة الشيخ محمود شلتوت قد أصدر فتواه بجواز التعبّد على المذاهب الإسلامية الثابتة والمعروفة والمتبعة، ومنها مذهب الشيعة الإمامية الجعفري". أجاب القرضاوي عندها: "أنا أقول لك: هات لي الفتوى دي (هذه) في أي كتاب من كتبه... أنا لم أرَ هذه الفتوى... أي واحد منكم فليقل إني (أي السائل) شفتها في كتاب كذا أو مجلة كذا".

وأضاف: "أنا عايشت الشيخ شلتوت عدة سنوات، وكنت من أقرب الناس إليه، ما رأيته قال هذا... أين كتبها؟ وفي أي كتاب من كتبه؟ أنا أخرجت كتب الشيخ شلتوت الأربعة الأساسية: كتاب الإسلام عقيدة وشريعة، وكتاب فتاوى الشيخ شلتوت، والأجزاء العشرة الأولى في كتاب التفسير، وكتاب من توجيهات الإسلام، وكانت هذه ضائعة في الصحف والمجلات والإذاعة، فجمعت هذه الأشياء... تراث الشيخ شلتوت أنا أعلم الناس به. ما رأيت هذه (الفتوى). أين هذه الفتوى؟".

على الجانب الآخر، دافع الكثير من الباحثين عن تلك الفتوى باعتبارها فتوى صحيحةً موثقةً صادرةً عن الشيخ شلتوت. كان الشيخ عصام تليمة -تلميذ القرضاوي ومدير مكتبه- من أشهر من قال بذلك. ردّ تليمة على القرضاوي، بمقال معنون بـ"نعم... أفتى شلتوت بجواز التعبّد على المذهب الجعفري".

شككك الكثير من رجال الدين من أهل السنّة والجماعة في صدور تلك الفتوى عن الشيخ شلتوت. كان رجل الدين المصري الراحل يوسف القرضاوي، أشهر من أعلن زيفها وبطلانها

بدأ تليمة ردّه بإثبات صدور الفتوى عن الشيخ شلتوت، فقال: "لقد صدرت عن شلتوت فعلاً فتوى بهذا الأمر، فالفتوى موجودة بنصها في مجلة ‘رسالة الإسلام’ التي كانت تصدر عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة...".

تابع تليمة بعدها مؤكداً أن فتوى شلتوت لم تكن أمراً شاذّاً أو غريباً عن أفكار شلتوت، "فمن الواضح أن شلتوت كان مقتنعاً بفتواه، ولم تكن مجرد فتوى خرجت وانتهى الأمر، فبعدها بفترة وجيزة نشرت مجلة ‘المجتمع العربي’ حواراً مطولاً مع شلتوت، وقد أعادت مجلة ‘الأزهر’ نشر الحوار بالكامل أيضاً، وجاء فيه هذا السؤال: هل يعني تدريس مذهب الشيعة في الأزهر أنه جائز التطبيق، أم أنه يدرّس لمجرد العلم والتحصيل وزيادة معارف رجل الدين؟ فأجاب شلتوت: لسنا حريصين على أن تكون دراستنا في الأزهر لمجرد العلم والتحصيل، إنما نحن ندرس للاستيعاب والفهم، ثم التطبيق والعمل بكل ما يمكن العمل به، وفقه الشيعة مأخوذ ببعض أحكامه في كثير من القانون عندنا، وكثير من علمائنا عمل ببعض أحكام العبادات عندهم، ونحن إنما نرجع إلى الكتاب والسنّة، فمتى لم يخالف الرأي أصلاً من الأصول الإسلامية الصحيحة، ولم يتعارض مع نص شرعي، فلا بأس من تطبيقه، والأخذ به، وذلك هو التقريب المنشود، والتيسير المرجو". لم يكتفِ تليمة، بتلك الأدلة بل رجع إلى الأصداء القوية التي حققتها الفتوى في الأوساط العلمية السنّية.

يقول تليمة: "لم تقف ردود الأفعال حول فتوى شلتوت عند هذ الحد، بل تفاعل معها تأييداً ونقداً، عدد من العلماء والمشايخ، فممن أيّدوا الدكتور محمد البهي الذي كتب -مؤيداً لتوجه الفتوى وشلتوت- مقالاً بعنوان: ‘مع المذاهب الإسلامية’، وفي العدد نفسه كتب الأستاذ محمود الشرقاوي مقالاً بعنوان: ‘الأزهر ومذاهب الفقه الإسلامي’...". معنى ذلك أن الفتوى صدرت بالفعل عن الشيخ شلتوت لأنه لا يمكن أن يتفاعل هؤلاء المفكرون مع أمر معدوم.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image