في فترة صدر الإسلام، هناك وقائع تاريخية، سببت جدلاً كبيراً بين المسلمين، وحتى الآن ما زال هذا الجدل قائماً، لأن هذه الوقائع من ضمن الجدل القائم بين الفرقتين الأكبر في الإسلام، أهل السنة والشيعة.
تلك الوقائع متعددة، وتوجد ضمن فترة زمنية ممتدة من فترة النبوة إلى واقعة كربلاء (61هـ)، والتي انتهت بمقتل سِبط النبي الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته.
هنا نتحدث عن واحدة من أهم تلك الوقائع المختلف عليها بين الفرقتين، وهي التي تُعرف في كتب التاريخ والحديث بـ"رزيَّة الخميس"، والتي نالت نصيباً كبيراً من اهتمام علماء أهل السنة والشيعة على السواء.
كتاب لا تضلوا بعده أبداً!
لا توجد اختلافات جوهرية كبيرة بخصوص وقائع رزية الخميس بين كتب أهل السنة والشيعة؛ فمجمل الحديث يدور حول رغبة النبي محمد في كتابة كتاب وصفه بأنه سيمنع المسلمين من الضلال والتيه بعد موته، ولكن حدث اختلاف لوجهات نظر الصحابة التي كانت موجودة مع النبي في ذلك الوقت، بين محبذ للفكرة وبين معترض عليها، وانتهى الأمر بغضب النبي، وطلب منهم الخروج من غرفته، بحسب ابن حجر العسقلاني في الجزء العاشر من كتابه "فتح الباري في شرح صحيح البخاري".
الحديث بالنسبة لأهل السنة، ورد في الصحيحين، البخاري ومسلم، كما ورد في مسند أحمد بن حنبل، وكان نصه كما ذكره البخاري: "حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن سليمان الاحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: ائتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: ما شانه اهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها".
بينما ذكره الإمام مسلم في صحيحه بتفاصيل جديدة ظهر فيها عمر بن الخطاب بقوة: "قال عبدالله بن عباس: لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم قال، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا عني. قال عبيد الله، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم".
أمّا علماء الشيعة، فاستخدموا الرواية الأخيرة التي أظهرت الصحابي عمر بن الخطاب، رافضاً لهذا الكتاب؛ ففي كتاب "الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف"، للشيخ جعفر السبحاني، يذكرها بالنص، ويلمح بأن هذا الكتاب كان من المفترض أن يكون بولاية الخلافة بعد موت النبي إلى علي بن أبي طالب.
ما لم يُكتب في "رزية الخميس"، كُتب في ذاكرة الانقسام؛ فحين يصمت التاريخ، تتكلم النوايا، وتتحول الكلمات التي لم تُدوّن، إلى شرارات جدل لا تنطفئ
وعلى الرغم من أن معظم طرق هذا الحديث تنتهي إلى عبد الله العباس الذي رواه، إلا أن بعض كتب علماء الشيعة ذكرت طرقاً أخرى للحديث، كان راويها هو علي بن أبي طالب، ذُكرت في كتب مثل كتاب سليم بن قيس الهلالي؛ يقول سليم بن قيس الهلالي: "سمعت سلمان يقول: سمعت علياً (ع) بعد ما قال ذلك الرجل (عمر بن الخطاب) ما قال وغضب رسول الله (ص) ودفع الكتف: ألا نسأل رسول الله (ص) عن الذي كان أراد أن يكتبه في الكتف مما لو كتبه لم يضل أحد، ولم يختلف اثنان، فسكت حتى إذا قام من في البيت وبقي علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وذهبنا نقوم وصاحبي أبو ذر والمقداد، قال لنا علي (ع): اجلسوا. فأراد أن يسأل رسول الله (ص) ونحن نسمع فابتدأه رسول الله (ع) فقال: '... الله قد قضى الفرقة والاختلاف على أمتي من بعدي'، فأمرني أن اكتب ذلك الكتاب الذي أردت أن أكتبه في الكتف لك، وأشهد هؤلاء الثلاثة عليه، ادع لي بصحيفة. فأتى بها، فأملى عليه أسماء الأئمة الهداة من بعده رجلاً رجلاً، وعلي (ع) يخط بيده وقال رسول الله (ص): إني أشهدكم أن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي على أمتي علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم من بعدهم تسعة من ولد الحسين".
كما أورد المحدث الشيعي، النُعماني، في كتابه "الغيبة" رواية مختصرة على لسان علي بن أبي طالب قال فيها: "عن سليم بن قيس أن علياً قال لطلحة في حديث طويل عند ذكر تفاخر المهاجرين والأنصار بمناقبهم وفضائلهم: يا طلحة أليس قد شهدت رسول الله حين دعانا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الأمة بعده ولا تختلف؟ فقال صاحبك -يقصد عمر بن الخطاب- ما قال إن رسول الله يهجر فغضب رسول الله وتركها؟ قال بلى قد شهدته".
أما عند الرجوع إلى كتب التاريخ القديمة، نجد أن تاريخ الطبري (ت. 310هـ) اقتصر على ذكر ثلاث روايات فقط مختصرة، لا يوجد لعمر بن الخطاب ذكرُ فيها على الإطلاق.
بينما عند الرجوع إلى مصدر أقدم من تاريخ الطبري، وهو "الطبقات الكبرى" لمحمد بن سعد الزهري (ت. 230هـ) نجده ذكر لنا تسع روايات لرزية الخميس؛ خمس روايات منها رواها عبد الله بن عبّاس، ومنها ما ذُكر فيها عمر بن الخطاب، مثل: "أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني قرة بن خالد أخبرنا أبو الزبير، أخبرنا جابر بن عبد الله الأنصاري، قال لما كان في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمته كتاباً لا يضلون ولا يضلون، قال فكان في البيت لغط وكلام، وتكلم عمر بن الخطاب، قال فرفضه النبي صلى الله عليه وسلم".
بعد كل هذه الروايات المختلفة - والتي يدور فلكها في أمر واحد وهو رغبة النبي في كتابة كتاب "لن تضلوا بعده أبداً"، انتهى الأمر بعدم إتمام هذه الرغبة. كيف رأى علماء الفرقتين هذا الكتاب وفقاً لسيطرة مذهبية على تلك الآراء؟
وصية النبي بين رفض عُمر وندم ابن عبّاس
تنافس العلماء في ما بينهم حول فك طلاسم هذه الواقعة، والإجابة على أسئلة كثيرة قد تتبادر لذهن أي قارئ لهذا الحديث؛ أولها موقف عمر بن الخطاب الرافض لهذا الكتاب.
بالطبع حاول محدثو أهل السنة تفسير رفض الصحابي عمر بن الخطاب للكتاب، وقوله عن النبي "إن رسول الله يهجر" بنفي التهم التي ألصقتها الشيعة بعمر بن الخطاب.
فيؤكد ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث والأثر" أن جملة عمر بن الخطاب كانت على صيغة السؤال "أهجر؟" على سبيل الاستفهام؛ أي: هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض؟ وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل إخباراً، فيكون إما من الفحش أو الهذيان. والقائل كان عمر ولا يظن به ذلك".
بينما في شرحه لصحيح مسلم، علّق الإمام النووي على موقف عمر بن الخطاب قائلاً: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك، ثم ظهر له أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك، ونسخ ذلك الأمر الأول، وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها".
بينما هجم علماء الشيعة على عمر بن الخطاب، وعلى رأسهم الفقيه الشيعي عبد الحسين شرف الدين الموسوي، في كتابه "المراجعات" الذي لم يقتصر هجومه على عُمر فقط، بل طال الجميع، حيث قال: "ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن -يقصد هنا النبي- ممانعتَهم وأظهر الارتياح إليها، ومن ألمّ بأطراف هذا الحديث ولا سيما قولهم 'هجر رسول الله' يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه إنما يريد أمراً يكرهونه".
الوصية الأخيرة التي لم تُكتب
ما الذي كان سيكتبه النبي في ساعاته الأخيرة؟ أي إجابة على هذا السؤال ستكون مجرد اجتهاد، لأن الكتاب في النهاية لم يُكتب، ولم يسأل أحد من الصحابة النبيَّ عنه ولا عن فحواه، وعلى الرغم من هذا، إلا أن علماء الفريقين، سنة وشيعة، بذلوا مجهوداً كبيراً للغاية في إثبات وجهات نظرهم بخصوص محتوى هذا الكتاب.
فالشيعة أكدوا أن هذا الكتاب كان نص خلافة علي بن أبي طالب للنبي بعد موته؛ فيقول الموسوي: "لكنهم -يقصد الرافضين لكتابة هذا الكتاب- علموا أنه صلى الله عليه وآله وسلم، إنما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النص بها على علي بن أبي طالب خاصة، وعلى الأئمة من عترته عامة".
وذكر ذلك أيضاً الشيخ الطوسي، والذي يعتبر من أهم وأكبر فقهاء الشيعة الإمامية في القرن الخامس، في كتابه "أمالي الشيخ الطوسي" رواية عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر، حفيد الحسين بن علي بن أبي طالب، نقلاً عن النبي بأنه قال: "ما قبض الله نبياً إلا أمره أن يوصي إلى أفضل عشيرته من عصبته، وأمرني أن أوصي. فقلت: إلى من يا رب؟ فقال: أوصِ يا محمد إلى ابن عمك علي بن أبي طالب".
ربما لم تكن الأزمة في ما قاله عمر، أو ما أراده النبي، بل في صمت البقية
واختلفت آراء علماء أهل السنة، وأظهر هذا الاختلاف الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، فيقول: "اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي به، فقيل أراد أن ينصّ على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن، وقيل: أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي همّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول".
بينما في "فتح الباري في شرح صحيح البخاري"، قال ابن حجر أن الكتاب كان في جميع الأحوال أمر ثانوي لأنه لو واجب التبليغ "لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه ولبلغه لهم لفظا".
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل وصل إلى هجوم الطرفين على آراء الفريق الآخر، مثلما فعل ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" حيث رد على مزاعم الشيعة بأن الكتاب كان سيذكر علي بن أبي طالب كخليفة بعد موت النبي عليه السلام قائلًا: "مِن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي بن أبي طالب وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر".
هل نستطيع قبول هذا الحديث؟
عند النظر إلى حديث "رزية الخميس" بعين ناقدة، يمكن طرح تساؤلات جوهرية حول قبوله من الأساس، وبعيداً عن مدى صحة الحديث سنداً، لأنه، وفقاً لقواعد علم الحديث، ليس كل حديث "صحيحاً" نستطيع قبوله، والأمثلة كثيرة على ذلك، وينبغي النظر إليه من وجهة نظر العقل والتحليل العلمي.
أغلب روايات الحديث، كما ذكرنا سابقاً، راويها هو عبد الله بن عبّاس، وتلك أبرز ما يجعلنا نتشكك، لأن الثابت هو أن عُمر عبد الله بن عباس كان عمره عشر سنوات عندما توفي النبي محمد، أي أنه كان طفلاً، وهذا يجعلنا نتساءل: هل كان عبد الله بن عباس يدرك كل تلك التفاصيل، ويفهم خطورة الموقف، ويحفظ هذا الحوار السياسي المصيري بكل دقائقه؟
في كتابه "صورة الصحابي في كتب الحديث" يقدم نادر الحمامي، إجابة مبسطة على هذه التشكيكات، حيث يقول: "ولم تكن سنه، وهو في الثانية عشرة أو نحوها عند وفاة الرسول تسمح له بأن يكون صحابياً بالمعنى الدقيق للصحبة وشاهداً موثقاً به على أحداث فترة الوحي. لكن من يجرؤ في ظل الدولة العباسية التي أشرفت على حركة التدوين، على تكذيب 'جد الخلفاء' أو التشكيك في سلامة رأيه؟".
أما النقطة الثانية، فهي كيف جادل الصحابة النبي في أمر من أوامره؟ ولو سلمنا بقدرتهم على ذلك، هل كان النبي سيترك تبليغ أمر ما يخص الدين، خصوصاً أن الحديث قال بأنه كتاب "لن تضلوا من بعده أبداً" أي أنه على درجة كبيرة من الأهمية، وهذا يتعارض مع آيات القرآن التي تؤكد عقيدة كمال الدين "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً" (المائدة: 3).
ولكن الإشكال الأكبر يكمن في الغياب التام لهذه الواقعة المدوية عن سجلات الصراع المبكر. فلماذا لم يستدل بها أي طرف خلال أحداث "الفتنة الكبرى" وصراعات الخلافة؟ فلو كانت قد حدثت بهذه الصورة، لكانت الحجة الأقوى لكل معارض، ولكان ندم الصحابة عليها محوراً رئيسيّاً في مراجعاتهم. فيمكن الذهاب إلى أن غيابها عن تلك الفترة الحرجة يثبت أنها رواية لاحقة، بُعثت لخدمة جدليات مذهبية وسياسية في عصر متأخر، لتُسقِط على الماضي صراعات الحاضر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.