رحلة

رحلة "دمويّة" في عقول مدمني مشاهد الذبح والتعذيب  

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 5 نوفمبر 202511 دقيقة للقراءة

هيَ تجربةٌ مرَّ بها كثيرون، وخصوصاً المراهقين في فترة ما بعد عام 2011.

صديقٌ متحمّسٌ لك يخبرك بأنّه يريد أن يُريك شيئاً مميّزاً، شيئاً ممّا كان يتداول بين الهواتف، لكن لا، هو ليس فيلماً إباحيّاً كما هو متوقّع، وكما كان منتشراً بين المراهقين في تلك الفترة قبل أن يتعلّم الجميع الوصول إلى المواقع الإباحيّة بسهولة.

ستجد نفسك فجأةً، وبدون استعداد نفسيٍّ مناسب، أمام مقطعٍ مصوَّرٍ حقيقيٍّ لشخصٍ يقتل آخر، غالباً من طريق الذبح.

سيتوقّف عقلك فجأةً، ويصيبك الغثيان، وتشعر بتلك الإثارة تجتاح مشاعرك، وغالباً سيبقى هذا المقطع في ذاكرتك إلى الأبد.

صدمةٌ لا تقلّ عن صدمة مشاهدة أوّل فيلمٍ إباحيّ، لكن على عكس الأفلام الجنسيّة التي سيعتادها العقل نظراً إلى طبيعة الفعل فيها، ستكون صدمة الأفلام الدمويّة الحقيقيّة أقرب إلى الـ "تروما"، وهو شيءٌ عبّر عنه كثيرون بعد سنواتٍ على شكل "ميمز" على الإنترنت.

"داعش"… المزوّد الأكبر لهذه المقاطع

أغلب تلك المقاطع كانت تابعةً لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في فترة ما بعد ثورات الربيع العربي، حين بدأ يسيطر على مساحاتٍ شاسعة، ويُصوِّر وينشر تلك المقاطع كدعاية له، في واحدة من أبشع — إن لم تكن أبشع — وسائل الدعاية التي عرفها التاريخ.

مشكلة تلك الفترة أنّ منصّات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية عموماً لم تكن تملك نظاماً محكماً لمنع المحتوى الدموي، فكان انتشار وتداول تلك المقاطع سهلاً، إذ لم تكن المنصّات مثل "فيسبوك" و"يوتيوب" تعتمد على خوارزميّاتٍ متقدّمة، بل على بلاغات المستخدمين أنفسهم، إلى جانب المواقع والمنتديات المجهولة، لكن سرعان ما تم تدارك تلك المشكلة.

مع صعود تنظيم "داعش"، تزايد انتشار المقاطع الدموية للقتل والذبح وقطع الأوصال نتيجة ضعف أنظمة الرقابة في المنصات آنذاك. لكن مع عام 2015، بدأت الحملات التقنية المكثفة لحذف هذا المحتوى، ومع تراجع ظهوره العلني، انتقل إلى "الدارك ويب"، بينما لا يزال متداولاً في مجموعات مغلقة مخصّصة لعشاق المشاهد

فمنذ عام 2015 وما بعده، اتبعت سياسات واسعة لمحاربة تلك الظاهرة ومحو تلك المقاطع بشكلٍ تلقائيٍّ أسرع، وخصوصاً من "تويتر" الذي كان المنصّة المفضّلة لداعش والجماعات الإرهابيّة عموماً، ومنصّة تداول الأخبار والدعاية الأساسيّة لهم.

فعلى سبيل المثال، حذف "يوتيوب" عام 2017 آلاف الفيديوهات من منصّته بسبب دمويّتها، أغلبها كانت توثّق الحرب السوريّة، ممّا أدّى إلى شكاوى عديدة من ناشطين، حيث كانت تلك المقاطع تُعدّ توثيقاً لجرائم الحرب في تلك المناطق ووسيلةً لحفظ أدلّةٍ دمّرها "يوتيوب"، كما طبّقت "غوغل" قيوداً أكبر لإخفاء المواقع التي تعرض هذا المحتوى.

الـ "دارك ويب" 

مع الوقت بدأت تلك المقاطع تختفي، وأصبح الحصول عليها أصعب، وانتشرت نظريّةٌ تقول إنّ تلك المواد مكانها هو الإنترنت المظلم فقط، وهو مكان من الصعب الوصول إليه ويحتاج إلى خبرة تقنيّة كبيرة. 

فقصص "الغرف الحمراء" وبيع مقاطع القتل الحصريّة على "الدارك ويب" كانت المسيطرة، مثل قصّة قتل شابٍّ مصريٍّ لطفلٍ بتحريضٍ من آخر لبيع المقطع في الأنترنت المظلم، وهو ما ساعد على وضع هذا المحتوى في أماكن بعيدة وصعبة الوصول. 

لكن في الواقع، هذا ليس صحيحاً؛ فتلك المقاطع لم تختفِ، والوصول إليها ليس بتلك الصعوبة، ولا يحتاج إلى الكثير من الخبرة التقنيّة، ففي مجموعات مخصّصةٍ على منصّاتٍ مثل "تلغرام"، ومواقع يتداول الناس أسماءها بين فئاتٍ محبّةٍ لتلك المشاهد، وهو لفظ إنجليزيّ قديم "Gore" ما زال المحتوى الدموي يُتداول، أو ما أصبح يُعرف على الإنترنت باسم "الغور"، والذي يعني الدم المتجلّط، لكنّه أصبح الاسم الرسميّ للمقاطع الدمويّة الممنوعة، انتشر هذا الاسم منذ التسعينيّات، ولاحقاً تكاثرت مواقع "الغور" الشهيرة، أشهرها "BestGore" الذي أغلق في العام 2020. لكن ما زال الموقع يحمل كلمة صاحبه ولماذا أقفله. 

A screenshot of a cartoon

AI-generated content may be incorrect.

لكنهم موجودون… وفي تزايد 

التغيّر الحقيقي الذي حصل على مدار السنوات هو أنّ محبّي هذا المحتوى نظّموا أنفسهم في مواقع محدّدة ومجموعات معيّنة، بدلاً من عشوائيّة الماضي، وهم ليسوا قليلين بالمناسبة، بل في تزايد مستمرّ، حتى عندما أخفت "غوغل" تلك المواقع من نتائج البحث، فأصبح يتوجّب عليك أن تعرف اسم الموقع تحديداً للوصول إليه.

وصلت هذه المقاطع إلى العالم العربي، الذي يعتبر من أكبر المنتجين لها إلى جانب المكسيك ودول إفريقية وأمريكا اللاتينية. وتنتشر إما برابط خادع يقود إلى فيديو قتل، أو فضول مسبق يدفعك للمشاهدة رغم معرفتك بدمويته.

نادراً ما يخرج هذا المحتوى للعامة بسهولة، كما حدث في "إنستغرام" يوم 27 شباط/ فبراير 2025، عندما أُصيبت خوارزميّات الموقع بخللٍ تسبّب في ظهور سيلٍ من الفيديوهات الدمويّة للمستخدمين، قبل أن تُعالج شركة "ميتا" الموقف سريعاً، كان ذلك اليوم سبباً في الترويج لمحتوى "الجور"، إذ بحث كثيرون عن طرقٍ لمشاهدة تلك المقاطع مرّةً أخرى. 

بالتأكيد وجدت تلك المقاطع طريقها إلى العالم العربي، وخصوصاً أنّنا من أكثر الدول المنتجة لها! إلى جانب المكسيك وبعض دول إفريقيا وأمريكا الجنوبيّة. 

يبدأ الأمر بطريقتين: إمّا بخدعةٍ سخيفةٍ تدفعك للضغط على رابط لموقع أو جروب "تلغرام" ما لتجد نفسك أمام مقطعٍ عشوائيٍّ لشخص يُقتل أو تُقطّع أوصاله، أو بمعرفة سابقة بالمحتوى، سوف يسيطر عليك الفضول ويدفعك للمشاهدة رغم علمك بأنّك سترى شيئاً لن تحبّه. 

أين المتعة في المشاهد الدموية المفرطة؟ 

لماذا يظل الناس في مجتمع محبي "الجور" يتداولون أسماء المواقع والمجموعات بلهفة، وينقلون أخبار المواقع الجديدة بعد إقفال القديمة. أو لعلّ السؤال الأدق هو لماذا يعود الأشخاص لمشاهدة تلك الأشياء مرّةً أخرى؟

لماذا تملك تلك المنصّات مشاهدين دائمين ومستمرّين مثل المواقع الجنسيّة؟

في نقاشٍ على منصّة "ريديت"، لكونها أكثر منصّةٍ تشجّع على الاعتراف والمصارحة، نظراً لأنّ معظم المستخدمين يُخفون هويّاتهم، صرّح أشخاصٌ بأنّهم يشاهدون تلك المقاطع كتعبيرٍ عن الألم الشخصي؛ فمنهم من يشاهدها في أوقات اكتئابه ورغبته في الانتحار، وربّما يتخيّل نفسه مكان الشخص المعذّب أو المقتول، ومنهم من فقد الإحساس تجاه تلك المقاطع بالرهبة أو الخوف، فأصبح فقط يريد أن يشاهد.

A screenshot of a phone

AI-generated content may be incorrect.A screenshot of a computer

AI-generated content may be incorrect.

A screenshot of a phone

AI-generated content may be incorrect.

فتأثير مشاهدة الأفلامِ الجنسيّة منطقيّ، فهي غريزةٌ طبيعيّةٌ في البشر، تدفع هرمونات السعادة والرضا والإثارة فينا، وهي طريقةٌ للحصولِ على النشوة.

لكن من المفترض أنَّ المحتوى الدمويَّ لا يُشعرنا بالسعادة، فلماذا له محبّون؟

هل هو فقط تطوّرٌ مخيفٌ لحبّ البشر للإثارة التي تدفعنا لمشاهدةِ أفلامِ الرعب، أو خوضِ تجاربَ مخيفةٍ مثل الألعاب الخطيرة في مدنِ الألعاب؟

على عكس تلك التجارب السابقة التي تقع في بيئاتٍ مسيطرٍ عليها ومحكمة، وتذكّرنا بأنَّ الخطر ليس حقيقيّاً، فإنَّ أفلامَ الجور هي الحقيقةُ المجسَّدة، وربما هنا يكمن جزءٌ من متعتها: أن تُلقي نظرةً على جانب لا تستطيع الوصولَ إليه بسهولةٍ في يومك، كمن يُلقي نظرةً خاطفةً على الجثث في حادثِ سير.

ومثل أي مصدر للإثارة غالباً ما يعتاده الشخص، ليعود طالباً جرعة أكبر، وغالباً ما يكون ذلك بمشاهدة مقاطع أكثر حدة، أو بطرق أكثر رعباً. 

وهو ما يعيدنا إلى "داعش"، لماذا اختارت هذا الأسلوب في الدعاية؟ أو لماذا تروّج جماعة لنفسها بأنّها تقتل البشر وتعذّبهم؟ 

مذا لو اجتمع "الجور" مع التبرير الأخلاقي؟ 

لعلها كانت تعرف أنّها طريقةُ تجنيدٍ فعّالة؛ فخلف طبقات الاستنكار والرفض والهجوم عليها، كان هناك كثيرون تحرِّك فيهم تلك المقاطع شيئاً من الإثارة وحبّ العنف، ما يدفعهم للالتحاق بها، تماماً كما جُنّد شبابٌ ومراهقون عبر ألعاب الأكشن وإطلاق النار.

لكن مع انتشار تلك المقاطع والمجموعات المغلقة بين الشباب، بات التخوف من أن يكون الأمر مؤشراً على أنّها تصنع مجموعةً من سفّاحي المستقبل.

صرّح أشخاص بأنّهم يشاهدون تلك المقاطع كتعبير عن الألم الشخصي؛ فمنهم من يشاهدها في أوقات اكتئابه ورغبته في الانتحار، وربّما يتخيّل نفسه مكان الشخص المعذّب أو المقتول، ومنهم من فقد الإحساس تجاه تلك المقاطع بالرهبة أو الخوف، فأصبح فقط يريد أن يشاهد

فهل هي مجرّدُ وسيلةٍ للحصول على الأدرينالين؟ وهل تُشكِّل تلك المقاطع خطراً أكبر من العنف الموجود في حياتهم اليومية؟ العنف الذي يشجّعه المجتمع ذاته؟

في مصر، مثلًا، تنتشر الجرائم وأخبارها، وفي عصرنا هذا من الوارد أن يكون كثير منها مصوّراً وموجوداً على الإنترنت، كالمقطع الذي انتشر منذ فترةٍ وجيزةٍ لمشاجرةٍ انتهت بمقتل شخص رمياً بالرصاص على يدِ رجلٍ كبيرٍ في السن.

رغم أنّ المقطع لم يكن دمويّاً مقارنة بما نتحدث عنه، إلا أنه فتح باباً للنقاش، خصوصاً مع تداول شائعات - لم يثبت خطؤها من صحتها - بأنَّ المقتول تحرّش لفظيّاً بابنةِ الرجل.

لا شك بتجريم فعلِ التحرّش حتى لو كان لفظيًّا، لكن عدداً مهولًا من المعلقين والمتابعين شجّعوا فعلَ القتل، معتبرين أنّ للرجل الحقَّ في قتل شخص رمياً بالرصاص لتحرّشه اللفظيِّ بابنته، ولم يعتقدوا أن عناك عقوبة عقلانية أخرى أو أن فعل الأب هو جريمة قتل تستحق المحاكمة، أو بوجود أي دور للقانون، بل ذهبوا لقانون الغابة، فمن يخطئ لك الحق في قتله مهما كان مقدار خطئه.

وهذا في الغالب ليس دفاعاً عن حق المرأة في الحركة والحرية، بل حماسة نابعة من مفهوم الشرف العربي، ففي الغالب لو كان الخبرُ يقول إنَّ نفس الرجل قتل ابنته لأنّه رآها تتحدث مع شابٍّ، لكان التشجيعُ أكبر.

فمثلًا، مؤخراً خفّفت المحكمةُ المصريّةُ حكمَ الإعدام إلى سبعِ سنواتٍ سجناً فقط على رجلٍ قتل زوجته القاصر البالغة أربعةَ عشرَ عاماً بعد أن أنهال عليها ضرباً، وصدر حكم على قاتلِ ابنته التي تعرّضت للاغتصاب على يدِ شخص بثلاث سنوات فقط، وعلى المغتصبِ بعشر، في حكم هزلي غير مفهوم وغير مبرر.

ولعل أخبار الأحكامِ هذه تُشكّل تشجيعاً على الجرائم الواقعيّة والملموسة أكثر من المقاطع الدمويّة التي تُتداول على نطاقٍ ضيّقٍ نسبيًّا.

ثقافة العنف خارج العالم الافتراضي

تقول الملاحظة الافتتاحية لأحد هذه المواقع: "نحن لا نشجع الإرهاب أو العنف.. جميع المحتويات الموجودة على هذا الموقع هي لأغراض تعليمية وأرشيفية، لجعل الناس على دراية بالعالم المضطرب الذي نعيش فيه".

وهكذا، من بين عشرات الجرائمِ اليوميّة، تتأكّد مدى تغلغلِ الفكرِ القبليِّ العنيف في نسيجِ المواطنِ العربي، مما يجعل من مقاطع الجور رغم غرابتها وخطورتها انعكاساً لبعض الواقع الذي تعيشه بعضُ الدول. 

في أحدِ أشهرِ مواقعِ الجور (التي لن نذكر اسمها)، تستقبلك الصفحةُ التعريفيّة بتحذيرٍ مكتوب، وترجمته الحرفية إلى العربية هي:

"ملاحظة: نحن لا نشجع الإرهاب أو العنف مطلقاً. جميع المحتويات الموجودة على هذا الموقع هي لأغراض تعليمية وأرشيفية، وأيضاً لجعل الناس على دراية بالعالم المضطرب الذي نعيش فيه".

رغم عدم الصدق الكامل في ادعاء المهنية في إنشاء موقع كهذا، لكنه يحمل جانباً من الصحة ، فمثلاً، كانت مواقعُ الجور هي الأرشيفَ العامّ شبه الأخير لمشاهدِ القتلى والمصابين في أحداثِ فضّ اعتصام رابعة عام 2013. لتصبح - ربما من دون قصد - منصّاتٍ توثيقيّة بعد أن حُذفت تلك المقاطع من مصادرَ كثيرة بسبب دمويّتها أو لأسباب سياسيّة، تماماً كما بقيت شاهداً حقيقيّاً صادماً على أفعال "داعش".

ومجموعاتُ "تلغرام" العشوائيّة تلك، كانت مصدراً رهيباً لأفعالِ الجماعات السوريّة التي وصلت إلى الحكم بعد هروبِ بشّار الأسد، وبالتأكيد لأفعال جنود بشار الأسد نفسه. 

مشاهدةُ المقاطعِ الدمويّة قد تكون اضطراباً نفسيّاً شديداً يحتاج إلى تشخيص نفسي إكلينيكي أو علاج، أو ربما ظاهرةً مضرّةً أخرى للانفتاح على الإنترنت.

لكنّها بالتأكيد انعكاس لمدى بشاعة العالم الحالي، وهي الطريقة التي استخدمها "داعش" لتجنيد الشباب، إنها شيء بشع آخر، يذكرنا بمدى هشاشة وهم الأمان الذي نعيش فيه في دوائرنا الضيقة، فسوريا التي كانت من أجمل الدول العربية، ومن أكثرها إنتاجاً للفن والمسلسلات مثلاً، أصبحت مصدراً أساسياً لإنتاج فيديوهات الجور، ممن لم يسمعوا بهذا المصطلح في حياتهم.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image