من

من "عاصفة الصحراء" إلى "طوفان الأقصى"... كيف تتم تسمية الحروب والمعارك؟

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 6 نوفمبر 202511 دقيقة للقراءة

في الحروب، لا تُخاض المعارك دائماً على الجبهات فقط، بل في العقول أيضاً. قبل أن تطلق أول رصاصة، تُصاغ أول كلمة. تُختار بعناية، تُشحن بالرمز والعقيدة والانتماء، وتُرسل في فضاء الإعلام لتحتل العناوين واللاوعي الجمعي معاً. 

ففي عصر تتداخل فيه الحرب العسكرية مع النفسية والإعلامية، تحوّلت المصطلحات من أدوات شرح إلى أدوات قتال.

من "طوفان الأقصى" الذي بدأته حماس، إلى "السيوف الحديدية" و"الأسد الصاعد" الإسرائيليين، إلى "الوعد الصادق" الذي أطلقه "حزب الله"، وحتى مصطلحات أميركية كـ"عاصفة الصحراء" و"الحرية الدائمة"، تتشكل سرديات من تسميات. بل تُبنى مشاعر، وتُستنهض شعوب، ويُشرعن عنف باسم مصطلح.

هذا النص ليس فقط محاولة لفهم لغة الحرب، بل تفكيك لطبيعتها الرمزية: كيف تتحوّل كلمة إلى سلاح؟ وكيف تتحوّل جملة إلى درع؟ في هذا التقرير الرصدي يستعرض رصيف22 أبرز المصطلحات التي عرّفت حروب العقود الماضية، ونحلل خلفياتها النفسية، الاجتماعية، الدينية والإعلامية. 

كيف يُخاطب المصطلح الوعي قبل المعركة؟

في كل حرب، يتطلّب النصر أكثر من تفوّق ميداني. يحتاج إلى تماسك نفسي، تعبئة معنوية، وشعور جماعي بالعدالة أو الحتميّة. هنا يدخل المصطلح كمفتاح أولي، يُصاغ ليصل قبل الرصاص، ويهيمن على العقول قبل أن تُستهدف الأجساد. فالكلمة ليست مجرّد وصف للواقع، بل أداة لإنتاج واقع بديل، مرغوب فيه من الطرف المقاتل.

لذا، فتسمية أي معركة ليست "تفصيلاً إدارياً". إنها صياغة مكثفة لهوية الفعل: من نُحارب؟ لماذا؟ كيف سننتصر؟ وماذا سنترك في ذاكرة الناس بعد أن ينتهي الدخان؟

هنالك حرب موازية تحدث مع كل حرب في الميدان، أسلحتها هي "السرديات" والتي تبدأ باسم المعركة والمصطلحات التي تُصاغ لتهيئة الوعي، فتسمية المعركة تشكّل هوية الفعل، وتطمئن الحلفاء وتروّع الخصوم، من "سيف القدس" إلى "عاصفة الصحراء" والأمثلة كثيرة

إذاً، فالمصطلح يُطمئن الحلفاء والشعب، ويرعب الخصوم. يشحن اللغة بالعاطفة، ويُبقي رواية الحرب قابلة للتكرار، للهتاف، للنقش على الجدران، وحتى للمناجاة.

على سبيل المثال، مصطلحات الفصائل الإسلامية غالباً ما تستند إلى رموز دينية أو تعبيرات وجدانية تعبّر عن الاستمرارية والثقة، مثل: "الوعد الصادق"، العنوان هنا يُشحن بالصدق الإلهي والوفاء المبدئي. و"سيف القدس"، الذي يمزج بين السلاح والمقدّس، و"وعد الآخرة" حيث يُفعّل مفردات القضاء الإلهي والانتصار الحتمي.

أما المصلحات المتأتية مع البعد الكولونيالي أو الاحتلال أو القوى العظمى، فتميل إلى العبارات التقنية المهيبة، أو المصطلحات الطبيعية التي تُغلف الحرب بأقنعة "التحرير" أو "الردع"، مثل "عاصفة الصحراء" التي تصوّر الغزو كحدث طبيعي لا خيار فيه. و"الحرية الدائمة" التي توحي بأن الاحتلال هو مشروع أخلاقي، و"الرصاص المصبوب" الذي يعطي انطباعاً بالقوة المحسوبة لا الفوضى.

ومن يُسمّي أولًا، يفرض السردية. ومن يملك المصطلح، يملك التأثير النفسي الأول، والإطار العاطفي الذي يُهيمن على التغطية الإعلامية ويعيد تشكيل ردّات الفعل الجماهيرية.

تسميات الفصائل الإسلامية

لغة فصائل "المقاومة الإسلامية"، ليست مجرد ردّ فعل على القصف أو الحصار، بل منظومة لغوية مبنية على عقائد راسخة لدى الشعوب الإسلامية، فمنذ نشأة حركات المقاومة الدينية في لبنان وفلسطين، برزت البلاغة اللغوية كجزء من إستراتيجية المواجهة. لا يُطلق الاسم إلا حين يكون قادراً على التسلل إلى الذاكرة، وتحريك العاطفة، وإيجاد إحساس جماعي بالجدوى.

الوعد الصادق… حزب الله 

هو اسم اختاره "حزب الله" لعملية أسر جنديين إسرائيليين في 2006، وقد استُلهم من خطاب لأمين عام "حزب الله" السابق حسن نصرالله، ليحمل دلالات دينية وسياسية. 

نفسياً، زرع المصطلح ثقة عميقة في جمهور الحزب: "وعدنا ووفينا". واجتماعياً، تحوّل إلى رمز دائم في الأغاني والخطب والممارسات الشعبية. أما إعلامياً، فقد شكّل لحظة إعلان تفوّق رمزي لمقاومة قادرة على الإيفاء بوعودها.

وعد الآخرة… كتائب القسام

استندت التسمية إلى مصطلح قرآني ورد في سورة الإسراء. وجاء البعد الديني فيه قوياً ليعكس الإيحاء بأن زوال الاحتلال الإسرائيلي ليس احتمالاً سياسياً بل هو وعد إلهي.

أما نفسياً، فالغرض هو بث الطمأنينة في ظل طول المعركة: فالنتيجة مضمونة كونها محالة إلى القدر بالأساس.

سيف القدس… حركة حماس 

هو الاسم  -الديني بالضرورة- الذي أطلقته حركة حماس على معركة أيار/ مايو 2021، رداً على انتهاكات الاحتلال في القدس والمسجد الأقصى، لذا فالمصطلح يدمج الإيمان بالقوة.

ومن الناحية الاجتماعية، تبناه المؤيدون للحركة، وفي الشعارات، واستخدمه الإعلام.

كثيراً ما يتم اعتماد التسميات الدينية للإيحاء بالدعم الإلهي، فتسمية عملية "الأسد الصاعد" الإسرائيلية مثلاً جاءت من التوراة، بينما جاءت تسميه "وعد الآخرة" لكتائب القسام من القرآن.

طوفان الأقصى… حركة حماس 

أطلق بالطبع على عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، يشير استخدام المصطلح إلى الإيحاء بـ "حدث شامل وقاهر". وربما يحيل الاسم إلى الطوفان العقابي في قصة النبي نوح.

كما أن ارتباط الاسم بالمسجد الأقصى، القبلة الثالثة للمسلمين، يحمل البعد المطلوب لجعلها مقبولة لدى الشعوب الإسلامية، كـ "قرار جهادي بالأساس". 

الوعد الصادق 3… إيران

هو الاسم الذي أطلق على الرد الإيراني الرسمي على عملية "الأسد الصاعد" الإسرائيلية، وجاءت العملية على شكل قصف صاروخي لمواقع في العمق الإسرائيلي. 

الرقم 3 في التسمية يؤسس للاستمرارية، أي أن "الوعد" مستمر ولن يتوقف، وقد بدأ المصطلح الأول من لبنان، ثم امتد الثاني إيرانياً عام 2024 فيما قيل إنه رد على اغتيال قاسم سليماني، ليكون الرد باسم واحد من جبهتين مختلفتين.

تسميات إسرائيلية وأمريكية للحروب

في المعسكر الإسرائيلي الأمريكي، لا تُستخدم المصطلحات من أجل التعبئة الوجدانية بقدر ما تُصاغ لتبرير التدخل أو الاعتداء أمام الداخل والخارج. فهي أقرب إلى تسميات تُنتجها غرف السياسة والدعاية العسكرية لتمنح الحرب مظهراً أخلاقياً، وتُخفف وقع أثرها على المدنيين عبر تعبيرات تبدو إدارية، تقنية، أو طبيعية.

الرصاص المصبوب… إسرائيل 

هي حملة عسكرية شنتها إسرائيل ضد حركة حماس في قطاع غزة بين 2008 إلى 2009، قُتل فيها أكثر من 1400 فلسطيني، معظمهم من المدنيين. قد يوحي المصطلح وكأن الموت يُسكب بانتظام لا فوضى. بينما يضفي إحساساً بالبرود والفاعلية. وقد تبنّته وسائل الإعلام الغربية دون تفكيك رمزيته.

الجرف الصامد… إسرائيل 

هو الاعتداء الإسرائيلي الطويل على غزة الذي حدث في العام 2014، وخلّف دماراً واسعاً ومئات الشهداء. اللغة هنا دفاعية ظاهرياً. إذ يوحي المصطلح بأن إسرائيل تحمي نفسها من خطر ما، لتبرير الهجوم المُسبق.  وهنا يقول الباحث النفسي في علوم اللغات، الدكتور أنس حنظور، أن "الاسم يمثّل خداعاً لغوياً يتجاوز الميدان، ويخدع الضمير الإعلامي العالمي".

حارس الأسوار… إسرائيل 

هو الاسم الذي أُطلق على العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/ مايو 2021، تزامناً مع أحداث حي الشيخ جراح. هنا أيضاً يصوّر كفعل دفاعي بالأساس، عن المدينة/الدولة/الهوية. لكن واقعياً، كانت إسرائيل هي من هدمت الأسوار والمنازل أو صادرتها.

الأسد الصاعد… إسرائيل 

حين استهدف الطيران الإسرائيلي في هذه العملية 2025 موقعاً إيرانياً حساساً. عبارة "الأسد الصاعد" لم تُختَر عشوائياً، بل لتحمل دلالات توراتية، إذ استُلهمت من الآية "هو ذا شعب يقوم كلبؤة ويرتفع كأَسد، لا ينام حتى يفترس فريسته ويشرب دماء القتلى" (سِفر العدد 23:24).

لذا، فالتسمية اختيرت لتسليط الضوء على القوة والإصرار الرمزيين المرتبطين بالأسد الصاعد، وبرمزية ملوك التاريخ الإسرائيلي في التوراة. وقد قوبلت التسمية بالسخرية في الشارع الإيراني: "أسد من ورق". 

"الحرية الدائمة" هو الاسم الذي أطلقته الولايات المتحدة الأميركية على حربها في أفغانستان في مطلع الألفية الثانية. لقد استخدم المصطلح لغة مشحونة بالأخلاق للإحالة إلى "الديمقراطية" الأمريكية، لذا اعتبر البعض بأنه يُقدّم "الاحتلال الأمريكي" كهدية تحرّر

عاصفة الصحراء… الولايات المتحدة الأمريكية

تعود هذه التسمية لغزو العراق الأول في العام 1991 ضمن التحالف الدولي لتحرير الكويت. المصطلح استعار لغة الكوارث الطبيعية وأسقطها على الغزو، ما سهّل تعميم الرواية الأميركية، وأزال كلمة "احتلال" من الخطاب.

الحرية الدائمة – الولايات المتحدة 

هو اسم  الحملة الأميركية على أفغانستان التي بدأت في مطلع الألفية الثانية. استخدم المصطلح لغة مشحونة بالأخلاق، أو للإحالة إلى "الديمقراطية" الأمريكية، لذا اعتبر بأنه يُقدّم "الاحتلال الأمريكي" كهدية تحرّر.

البعد الإعلامي والقانوني لتسمية الحرب

في الحروب، يصبح المصطلح بمثابة إعلان نوايا، وسلاح دعائي، وأحياناً تبرئة مسبقة من المسؤولية. فكيف يُبنى اسم العملية؟ من يقرره؟ ومن يكرّسه في الفضاء الإعلامي؟ الإجابة على هذه الأسئلة تكشف إلى أي مدى تتحكّم اللغة في المساحة الأخلاقية والقانونية للحرب.

في إسرائيل، تُمرّر أسماء العمليات عبر وحدة العلاقات العامة والاستخبارات النفسية. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فتُصاغ ضمن استراتيجية "Public Diplomacy"، وتُعرض على مستشارين سياسيين وأحياناً على شركات تسويق. أما لدى الفصائل الإسلامية، فالاسم يُنتج ضمن سياق تعبوي ميداني، ويُصاغ في غرف القرار العسكري.

فالمصطلح هو البوابة الإعلامية والعنوان الذي سيتكرر كلما استخدم اسم العملية صحافياً، ليُعيد إنتاج الرواية الرسمية. 

يقول خبير الإعلام القانوني الدكتور يوسف غنّام لرصيف22: "عندما تطلق واشنطن على الاحتلال اسم ’عملية حرية‘، فهي تصوغ عذراً مسبقاً. بينما حين تقول غزة ’سيف القدس‘، تُعامل كمحرضة. التسمية تُحاكم أحياناً أكثر من الفعل نفسه".

لذا فمن يسمي أولاً، يروّج لروايته أولاً، ويكسب المساحة الأخلاقية لدى الرأي العام.

كيف تعيش المصطلحات بعد الحرب؟

تُخزَّن المصطلحات والتسميات في الذاكرة الجمعية كما تُخزَّن صور المعارك. بعضها يتحوّل إلى شعارات، يرافق النشيد والخطابة والتاريخ الشفهي، وبعضها الآخر يتلاشى سريعاً أو يتحوّل إلى مادة تهكّم وسخرية. 

هكذا تصبح الكلمات التي أطلقت في زمن الحرب، جزءاً من أرشيف الشعوب، وتضطلع بدور في تشكيل وعي ما بعد الصراع.

تسمية المعركة هو عنونة الرواية التاريخية لاحقاً. ومن ينتصر يمتلك الحق في تسمية الأشياء، ولهذا، فحرب المصطلحات هي ساحة مواجهة حقيقية يقول فيها طرف هذا انتصار، ويقول الآخر هذا عدوان.

ففي العراق مثلاً، تذكر تسمية "أم المعارك" بتردّد. وهي التي استخدمها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لتوصيف المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1991، وغُرِست في الكتب المدرسية، والإذاعات، ولافتات الشوارع. لكن بعد الهزيمة، تحوّلت العبارة إلى رمز للتهويل السياسي.

لعل تسمية المعركة هو عنونة الرواية التاريخية لاحقاً. ومن ينتصر يمتلك الحق في تسمية الأشياء، وفي تشكيل سردية ما جرى. ولهذا، فإن حرب المصطلحات ليست تجميلاً للغة، بل ساحة مواجهة حقيقية يقول فيها طرف هذا انتصار، ويقول الآخر هذا عدوان.

الناشط الفلسطيني خليل الديب في تصريح لرصيف22 إن "كل حرب تُنتج روايتين: رواية المنتصر ورواية الضحية. لكن حين يصوغ ممثل الضحية لغته الخاصة، يهدد باختلال المعادلة، ويُجبر الجميع على إعادة الاستماع". 

فمن يربح المعركة على المصطلح، يبدأ بتغيير ميزان الرواية. فحين يُقال "طوفان الأقصى" بدلاً من "هجوم مفاجئ لحماس"، أو "سيف القدس" بدلاً من "تصعيد في غزة"، يتغير منظور السردية وربما نتيجتها، وفي تغيير المنظور يمكن فهم وجهة نظر الضحية أو الطرف المتضرر من الاحتلال أو الاعتداء.

في الحروب القديمة، كان الفرسان يسبقون الجيوش بالرايات والقصائد. أما في حروب اليوم، فالراية صارت كلمة، والقصيدة صارت مصطلحاً يُلقى على الناس قبل أن تُلقى القنابل. 

من "الأسد الصاعد" إلى "الوعد الصادق"، من "عاصفة الصحراء" إلى "طوفان الأقصى"، نُدرك أن الكلمات ليست مكمّلة للحرب، بل جزء من هندستها. تُبنى بدقّة، تُطلق بحساب، وتُغذّى عبر الإعلام لتبقى في الذاكرة. بعضها يتحوّل إلى شارة نصر، وبعضها يسقط بعد أول اختبار.

والأهم من كل ذلك، أن التسمية لا تنتهي عند النطق بها. بل تبدأ. تنتشر، تُعاد وتردد، فتُحوّل إلى هاشتاغ، إلى نشيد، إلى لوحة جدارية، إلى خطبة جمعة. وكلما زادت قدرتها على التعبئة، زادت قدرتها على البقاء.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image