عند مشاهدة افتتاحية الفيلم المصري الكوميدي "السادة الأفاضل"، تتزاحم أمام عينَي المتفرج أفكارٌ واحتمالاتٌ شتى، لا سيما حين يُفاجأ باستخدام المخرج كريم الشناوي للوحة "خلق آدم" الشهيرة في سياق ساخر. هذه اللمسة الافتتاحية ليست مجرد هزل بصري عابر، بل تمهيد ذكي لبصمة الفيلم المتكررة: عبثية تلتهم كل ما هو جليل، وسخرية لاذعة من طقوس الهيبة والوقار في مجتمع يتشبّث بأقنعته الأخلاقية بينما يتيه، في العمق، بلا بوصلته الحقيقية.
تتحق تلك السخرية مبكراً ومنذ المشهد الأول؛ أب ريفي عجوز يعيش لحظاته الأخيرة على فراش المرض، وسط أفراد أسرته المتأثرين بحديثه وتوصياته لهم، قبل أن يقاطعه طفل صغير، لا ليقبله قبلة الوداع ويحتضنه، بل ليطلب منه "فلوس العيدية" قبل أن يموت!

بداية ساخنة لفيلم كوميدي عبثي، لا تختلف أغلب شخصياته نفسياً عن هذا الطفل الوقح، وتتحرك بدوافع مماثلة (الإحساس بالاستحقاق، الاستغلال، الطمع، الفهلوة، الابتزاز، القسوة الفطرية، واللامبالاة التامة بمصير الآخرين)، ومن المهم هنا ملاحظة أن هذه نفس قائمة العيوب والشكاوى التي يرددها ملايين الأفراد حالياً بشكل يومي، للشكوى من بعضهم، ومن الحياة ككل.
يضحك فيلم السادة الأفاضل على عبث واقعٍ لم يعد أحد بريئاً فيه، حتى الضحك نفسه صار وسيلة للبقاء
في هذه الجزئية تحديداً يكتسب فيلم "السادة الأفاضل" أهميته وتفرده وسط عشرات الأفلام الكوميدية المصرية الأخرى. الكوميديا هنا لا تنطلق من إيفيهات لفظية وشخصيات كاريكاتيرية بعيدة عن الواقع، أو من معطيات استثنائية تلامس شخصيات "الحدوتة" وحدهم، بل تنطلق من أبطال أقرب ما تكون لشخصيات موجودة حولنا بكثرة، ومن تصرفات ضارة نشهدها يومياً، ومن واقع مزعج انتشرت بسببه في مصر مؤخراً مصطلحات مثل "سرسجي"، لوصف نمط سلوكي وشكلي متكرر.
طوال الأحداث سنقابل أكثر من مرة، نموذج الشخص الطفيلي عديم الكفاءة الذي لم يتعلم أي شيء، ولا يمتهن أي شيء، ولا يُنتج أي شيء، لكنه يبحث عن تذكرة للثراء الفاحش على حساب الآخرين، أو عن "سبوبة عالسريع" (بالمصطلح الدارج) تكفي مصاريفه لأسابيع، أو عن أي مصلحة هامشية وتافهة يمكن انتزاعها، مثل سيجارة مجانية أو ولاعة.
يمثل "السادة الأفاضل" إجمالاً مرحلة حصاد وتطور لفريق التأليف من حيث النقد الاجتماعي، فالثنائي مصطفى صقر ومحمد عز الدين، بدأ نجاحاته مع مسلسل "الكبير أوي"، مع النجم أحمد مكي، وفيه انطلقت الكوميديا من التناقض الصارخ بين عالم "الكبير" الريفي، بكل ما في القرية من تجمد وتصلب وهيمنة ذكورية وخضوع لسُلطة المجتمع وضغوطه، وعالم "چوني" الغربي بكل ما فيه من حرية وفردية، بينما يأتي عبدالرحمن جاويش كضلع ثالث في فريق التأليف، برصيد نجاحات آخر تحقق في مسلسلَي "الصفارة" و"النُص" مع النجم أحمد أمين، وفي كليهما قراءة تحليلية، لكن لطيفة وغير وعظية للتغيرات في سلوك المجتمع وروابط الأسرة.
كل ما سبق عناصر يمكن ربطها بفيلم "السادة الأفاضل"، لكن التحدي هنا أصعب. لدينا أكثر من ستة شخصيات تتدافع وتتناحر وتتنافس على مدار أقل من يوم، ومنحنى كوميدي عبثي سريع خالٍ من الوعظ، لكن كفيل بإثارة سؤال مرعب: ما الذي يمكن أن يحدث لمجتمع إذا صار أغلب أفراده ذكوراً وإناثاً من نفس نوعية أبطالنا؟
عنصر آخر طازج ومهم في السرد هنا، يندُر أن نراه موظفاً بشكل متقن وذكي في السينما المصرية، وهو "عبث الأقدار"؛ فالشخصيات تحاول طوال الوقت التحكمَ في مصيرها أو فرض النظام والمسار المعتاد للموقف، لكن الأحداث تسير عكس إرادتها، لا بسبب قوى مؤثرة وتداخل يستحيل ردعه (شرطة مثلاً)، أو بسبب شيء ما يمكن احترامه ووضعه في الحسبان، بل بسبب أكثر الأشياء تفاهة وعبثية. في أحد المقاطع مثلاً تنتهي حياة إحدى الشخصيات، بسبب ذبابة عابرة بالصدفة ليس إلا! والشخص الأكثر شراسة ونفوذاً يخسر معركته سريعاً أمام أغبى فرد في القرية.
القدر في هذا النوع من القصص ليس عادلاً أو مفهوماً، بل هو أقرب لمفرمة عشوائية لا تستثني أحداً ولا تستهدف أحداً بعينه أيضاً. هيمنت هذه الفكرة على اهتمام كثيرين من رواة القصص، والنموذج الأكثر شهرة بخصوصها لعشاق السينما العالمية، قد يكون في أفلام الأخوين الأمريكيين كوين، سواءً الجادة أو الكوميدية.

برغم ما سبق من مزايا منعشة ومغامرات تُحسب لمؤلفي الفيلم، يسقط "السادة الأفاضل" في خطايا غيره من أفلام الكوميديا، ولعل أبرز مشاكله هي النهاية غير المُشبعة. ليس المقصود هنا مساراً محدداً كان على فريق المؤلفين الالتزام به، فالـ"الإشباع" عنصر قد يتحقق بنهاية مفتوحة أو بالعكس، بلمسات كوميدية أو جادة، بإغلاق تام لكل المسارات أو بتجاهل بعضها. المقصود هنا فقط أن يشعر المتفرج بحالةِ "تشبع ورضا" من القصة والفيلم قبل انتهائه، وهو ما لم يتحقق من منظور كثيرين.
على صعيد التمثيل، يقطع الفيلم أغلب الوقت، شوط تطور مماثل عن منافسيه في عالم الكوميديا، غالباً بسبب درجة ثقة لدى المخرج كريم الشناوي في السيناريو والشخصيات والأحداث والورطات، كعناصر كافية للكوميديا، دون الحاجة لتوجيه الممثلين لتقديم أداء زاعق وهستيري وكاريكاتيري، كما يحدث في أفلام أخرى مُفلسة تتسول الضحك، بدلاً من أن تصنعه، وتبتذل مفهوم كوميديا "الفارس" (Farce).
في الفيلم ثمة أسماء شاركت مراراً وتكراراً في ما سبق في هذا النوع من التمثيل، واستنزفت نفسها في أعمال كوميدية ضعيفة، مثل أشرف عبد الباقي، انتصار، بيومي فؤاد، لكن جميعهم بدوا هنا أفضل حالاً، وهي نقطة ترجح أن سبب هذا الفرق هو المخرج.
تتبلور هذه النقطة بشكل أقوى في مشاهد الثلاثي طه دسوقي، وميشيل ميلاد، وعلي صبحي، إذ لديهم نظرياً المساحة الأكبر لتقديم هذا النوع من الأداء الكاريكاتيري الكوميدي الزاعق، بحكم طبيعة الشخصيات، لكنهم يتجنبون هذا الفخ بذكاء، في أغلب الأوقات، ولهذا يُضحكون بفاعلية أكبر.
ميشيل ميلاد، بالأخص، يخطف الأضواء كوجه صاعد يستحق التحية، ويثبت أن نجاحه في مسلسل "النُّص" مؤخراً ليس صدفة. في المرتين توجد لمسة ذكاء واضحة منه في تأسيس مسار حركي وحضور جسدي للشخصية التي يمثلها، ويستفيد الفيلم من هذه الجزئية على صعيد الكوميديا. نفس الإشادة تستحقها الممثلة الشابة التي قدمتْ بخفة ظل دورَ فتاة الليل.
حين يستخدم كريم الشناوي لوحة "خلق آدم" للسخرية، لا يتهكم على الفن فقط، بل على الإنسان الذي فقد ملامحه الأصلية في زحام الطمع والادعاء
ولأن مشاهدة النقيض قد تكون أسهل طريقة لمعرفة الفارق، جاءت مشاهد "معتز التوني" العابرة، كطبيب صيدلي، لتذكرنا بعيوب الأداء الزاعق المبالغ فيه. أداؤه في الفيلم أهدر مقطعاً كوميدياً كان من الممكن أن يكون أفضل. نفس الرأي يمكن قوله عن أداء أحمد السعدني لشخصية رجل العصابات. فعلى الرغم من المساحة الزمنية المتاحة، لم ينجح في تقديم عناصر البطش والشراسة لدى الشخصية لتصبح مخيفة فعلاً، ولم ينجح أيضاً في تطويعها كمصدر للكوميديا.

استمراراً لحالة التذبذب الفني في الفيلم، تراجعت إحدى أبرز مزايا كريم الشناوي البصرية كمخرج، وهي حساسيته المرهفة تجاه المكان، رغم بروزها اللافت في مسلسلَيه "الهرشة السابعة" و"لام شمسية". في عمل تجري أحداثه في قرية ريفية، كان يمكن لهذه الميزة أن تتوهج أكثر، لكننا لم نرَ سوى لمحات متناثرة لها، مثل مشاهد أسطح المنازل، بينما سيطر على أغلب المشاهد طابع بصري أقرب إلى المتوسط السائد في السينما المصرية.
ورغم ذلك، "السادة الأفاضل" يظل فيلماً كوميدياً طموحاً وجديراً بالتحية، يقدّم نقاط قوة لافتة في معظم عناصره، وينجح في مهمته الأولى: إضحاك الجمهور وإمتاعه. كما يطرح أسئلة عميقة دون أن يقع في فخ الوعظ أو الإملال. المفارقة أن ما يحزن فعلاً بشأنه، هو أن المسافة التي فصلته عن فيلم عظيم لم تكن بعيدة أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



