انكسر صمود الفاشر… وانهزمت الإنسانية

انكسر صمود الفاشر… وانهزمت الإنسانية

رأي نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 29 أكتوبر 202510 دقائق للقراءة

انكسر صمود الفاشر، المدينة الأسطورية التي صمدت في وجه الحصار والتجويع والهجمات المتكرّرة من ميليشيا الدعم السريع لنحو 18 شهراً، حتّى وُصفت بأنها "قلعة المقاومة والصمود" إذ تغلّب سكانها على مدى شهور الحصار الوحشي على مهدّدات الحياة، فيما تصدّى الجنود لـ275 معركةً مباشرةً شنّتها مليشيات الجنجويد على المدينة، بجانب القصف المتواصل بالمدفعية والطائرات المسيّرة، باعتبارها آخر المدن الخارجة عن نطاق سيطرتها في إقليم دارفور.

واجه سكان المدينة الهجمات المتنوعة بصبر وجلد، فيما استخدم المهاجمون جميع أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، إلى جانب الطائرات المسيّرة. وأضحت مظاهر الدمار في كل مكان، كما وثّقت مقاطع تُتَدَاوَل في منصات مواقع التواصل الاجتماعي. 

تجرّع المدنيون الفارّون من مدينة الفاشر جميع صنوف التعذيب من قتل وسحل وانتهاك حرمات، وإن لم تُكشف جميع هذه الانتهاكات بعد. روايات الناجين/ ات من آلة الجنجويد القاتلة تُدمع القلوب من كثرة القتل الذي شاهدوه في طريقهم، ووصفه أحدهم قائلاً: "الكل شهيد، ما في جريح"

وسبقت الهجمات الأخيرة مطالبات عديدة لجهات أممية ودولية من قوات الدعم السريع بالكف عن الهجوم على المدينة. وفي الجانب الآخر، أُطلقت مناشدات استمرت شهوراً طويلة تنادي بضرورة التحرّك العسكري من المركز لفكّ الحصار وإنقاذ الفاشر من خطر السقوط في أيدي قوات الدعم السريع، وبقائها تحت حماية القوات المسلحة السودانية والقوات المشتركة المكونة من قوى الحركات المسلحة التي تقاتل معها. لكن التحرّك لم يحدث إلى أن سقطت المدينة.

خلّفت هجمات الدعم السريع الأخيرة واستيلاؤها على المدينة التي كانت تضم قرابة مليون شخص، وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، قبل أن تتقلّص إلى أقل من النصف؛ بسبب نقص الغذاء في الشهور الأخيرة، أوضاعاً إنسانيةً قاسيةً وسط المدينة، خاصةً بالنسبة إلى النساء والأطفال، إلا أن الخطورة تمثّلت في مشاهد مئات القتلى الذين تمت تصفيتهم من مسافة قريبة انتقاماً، فيما فرّ آلاف النازحين إلى منطقة طويلة، في جبل مرة، ومناطق أخرى مثل أمبرو وكرنوي. 

خلال شهور الحصار، دخل الموت كل منزل في المدينة، ولم تعد مشاهد الموت ترعب الأطفال والسكان هناك لكثرتها. برغم ذلك صمد إنسان الفاشر في وجه تلك الصعوبات، وواجهها بعزيمة وإصرار على النجاة بالتضامن المجتمعي، ولم يرفع راية الاستسلام لانعدام الغذاء، ولكنه اصطدم بموت ضمير الإنسانية ووحشية عناصر الجنجويد الذين أرادوا الانتقام لقادتهم الذين قُتلوا سلفاً في معارك المدينة دون أي اعتبار للمدنيين أطفالاً ونساءً ورجالاً.

ظلّ أهالي الفاشر يتحدّون المجاعة ونقص الغذاء بالتضامن المجتمعي من خلال "التكايا" التي قادها متطوعون بجهد إنساني خالص جسّد التضامن في وقت انقطع فيه الدعم عن المنظمات الإغاثية، ونقص التمويل ضرب أروقة برنامج الغذاء العالمي والمنظمات الإغاثية الأخرى. والتكيّة هي مطبخ جماعي يقدّم وجبات مجانيةً للأسر.

من التهجير القسري مع سبق الإصرار بعد استباحة معسكر زمزم للنازحين، جنوبي المدينة، في نيسان/ أبريل 2025، وما صاحبه من انتهاكات أبرزها قتل الكادر الطبي في مستشفى ميداني يقع تحت إشراف منظمات الإغاثة الدولية، وصولاً إلى مواصلة قوات الدعم السريع هجماتها، وتكثيفها القصف العشوائي لإجبار المدنيين على مغادرتها، ومنع وصول السلع إلى المدينة، كل ذلك وقع في أعقاب ارتكابها والمليشيات المتعاونة معها انتهاكات جسيمةً صنّفتها هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية "جرائم حرب وتهجيراً قسرياً" بحق النازحين في معسكر زمزم.

طالت الانتهاكات حينها عمّال المنظمات الإنسانية، وقُتِل تسعة أشخاص من فريق منظمة الإغاثة الدولية وقتها بالرغم من النداءات الكثيرة التي أطلقتها البعثات الأممية ودول الترويكا، ثم واصلت "الدعم السريع" هجماتها على المدينة، وأصرّت على الاستحواذ عليها بالسبل كافة، وعدّها داعموها في الكيانات السياسية من تحالف "تأسيس" مدخلاً لـ"تحقيق نموذج الانفصال وإنشاء دولة في الإقليم".

وعلى الرغم من أنهم شكّلوا من خلال تحالفهم هياكل سلطة أطلقوا عليها "حكومة السلام"، إلا أنها كانت دافعاً للحشد العسكري، وبات مقصدها المعلن السيطرة وتشكيل حكومة، لكن جانبها الخفيّ ممارسة المزيد من الانتهاكات في حق المدنيين، باعتبار أنّ التحالف فتح أبواباً أكبر لحشد التسليح من حلفائه الخارجيين.

ماذا جرى بعد السيطرة على مقر قيادة الجيش؟

سيطرت "الدعم السريع" على مقر قيادة الجيش السوداني (الفرقة السادسة)، في الفاشر، مطلع الأسبوع الجاري، بعد انسحاب عناصر الجيش حيث قال قائده العام، عبد الفتاح البرهان، أمس الأول، إنّ قيادة الجيش وافقت على إخلاء المدينة حفاظاً على ما تبقّى منها وضماناً لعدم تعرّض المدنيين لمزيد من مخاطر الجوع في ظل انعدام السلع الغذائية… فهل حقّق هذا الانسحاب مبرّراته؟

مع دخول قوات الدعم السريع، نهار الأحد 26 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، إلى مقر قيادة الجيش، راجت مقاطع الفيديو المروعة التي تجسّد حجم الانتهاكات التي وقعت في المدينة، حيث مورست كل صنوف القتل بحق المدنيين، بما في ذلك الإعدامات الميدانية والإذلال والتعذيب، وتالياً القتل بدم بارد طال مئات الرجال والشباب، ولم تسلم من انتهاكات "الدعم السريع" النساء والأطفال، في مشاهد وثّقها عناصر الجنجويد بأنفسهم وتباهوا بها، ليؤكدوا للعالم أنهم يمارسون القتل جهراً، دون أدنى شعور بالخوف من المساءلة.

مشاهد ستظل في مخيلة الناس إلى الأبد لبشاعتها، وثّقت مقاطع فيديو القائد الميداني الفاتح عبد الله إدريس، الملقب بـ"أبو لولو"، وهو يمارس التصفية المباشرة بحق مدنيين عُزّل. 

يُعرف المدعو أبو لولو، بـ"الجزّار"، لوحشية القتل الذي ينفذه، سابقاً في كردفان وحديثاً في الفاشر، وهو قتل ذو طابع عرقي وانتقامي. وسبق أن ظهر الشخص نفسه في فيديو يوثّق قتل مواطن على أساس قبلي في نيسان/ أبريل 2025، في محيط المدينة، الأمر الذي يؤكد أن القتل ممنهج ودافعه الأساسي الإبادة.

في حادثة نيسان/ أبريل المشار إليها، خرجت قوات الدعم السريع و"تحالف تأسيس"، وهو تحالف سياسي يضم قوات الدعم السريع ومجموعات مسلحة وسياسية أخرى، ببيانات أدانت القتل، وأكدت تشكيل لجنة تحقيق بشأنه. ولكن ظهوره الأخير في مقاطع عديدة خلال اليومين الماضيين، وهو يمارس إجرامه أمام أعين العالم، ومجاهرته في فيديو منشور على منصة "تيك توك" بأنه قتل ألفي شخص، وأنه يمضي بغية قتل العدد نفسه مرةً أخرى، تهديد خطير وتأكيد أن قوات الدعم السريع والمجموعات المتحالفة معها في "تأسيس" لا تملك أي سيطرة على أفرادها -على أقل تقدير ما لم تكن متواطئةً أو موافقةً على حدوث هذه الانتهاكات المروّعة- وأنّ الإفلات من العقاب مستمر، برغم بشاعة الانتهاكات التي يرتكبونها.

هذه الحوادث كافية لتقديم الجناة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وعلى المنظمات الحقوقية العمل الجاد على ملاحقة قيادة الدعم السريع جنائياً بسبب ضلوعها في هذه الانتهاكات المرتكبة في حق المدنيين العزل، وتقديم المسؤولين مباشرةً عنها إلى محاكمات جادة وعادلة.

كل ما شاهدناه وسوف نشاهده خلال الفترة القادمة، ضمن أخبار الفاشر، يدفعنا إلى طلب الرحمة والمغفرة لشهداء الفاشر، وفي الوقت نفسه العقاب الحتمي لكل من ارتكب هذه الجرائم وإن طال الزمن.

احتفالات على أنغام القتل

سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر واجهها أنصار المليشيا في مدينة نيالا ومدن أخرى بـ"احتفالات"، وكأنهم يرقصون على أنغام القتل الوحشي الذي يمارسه جنودهم. تلك الانتهاكات حوّلت الفاشر إلى "غزّة أخرى"، ولكن المجرم فيها هذه المرة ليس إسرائيل وليسوا من اليهود، بل قوة سودانية مسنودة بأجندة خارجية تمارس القتل والسحل والتنكيل بأبشع الصور التي لا يمكن أن يتخيّلها عقل.

تجرّع المدنيون الفارون من مدينة الفاشر جميع صنوف التعذيب من قتل وسحل وانتهاك حرمات، وإن لم تُكشف جميع هذه الانتهاكات بعد. روايات الناجين/ ات من آلة الجنجويد القاتلة تُدمع القلوب من كثرة القتل الذي شاهدوه في طريقهم، وقد وصفه أحدهم قائلاً: "الكل شهيد، ما في جريح"، في دلالة على حجم القتل الذي طال الذين حاولوا الفرار، ولُوحِقُوا في طرق سيرهم.

تدخل خارجي آخر حسم المواجهة؟

وفق مصادر مدنية كُتبت لها النجاة، تحدثتُ إليها، فإن القتال بين قوات الدعم السريع والقوات العسكرية الموالية للجيش في المدينة اشتدّ، صبيحة يوم الأحد الماضي، في تمام الساعة الخامسة صباحاً، واستمرت المعارك إلى ما بعد الظهر بقليل. واستطاعت طليعة قوات الدعم السريع اختراق الدفاعات المتقدّمة التي تحرس مقرّ قيادة الفرقة السادسة وقتها فيما انسحبت معظم القوات التابعة للجيش إلى مقر قوات الدفاع الجوي بالقرب من جامعة الفاشر، وواصلت مجموعات من القوات المشتركة التحرّك بسياراتها قرب الجامعة، وخاضت معارك "تكسير عظام" في ما يشبه "حرب الشوارع".

وحينما قرّرت قيادة القوات المسلحة، برئاسة قائدها محمد أحمد الخضر، الانسحاب من المدينة، وحاولت تأمين طرق الخروج، جرى تحديد ثلاثة مسارات على أن تقوم كل مجموعة بتأمين مسار خروجها.

وفقاً لمجند ضمن القوات المشتركة استطاع الفرار وهو في مكان آمن حالياً، استغرق أمر الهروب من وسط المدينة قرابة ثلاث ساعات، خاضت القوات خلالها جولات من قتال المهاجمين، الجنجويد. ويؤكد أنه، في مساء ذلك اليوم، عند الساعة الثامنة مساءً، حلّقت طائرتان عسكريتان، وأطلقتا وابلاً من المقذوفات على القوات المشتركة الموجودة بالقرب من الجامعة، واستهدفت بعض القيادات، بينهم الناطق الرسمي باسم القوى المشتركة أحمد حسين أدروب وآخرين.

وهنا تظهر مجموعة من التساؤلات عن طبيعة هذه الطائرات العسكرية التي حسمت المعركة لمصلحة قوات الدعم السريع، وهزمت القوات المشتركة ودمّرت مركبات تابعةً لها وأخرى خاصةً بالمدنيين. هل هي طائرات أجنبية؟ أو أن قوات الدعم السريع باتت تمتلك طائرات عسكريةً؟

طرقات مملوءة بالجثث

على أطراف المدينة، حفرت قوات الدعم السريع خنادق، ونصبت حواجز ترابيةً لمنع الهروب، وواصل جنودها ملاحقة الهاربين من المدنيين، حيث يُلقى القبض عليهم ويُقتَلون بدم بارد. كل ذلك ظهر في مقاطع مصوّرة، بل وصل الأمر إلى تصوير عمليات القتل بهواتف الضحايا وإرسال المقاطع إلى أسرهم مباشرةً، مع مطالبات بنصب سرادقات العزاء، وهنا تتساقط سمات الإنسانية وتقشعر الأبدان رعباً مما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان. 

طرقات مملوءة بالجثث، واحتفالات علنية بالقتل ورقص على دماء الضحايا، والبحث عن أحياء في مستشفى لتصفيتهم، وتصوير قتل المدنيين بهواتف الضحايا ومشاركته مع ذويهم… حين سقطت الإنسانية في الفاشر التي غدت ساحةً أخرى لـ"الإبادة" والانتقام الوحشي

قتل الجرحى والمرضى

أظهر مقطع مصوّر جرى تداوله على نطاق واسع اليوم على فيسبوك، جنوداً من قوات الدعم السريع يقومون بتصفية عشرات المرضى والجرحى داخل المستشفى السعودي، ويتساءلون عن وجود أحياء بغرض قتلهم هو أمر خطير للغاية ينذر بتصاعد الاقتتال القبلي على إثر الانتقام ورد الثأر. 

الوصول إلى "طويلة"

منذ تصاعد الأحداث أخيراً، وصلت إلى منطقة طويلة بجبل مرة مئات الأسر مشياً على الأقدام قاطعةً مسافةً تُقدّر بـ70 كلم، وفي المنطقة لا تتوفّر خدمات لتغطية احتياجاتهم. هؤلاء النازحون يحتاجون إلى تدخّل عاجل من منظمات الإغاثة لإنقاذهم من إرهاق التعب، وتقديم العلاج والغذاء لهم، على أمل ألا يكون تحرك المنظمات الدولية هذه المرة أيضاً متأخراً جداً. 

كل ما شاهدناه وسوف نشاهده خلال الفترة القادمة، ضمن أخبار الفاشر، يدفعنا إلى طلب الرحمة والمغفرة لشهداء الفاشر، وفي الوقت نفسه العقاب الحتمي لكل من ارتكب هذه الجرائم وإن طال الزمن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image