أنقّل نظري بين صورة أبي على الحائط، وبين شاشة هاتفي، أحاول جاهدة تذكر أحاديثنا القليلة جداً عن الله وعن الدين والصلاة والحجاب، ورغم ذلك أفشل. عبارة واحدة قالها لي وربما لم تفارقني يوماً: "الله في داخلك لا تبحثي في الخارج".
كنت صغيرة لأفهمها كما يجب وقتذاك، ولكني بالتأكيد عرفت من خلالها أن الله ليس بعيداً ولا يحتاج مني الكثير من الجهد لأجده، لأحدثه وأصلّي له، والأهم من هذا كلّه ليسمعني ويغفر لي، الله ليس مخيفاً وليس من مهامه ترصّد زلاتي وإحصاء أخطائي… الله في داخلي، بالضبط كما قال أبي.
أرجع لهاتفي، أعيد مرة أخرى فيديو تلك المرأة التي تعيش في بلاد بعيدة، ومرة أخرى يعود الشعور ذاته بالغرابة والحزن وربما بالغضب، أركز في زاوية التصوير الممتازة، في الخلفية -مكتبة تتوزع على رفوفها كتب كثيرة- وفي اللغة الفصيحة، ومخارج الحروف السليمة، ومع الموسيقى التصويرية الجذابة، يكتمل المشهد، لتتحدث الصبيّة بثقة العالم العارف الذي أمضى عمره في البحث والتمحيص والسؤال، عن طقوس غريبة يمارسها العلويون، وتجعل من وجودهم بالقرب من المسلمين مشكلة، أتساءل لمن توجّه كلامها، ومن هو الجمهور الذي تريد أن تخبره أن العلويين كفار، يسكرون ويعربدون ويتبادلون الزوجات، وهل فعلاً تعرف العلويين وتعرف طقوسهم؟
طقوسنا (الغريبة)
أتمنى من كلّ قلبي وبأفكار طفولية غبية أن أمتلك القدرة على زرع كاميرات في كل زاوية من زوايا القرى العلوية، هناك حيث عشت عمري دون رغبة بالمغادرة، بين أشجار الزيتون ورائحة الحبق والليمون وعرائش العنب.
هناك حيث تستقبلك الطبيعة لتنطبع في ذاكرتك الصورة الأولى للجمال وتدرك أول معاني الحياة في ملاعب الأطفال الترابية المسوّرة بالسرو والصنوبر، وفي مخابئ العشاق خلف شجيرات الياسمين والجوري.
أتمنى من كلّ قلبي وبأفكار طفولية غبية أن أمتلك القدرة على زرع كاميرات في كل زاوية من زوايا القرى العلوية، هناك حيث عشت عمري دون رغبة بالمغادرة، بين أشجار الزيتون ورائحة الحبق والليمون وعرائش العنب
لا أعتقد أنّ أحداً عاش في تلك القرى سيتمكن يوماً من إيجاد متعة في الحياة توازي افتراشنا السطح أيام الصيف الحارّة والنوم متلحفين السماء فقط، ومن استبدال أغاني عادل خضور وفؤاد غازي وصوت العود الذي يصدح من النوافذ، بأي موسيقى أخرى، ومن نزع مشهد تمايل الرجال مع النغم، ورفع الكؤوس انتشاء وتجلياً ومكافأة للنفس والجسد بعد يوم عمل طويل، ومن نسيان فرحة الأطفال يوم سليقة الحنطة في نهاية الحصاد، المغامرات مع العصافير أثناء التناوب على حراسة الحنطة والكشك والتين على الأسطح. في قرانا ربما قليلون من يكتبون الشعر ولكن الجميع يقولونه ويعيشونه.
طقوس العيد
أتذكر دار جدي، وزحمة فجر أول يوم من عيد الأضحى، أتذكر كيف كنا نبقى ساهرين طيلة الليل ومن يغلبه النوم يختار الأريكة القديمة الموضوعة في "الفرندة"، خوفاً من أن تفوته لحظة من لحظات اليوم الأول.
في ذلك الفجر تجتمع القرية بأكملها، ليس العائلة فقط، ومع شروق الشمس يكون الرجال قد أنجزوا نصف المهمة، لتأخذ النساء الدور فالذبيحة جاهزة لتقطّع وتنظّف وتسلق.
كنا ندرك جيداً أن صباح أول أيام العيد ليس للملابس الجديدة والأحذية النظيفة الملمعة والشعر المسرّح، بل صباح العمل، ولكن رغم ذلك يبقى هذا الصباح المفضل لدينا.
ففيه تعلو الأصوات، والتهليلات، والمباركات والأحاديث والضحكات التي لا تنتهي، وفيه يتصالح المتخاصمون، ويجتمع المتعادون، وتفتح الصفحات الجديدة، وفيه أرافق جدتي مثل خيالها، خوفاً على حصتي من "السودة".
جدتي القوية الرشيقة المنظمة التي قضت حياتها في العمل جنباً إلى جنب مع جدي، تتصرف وكأنها سيدة العالم، تشعل النار وتقش الزفرة وتعير الماء وتلقي التعليمات وتصدر الأوامر وتطبخ أطيب برغل عيد.
"قا قاااا" بهذه الكلمة ردّت إحداهن على تعليقي على منشور لا دخل له لا بالدين ولا بالسياسة، محاولة بذلك التقليل من شأني وإشعاري بالدونية، فكيف لابنة ريف أن يكون لها رأي ساخر بموضة خريف 2025؟
أتساءل هل من الممكن أن يكون لأحد رأي مماثل لو ذاق طعم برغل العيد من تحت يدي جدتي، وهل سيكون لأحد رأي مماثل لو جرب يوماً أن يقضي صبحية عيد مرة واحدة في إحدى قرى الساحل، ولو جرب وهو طفل صغير مرور فصول السنة على جسده الصغير وهو يشارك بتوزيع حصص الطعام على بيوت القرية واحداً واحداً، وهل سيصفنا بالكفر لو سمع صوت جدي المرتجف وهو يذكّر من فراشه بزيادة حصص اللحم على صحون الفقراء، ويستعجلنا ويشجعنا وهو يخشخش بنقود العيدية ثم يعيدها لتحت وسادته واعداً بتوزيعها بعد إنجاز مهامنا.
لسنا كفاراً ولا تبادل للزوجات
لم أفهم يوماً معنى كلمة كافر، ولم أستوعب هذا الزهو لدى بعض البشر حتى يصلوا حد اليقين وإصدار مثل هذا الحكم على شخص أو جماعة، ليكن الله ما يكون، فالله قبل كل شيء فكرة، والمهم كيف نترجم علاقتنا مع الله على أرض الواقع في حياتنا وتعاملنا مع محيطنا.
العالم اليوم مختلف جداً عن العالم في الأمس، والحاجة إلى المرونة في التفكير وتقبل الآخرين كما هم دون السعي لتغييرهم وفرض رؤية معينة للعالم عليهم، لم يعد ترفاً بل صار ضرورة، وأنا عن نفسي أدين لبيئتي التي عشت فيها بأن وصلت مبكرةً جداً لهذه القناعة.
لم أتعلم الدين الباطني مثلي مثل النساء العلويات جميعاً، ولكن في الوقت نفسه لم أمنع عن القرآن ولا عن شعائر الإسلام، وأيضاً لم أمنع عن الحجاب ولم أجبر عليه، ولم أمنع عن الصلاة ولم أجبر عليها.
وهذا وإن وجدته الكثيرات عيباً دينياً لدينا، أو نتاجاً لاعتبارات جندرية، أراه ميزة تربوية، منحتنا فرصة أن نكبر ونحن خارج أقفاص التربية الدينية الصارمة، فنحن نتعرف إلى العبادة كجزء من حياتنا اليومية وإنجاز مهامنا والمشاركة في العمل، وليس كواجبات ندفع إليها بالإكراه.
طفولتنا خالية من التعقيد في العلاقة مع الإله، والبدء بالأسئلة الدينية يأتي نتيجة طبيعية لتطورنا العمري، والبحث عن إجابات يبقى مهمتنا، وفي سبيلها لا باب يغلق في وجهنا بل على العكس تماماً وخلافاً لأغلب المجتمعات التي ترى في تعليم الإناث عيباً، تدفع النساء العلويات دفعاً للتعلم، وإن منعن يمنعهن الفقر فقط.
"الرجال بدبر حالو ما إلك إلّا شهادتك" جملة تسمعها حكماً في أي بيت علوي، فالإصرار على تعليم النساء وأخذهن الشهادات صار منذ زمن لا بأس به جزءاً من عاداتنا التي تطورت مع تطور المجتمع فأضيفت الشهادة إلى العمل، فمن خلالهما فقط تحمي المرأة نفسها من ظلم المجتمع والقوانين وحتى من ظلم العقائد الدينية.
علويون وفي رواية أخرى قرود الساحل
"قا قاااا" بهذه الكلمة ردّت إحداهن على تعليقي على منشور لا دخل له لا بالدين ولا بالسياسة، محاولة بذلك التقليل من شأني وإشعاري بالدونية، فكيف لابنة ريف أن يكون لها رأي ساخر بموضة خريف 2025؟
"بتآمنوا بتناسخ الأرواح أعوذ بالله ولسه عم تناقشي؟"، حاولت زميلتي في العمل إنهاء الحديث وتثبيت تهمة الكفر عليّ، وهذا حال كثيرين يستخدمون هذه النقطة لإثبات كفرنا... علمتني أمي أن الباب لا يغلق عندما تمر جنازة في القرية، لأن الموت ليس نهاية، والأبواب لا تغلق في وجه الموت مهما كان السبب، وهذا أحد آثار الإيمان بالتقمص على أسلوب حياتنا
هذه الدونية التي لن أشعر بها يوماً لأني أنتمي للجبال، هذا الانتماء الذي حملته معي إلى أحضان دمشق العاصمة السورية، وهناك اكتشفت أن التمدن ليس مباني ضخمة وشوارع كبيرة والحضارة ليست سيارات فارهة وملابس غالية و(ورد من سويسرا)، الحضارة والتمدن بنظري ليسا أكثر من القدرة على تذوق الفن والجمال والموسيقى، سيادة العقل، والجرأة على الحياة، احترام الجسد ورغباته وأخطائه، الحضارة أيدي الصبايا والشباب المتشابكة بالدبكة والمتشابكة في الحقل والمدرسة والجامعة والمعمل، الصورة الأوضح لانتصار البيئة على العقيدة الدينية.
لا نغلق أبوابنا في وجه الموت
"بتأمنوا بتناسخ الأرواح أعوذ بالله ولسه عم تناقشي؟"، حاولت زميلتي في العمل إنهاء الحديث وتثبيت تهمة الكفر عليّ، وهذا حال كثيرين يستخدمون هذه النقطة لإثبات كفرنا.
لكن ماذا لو انتقلتم من الحكم على أساس العبارة النظرية وجمودها إلى الحكم على أساس الأثر. علمتني أمي أن الباب لا يغلق عندما تمر جنازة في القرية، لأن الموت ليس نهاية، والأبواب لا تغلق في وجه الموت مهما كان السبب، وهذا أحد آثار الإيمان بالتقمص على أسلوب حياتنا.
نحن لا نعتقد بالموت على أنه فناء تام، بل مجرد انتقال للروح من جسد إلى آخر في دورة مستمرة من الوجود. هذه الفكرة التي تشكل إطاراً أخلاقياً واجتماعياً غير معلن؛ فالفرد يدرك أن أفعاله في هذه الحياة ستحدد مصيره ومستوى الوجود الذي سيولد فيه في حياته التالية.
وبالتالي، فإن الموت لا يبعث على الهلع بقدر ما هو محطة في رحلة أطول، مما يقلل من قدسية الجسد الفاني ويعزز التركيز على قيمة الروح والعمل الصالح الذي يرافقها في رحلتها الأبدية. هذا الإيمان يفسر أيضاً سبب رؤية الموت كبوابة مفتوحة وليس نهاية مسدودة.
هل يدرك الإعلاميون والمؤثرون اليوم، ما ينتج من استخدامهم العلويين والحديث عنهم وعن كفرهم كوسيلة لزيادة مشاهداتهم؟ هل يعلمون أنهم يساهمون بقتلنا وهم يعرضون معلومات سطحية جمعوها من هنا وهناك، على جموع الناس المختلفين بقدرتهم على الفهم والتلقي.
لم يعد العنف اليوم في سوريا ضد العلويين أداة للقتل الجسدي فقط، بل صار أيضاً أداة للقتل المعنوي. عادت الجراح القديمة لتفتح، وعاد الشعور الجماعي بأن أرواحنا رهينة حكم الآخر علينا، نحن الآن خارج الثورة وخارج السياسة وخارج أين كنا من 14 سنة فمن يرانا كفاراً قد يقدم على قتلنا بكل بساطة، دون تردد، فالفعل هنا جرّد من وحشيته وصار طريقةً للتقرب من الإله الذي يكره (الكفار) والخمر والأجساد والنساء والموسيقى وتماثيل كلية الفنون الجميلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



