هل يهدّد تعطيل إسرائيل صفقة الغاز مع مصر مستقبل

هل يهدّد تعطيل إسرائيل صفقة الغاز مع مصر مستقبل "الممر الهندي-الأوروبي"؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

السبت 1 نوفمبر 202510 دقائق للقراءة

 

في صيف 2025، وقّعت كلّ من القاهرة وتل أبيب اتفاقيةً لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر، وتحديداً من حقل ليفياثان للغاز الطبيعي، بقيمة تصل إلى 35 مليار دولار، حتى عام 2040، في أكبر صفقة تصدير في تاريخ إسرائيل. 

لكن هذه الصفقة -التي تمّت برعاية أمريكية- وعلى الرغم من ضخامة أبعادها الاقتصادية، لم تمرّ بسلاسة كما تمنّت واشنطن، وبغض النظر إن كانت معنونةً كصفقة اقتصادية، لكنها في عمقها تصبّ في صالح السياسة، وهذه المرة السياسة الأمريكية تحديداً. 

خلاف أمريكي إسرائيلي حادّ حول الصفقة المصرية 

أمس الجمعة 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، نشأ خلاف علني قلّما يحدث بين واشنطن وتل أبيب، نتيجة مماطلة تل أبيب في تنفيذ جانبها من الاتفاقية، ما نتج عنه حركة احتجاجية أمريكية قاسية، بإلغاء وزير الطاقة الأمريكي، كريس رايت، زيارةً كانت مؤكدةً إلى إسرائيل، احتجاجاً من الحكومة الأمريكية على تأخّر الحكومة الإسرائيلية في إقرار الاتفاق، وعدم وضوح الشروط، خصوصاً ما يتعلق بأسعار الغاز المحلي الإسرائيلي. 

فعلى الرغم من العلاقة الأقوى بين واشنطن وتل أبيب، إلا أنّ العامين الأخيرين قد ألقيا بظلالهما على ما كان يُعدّ وحدة سياسات بين الحليفتين، وكلمة السرّ دائماً واحدة: "مصالح واشنطن"، وأي شيء يمس بها.   

الخلاف بين واشنطن وتل أبيب احتدّ وأصبح علنياً بشكل غير مسبوق، بعد تعطيل الأخيرة لصفقة الغاز مع مصر، ما دفع وزير الطاقة الأمريكي لإلغاء زيارته إلى إسرائيل احتجاجاً. فما علاقة الصفقة بالممر الهندو أوروبي؟ ولماذا لا مجال للتسامح الأمريكي حين يتعلق الأمر بتعطيل هذا المشروع العملاق؟

هذا الخلاف ليس شأناً طارئاً ولا يمكن اختصاره في جانبه القانوني، فهو يفتح نافذةً لفهم أعمق للمشهد الإستراتيجي الجديد في العالم، والذي يقع الشرق الأوسط في عمقه: "عالم الممرّات" والطرق العالمية الاقتصادية التي تتغذى على الشحن والطاقة، ويكشف العلاقة العضوية بين اتفاق الطاقة المصري الإسرائيلي وارتباطه بمشروع الممر الهندو أوروبي "IMEC"، الذي يُعدّ من أهم الرهانات على التحول في بنية الربط الدولي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.

في هذا التقرير نتوقف عند سؤال واحد: لماذا "لا مجال للتسامح" حتى مع تل أبيب المدللة أمريكياً حين يتعلق الأمر بتعطيل هذا المشروع؟ 

خلفية الصفقة وصراع الطاقة

تُقدّر احتياطات حقل ليفياثان بنحو 600 مليار متر مكعب من الغاز. وبهذا هو لا يقارن بالحقول العملاقة في الخليج العربي وروسيا، لكن هذا الرقم يجعله أكبر حقل غاز في إسرائيل وشرق المتوسط بعد حقل "ظُهر" المصري.

في آب/ أغسطس 2025، أعلنت الشركة الرئيسية لحقل ليفثيان "New Med Energy"، عن صفقة جديدة مع مصر ستضاف إلى اتفاق سابق تمّ في 2019/ 2020، بحيث يكون إجمالي ما سيتم تصديره 130 مليار متر مكعب حتى عام 2040.

حمل هذا التطور معنى إستراتيجياً عميقاً، ومؤشراً سياسياً لا يمكن الالتفاق حوله، فالعقد الجديد يغيّر في عنوان إسرائيل من كونها مجرد منتِج محلي للطاقة إلى لاعب إقليمي مؤثر في تصدير الغاز، ما يمنحها وزناً جديداً في معادلات المنطقة. 

ترتبط صفقة الغاز المصرية الإسرائيلية مباشرةً بمشروع الممرّ الهندي الأوروبي، إذ يشكل الغاز محور الطاقة فيه عبر أنابيب تربط الشرق الأوسط بأوروبا، ما يجعل أي تأخير في تنفيذ الصفقة تهديداً لثقة المستثمرين العالميين باستقراره.

وفي المقابل، تسعى مصر، التي تعاني من نقص حاد في الغاز واعتماد متزايد على الواردات، إلى تعزيز موقعها كمحطة إقليمية محورية لتوزيع الطاقة بين آسيا وإفريقيا، على غرار تركيا كمحطة توزيع طاقة بين آسيا وأوروبا، ما يغير من التموضع السياسي للقاهرة وتأثيراتها.

أما الولايات المتحدة وأوروبا، فتتعاملان مع موارد الغاز في شرق المتوسط بوصفها أداةً لتأمين تنويعٍ في الإمدادات، ووسيلةً جديدةً لتعزيز النفوذ الجيوسياسي في منطقة تشهد تنافساً حاداً على مصادر الطاقة. 

لكن في اللحظة التي بدت فيها "الكوبرا تحت السيطرة"، تم تعطيل الاتفاق، وصرّح وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين، بأنّ إسرائيل لن توافق على التصدير حتى "تضمن أسعاراً عادلة للسوق الإسرائيلية"، مشيراً إلى أن جهوداً تُبذل لحل "القضايا السياسية العالقة بين إسرائيل ومصر"، دون تقديم تفاصيل إضافية، وهو ما تسبب في الخلاف العلني والحادّ مع واشنطن. 

الأزمة إذاً: هل تُقدّم إسرائيل الغاز وتفقد السيطرة على الأسعار المحليّة؟ أم تُبطئ التصدير أمام ضغوط أمريكية تهدّد مصالحها؟ هذا التأخّر لا يعني فقط مسائل تجاريةً، بل يشير إلى أنّ بنية الطاقة هي اليوم ساحة للسلطة، لا مجرد تجارة.

علاقة الممر الهندو أوروبي باتفاقية الغاز المصرية الإسرائيلية  

مشروع الممر انطلق بالإعلان عنه من الدول المشاركة في قمة G20 في نيودلهي، في أيلول/ سبتمبر 2023، وهو يهدف إلى ربط الهند، الخليج، الشرق الأوسط، والاتحاد الأوروبي بممرّات برّية وبحريّة وأنابيب طاقة وألياف بصرية.

هذا الممر يقدَّم كبديل لمشروع "الحزام والطريق" الصيني بحسب بحث لمركز كارنيغي، وربما في عالم أفضل كـ"مكمل" له، مع السعي الحثيث من العالم الغربي -أوروبا والولايات المتحدة- لتحويل حليفتهم "الهند" إلى أحد أقطاب الربط التجاري والطاقة بين آسيا وأوروبا، وتقويتها في عالمها الشرقي. 

ووفقاً لتحليل لجنة الدراسات الأوروبيّة، فالممر إذا ما تحقّق سيُعطي أوروبا قدرةً أكبر على تنويع الممرّات التجارية، وتقليل الاعتماد على مضائق بحرية أو مسارات مهدّدة، وهذا بالطبع بعد تجاوز العوائق البنيوية كالتنسيق، والتمويل، والأمن، والسياسية كالصراعات الإقليمية، والنفوذ الصيني.

فكيف إذاً تتقاطع صفقة الغاز بين إسرائيل ومصر مع مشروع الممر؟ 

بحسب البحث الذي أجراه معهد كارنيغي، الجواب السريع والمباشر "طاقة الربط"، إذ يشكّل المشروع محوراً رئيسياً لمدّ أنابيب الطاقة وأنظمة الغاز والهيدروجين وشبكات الكهرباء عبر الشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا. 

ووفقاً لتقديرات المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإنّ الصفقة الإسرائيلية-المصرية الأخيرة سوف تُعزّز فكرة أنّ البلدين قد يتحوّلان إلى حقلَي طاقة رئيسيين يتم ربطهما بالممر.

أما من حيث الموثوقية والبُنى التحتية، فإنّ أي تأخّر في التوقيع أو خلاف حول التنفيذ يُضعف ثقة المستثمرين والمؤسسات المموّلة، ويؤخر تالياً تنفيذ الممرات الفرعية التي تحتاج إلى استقرار طويل الأمد. كما تشير تحليلات "كارنيغي"، إلى أنّ المشروع لن ينجح إذا ظلّ عرضةً للتوترات الجيوسياسية التي قد تؤثر على استمراريته وجدواه، وهو ما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة المصلحة الأكبر في منافسة الصين، تجاوزه، من خلال مشاريع التطبيع الإقليمية، ضمان استقرار طويل الأمد بما يكفي لإراحة رؤوس الأموال العملاقة الراغبة في الاستثمار في المشروع. 

ترى واشنطن في الممرّ الهندي الأوروبي سلاحها الاقتصادي القادم لمواجهة ومنافسة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، لذا تعتبر أي تعطيل إسرائيلي تأخيراً يمنح بكين فرصة للسير في مشروعها وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وشرق إفريقيا، ما يجعل الوقت في جوهر الصراع الحالي

كما تسعى واشنطن والدول الأوروبية إلى إشراك إسرائيل في شبكات الربط التجاري والطاقة ضمن الممر، إلا أنّ الخلافات الحالية تكشف أنّ إسرائيل ما زالت تواجه ضغوطاً داخليةً وخارجيةً تحول دون تحوّلها إلى ما تريده لها الولايات المتحدة الأمريكية: "مركز طاقة واستقرار دائم في المنطقة"!

أمّا في ما يخص المسارات البديلة، فإنّ سعي أوروبا إلى تقليل اعتمادها على المضائق البحرية أو على الغاز الروسي، يجعل من الربط بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط خياراً إستراتيجياً بالغ الأهمية. 

غير أنّ تعثّر أيّ من عقد الطاقة الرئيسة في هذا المسار -سواء إسرائيل أو مصر أو الولايات المتحدة- يهدّد بتعطيل المشروع بأكمله، نظراً إلى تشابك مصالح جميع الأطراف، لذا فأكثر من أي وقت مضى الولايات المتحدة معنيّة بالسلام، وبالتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط. 

لماذا لن تتسامح واشنطن؟ 

المشاريع الاقتصادية العملاقة هي اليوم ساحة التنافس التي يقاس فيها نفوذ القوى العظمى، لهذا لا يبدو أن الولايات المتحدة تملك ترف التسامح مع أي تعطيل إسرائيلي يُبطئ تنفيذ مشروع الممر، الذي تعدّه واشنطن أحد ركائز رؤيتها الجديدة للربط بين آسيا وأوروبا من خارج المظلة الصينية.

فمن زاوية التنافس الجيو-اقتصادي مع الصين، تشير دراسات كارنيغي إلى أنه يمثّل الردّ العملي على مبادرة "الحزام والطريق" الصينية "BRI" التي تسعى إلى توسيع النفوذ الصيني عبر ممرات النقل والطاقة. 

يتزايد القلق الأمريكي من مماطلة تل أبيب في البدء في مسارات الاستقرار، ما يضعف الثقة بقدرتها على الالتزام بمشاريع الربط الكبرى، بميلها الدائم نحو الخيارات العسكرية بدلاً من الاقتصادية.

وأي تأخير في تنفيذ مشروع الممر الهندو أوروبي يُفسَّر في هذا السياق كمنح بكين المزيد من الوقت لترسيخ حضورها الاقتصادي في الشرق الأوسط وشرق إفريقيا، وهي مناطق تراها واشنطن اليوم محوراً لمعادلة النفوذ الدولي.

وبحسب دراسة نشرها المجلس الأطلسي، وردت توصيات قوية بأن كل تأخير في تنفيذ مشاريع الربط بين الشرق الأوسط وأوروبا يُقوّض إستراتيجيات أمن الطاقة الغربية، ويُهدد استقرار سلاسل التوريد التي تُعدّ العمود الفقري للاقتصاد العالمي.

عودة إلى الغضب الأمريكي، يبدو أنّ المماطلات الإسرائيلية باتت تضعف الثقة الأمريكية بمصداقية إسرائيل على تنفيذ التزاماتها في مشاريع الربط الإقليمي الكبرى، وفي قدرتها على أن تكون شريكاً آمناً حين يتعلق الأمر بخياراتها الداخلية غير الاقتصادية بالأساس.

فالمخاوف الأمريكية من قدرة تل أبيب على أن تكون حجر زاوية في مشروع عملاق كهذا تتزايد كل يوم، مع ميلها إلى الخيارات العسكرية وجرّ واشنطن إليها، بعض هذه المخاوف والتحذيرات نقرأها في ورقة الباحث الرئيسي في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن، كلايتون سيغل، الذي نشر مقالاً بعنوان "من المبكر استبعاد اضطراب إمدادات الطاقة في الشرق الأوسط". 

يشير سيغل إلى أنّ تعليق إسرائيل عمليات حقل ليفياثان للغاز، ومسارعة مصر إلى تأمين بدائل، يكشفان هشاشة منظومة الطاقة الإقليمية، لافتاً إلى أن أي تصعيد إضافي من جهة تل أبيب سيُقوّض إستراتيجيات أمن الطاقة الغربية التي تعتمد على استمرار تدفقات النفط والغاز من الشرق الأوسط دون انقطاع، والتي يقع الممر الجديد في قلب طموحاتها. 

وبالإضافة إلى البعد الاقتصادي، هناك البعد السياسي، فبحسب "أسوشيتد برس"، أضرار خطوة وزير الطاقة الإسرائيلي كوهين، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي المرتبط بالممر، بل تتعداها إلى التأثير على الجانب السياسي الهشّ، وقد تفاقم التوتر في علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة ومصر، وهما الوسيطان الرئيسيان في اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس الذي أوقف حرباً استمرت أكثر من عامين. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image