شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أزمة الصرف الصحي... كيف تعكس غياب العدالة البيئية والاجتماعية في تونس؟

أزمة الصرف الصحي... كيف تعكس غياب العدالة البيئية والاجتماعية في تونس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

نحن والبيئة نحن والبيئة

الاثنين 17 فبراير 202505:03 م

يعبّر الناشط في المجتمع المدني التونسي، نور الدين بوشقرة، عن استيائه من غياب الحق في الحصول على خدمات الصرف الصحي في مسقط رأسه، مدينة الرديف غربي ولاية قفصة (جنوبي البلاد)، مؤكداً "استحالة العيش في محيط يغرق في مياه آسنة أدّت إلى تفشّي أمراض السرطان والربو وظهور الخنازير البرية والعقارب والحشرات السامّة، بل حتّى الأبقار والأغنام والماعز فيها أصبحت تحتاج إلى عمليات قيصرية في الولادة".

يقول نور الدين، لرصيف22، إنّه يقف عاجزاً يومياً عن الإجابة عن أسئلة ابنته الصغيرة، حول سبب منعها من اللعب في حديقة المنزل في ظلّ مخاوفه من مرض اللاشمانيا الناتج عن لدغات الذباب، والمخاوف من لدغات العقارب والأفاعي. يلفت الناشط التونسي، إلى أنّ الروائح الكريهة التي تنبعث من مياه الصرف الصحي معضلة أخرى لا يجد جواباً عن سؤال "متى تختفي؟".

"لقد علّمونا أنّ الماء ليس له لون ولا طعم ولا رائحة، بينما في الرديف الماء له لون ورائحة وطعم، والماء الصالح للشرب تأثّر بالمياه المستعملة الملوّثة التي تمرّ بقنوات الصوناد"... غياب خدمات الصرف الصحي في تونس كمرادف لغياب العدالة الاجتماعية والبيئية

كما يوضّح أنّ ما تكرّره ابنته الصغيرة، ناتج عن طول فترة المعاناة من تفاقم الوضع البيئي بسبب انتشار البعوض والكوبرا السوداء والخنازير البرية وحتّى الضباع، جرّاء حرمان أهالي منطقة الرديف من الحق في خدمات الصرف الصحي، برغم أنّ الدستور التونسي ضمّنه في الفصل 47 الذي ينصّ على أن "تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ".

أزمة الصرف الصحي في تونس

ويردف: "ما زاد الطين بلّةً، انتشار الحشرات بمختلف أنواعها، وعلى رأسها المتسببة في اللشمانيا التي كادت أن تشوّه أنف ابنتي، وكذلك البعوض والذباب. وتزداد معاناة المتساكنين مع حدّة انبعاث الروائح الكريهة من كل البرك والمستنقعات، والتي تزداد ليلاً لدى حرق مصبّات الفضلات العشوائية بطريقة غير آمنة".

معاناة أهالي الرديف

تتصدّر "الرديف"، قائمة المناطق الداخلية المتضرّرة من غياب التعامل السليم مع مياه الصرف الصحي، حتّى أنّ المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصفها في بيان له عام 2024، بـ"المدينة الغارقة في المياه الآسنة".

ورد في البيان أيضاً، أنّها "تعاني منذ سنوات عديدة من مشكلة بيئية خطيرة تمثّلت في ضعف الربط بشبكة التطهير التي لا تتجاوز الـ35%، بالإضافة إلى تضرّر أحياء السبرولس والجدايدة والأحياء المجاورة للملعب البلدي وحي أولاد بوعون والفجايرية، من مياه الصرف الصحي التي يلقي بها الديوان الوطني للتطهير في وادي السحيمية، ما يتسبّب في انتشار الروائح الكريهة وظهور الحشرات بشتّى أنواعها متسبّبةً في انتشار مرض اللشمانيا وأمراض الربو، حتّى استحالت المنطقة بأكملها إلى منطقة منكوبة بيئياً تنعدم فيها مقوّمات العيش الكريم".

كما أشار البيان، إلى أنه برغم نداءات الاستغاثة من سكان المنطقة، وتعدّد زيارات المسؤولين، بما في ذلك زيارة وزير البيئة إلى ولاية قفصة، ظلّ الوضع على حاله، واستمرّت معاناة الأهالي.

وجعلت معاناة السكان من تردّي الوضع البيئي، بسبب غياب الربط الكافي بشبكات التطهير وتفاقم الانعكاسات السلبية لمياه الصرف الصحي، الكثيرين يفكرون في هجر المنطقة، على الرغم من أنّها غنيّة بالفوسفات كثروة طبيعية، ومن ارتباط الأهالي بالأرض والعادات والتقاليد المحلية.

ويعقّب الناشط المجتمعي نور الدين، على ذلك بقوله: "الربط بشبكات التطهير لا يتجاوز الـ20% في كامل المنطقة، وحتّى الأحياء المنضوية تحت الشبكة فإن مياه الصرف الصحي فيها تحوّلت إلى مشكلة لأنّها تمرّ عبر الأودية ثم الأحياء، وتتسبّب في تشكيل برك ومستنقعات تتجمّع فيها الفضلات المستعملة، كما تمرّ عبر قنوات مياه الشرب وتختلط بمياه المائدة المائية، ما يُحدث ضرراً على مستوى جودة مياه الشرب وسلامتها".

ويضيف: "لقد علّمونا أنّ الماء ليس له لون ولا طعم ولا رائحة، بينما في الرديف الماء له لون ورائحة وطعم، والماء الصالح للشرب تأثّر بالمياه المستعملة الملوّثة التي تمرّ بقنوات الصوناد (الشّركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه)، وتكتسح المائدة المائية".

ويشدّد نور الدين، على أنّ الانعكاسات السلبية الناجمة عن مياه الصرف الصحي عديدة وخطيرة، ومنها الأمراض المعدية، مثل الربو والأمراض الجلدية والتهاب الكبد الفيروسي في صفوف الأطفال، ولعلّ أخطرها مرض السرطان الذي تعدّدت الإصابات به في السنوات الأخيرة، خاصةً لدى الشباب والصغار.

تبعات متعدّدة على الحيوانات

ولئن تسبّبت المياه الآسنة في الإضرار بصحة الناس وبالمحيط البيئي بصفة عامة، فإنها أضرّت بالمراعي على نحو خاص، وارتبطت بظاهرة جديدة تتمثّل في عدم قدرة الأبقار والأغنام والماعز على الولادة الطبيعية، واضطرار أصحابها إلى استدعاء البيطري لإجراء ولادة قيصرية لها في كثير من الأحيان، وهو ما يلفت إليه نور الدين، شارحاً: "الدراسات التي قام بها أهل الاختصاص كشفت أنّ سبب الولادة القيصرية للأغنام والماعز والأبقار التي تزايدت مؤخراً، متّصل بتلوّث المائدة المائية وتلوّث الحشيش بمياه الصرف الصحي"، داعياً السلطات المحلية والجهوية وصولاً إلى رئيس البلاد، إلى التفاعل مع هذا الملف وإنشاء محطة تطهير تُنهي معاناة المواطنين.

أم العرائس… معاناة مشتركة

وبينما تشتركان في النطاق الجغرافي، تتشارك "الرديف" و"أم العرائس" المعاناة من معضلة الصرف الصحي أيضاً، حيث تتشابه هواجس السكان في المدينتين وتتوحّد مطالبهم. في هذا السياق، تقول الناشطة في المجتمع المدني كاميليا صولي، إنّ نسبة الربط بشبكات التطهير في المنطقة -أم العرائس- لا تتجاوز 14%، وإنّ مياه الصرف الصحي ألحقت أضراراً جسيمةً بالبيئة، وأضرّت بصحّة السكان.

تُعدّ محافظة مدنين، المنطقة الأقلّ ربطاً بشبكات التطهير، حيث تسجل 31.4%، بينما تصل نسبة الربط في تونس العاصمة إلى 98.8%، وسوسة 88%، وهنا يبرز المعيار الاجتماعي. فكلما كانت المنطقة نائيةً وواقعةً في الأعماق، قلّ ربطها بشبكة التطهير، ما يشير إلى غياب كامل للعدالة البيئية

تضيف كاميليا، أنّ المياه تصبّ في منطقة تُدعى "زليقة"، حيث تختلط مياه الصرف الصحي بمياه غسل الفوسفات، وتتسبّب في برك صغيرة راكدة تتسبّب بدورها في الإصابة بالعديد من الأمراض، بالإضافة إلى ظهور أنواع عديدة من الحشرات. ويُعدّ سكان حيّ أولاد عيساوي وجزء من أولاد بويحي، الأكثر تضرراً من مياه الصرف الصحي وانبعاث الروائح الكريهة وتكاثر الحشرات، وفق كاميليا، التي تشدّد على أنّ نسبةً كبيرةً من الأشجار تضررت أيضاً، وظهرت العديد من الزواحف الخطيرة والحيوانات البرّية، وأصيب أطفال المدارس والمعاهد بأمراض عديدة.

وعن دور المجتمع المدني وتفاعله مع هذه الإشكاليات البيئية ومساهمته في تسليط الضوء على هذه المشكلة وحثّ السلطات على ضرورة التحرّك لوضع حدّ لها، تقول كاميليا، إنّ المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية له دور كبير عبر تنظيم العديد من اللقاءات والتحدّث إلى الإعلام ومراسلة وزارة البيئة والصحة والوالي والمعتمد، ومراسلة كلّ مسؤول له دور فعّال في إيجاد حلول لهذه المعضلة. وتضيف: "نظّمنا منذ عام 2018، احتجاجات عديدةً، لكن الجهات المسؤولة لم تستجِب لمطالبنا ولم تتفاعل معنا. يقال إنّه تم اتخاذ قرار بإنشاء محطة تطهير تشمل أم العرائس والرديف، بهدف الرفع من نسبة الربط بقنوات تصريف المياه المستعملة في المدينتَين من 30 إلى 100%، غير أنّ التنفيذ لم يبدأ على أرض الواقع".

غياب الصرف الصحي أزمة عامّة؟

أزمة الصرف الصحي في تونس

لا تقف معضلة الصرف الصحي عند منطقة الرديف وأم العرائس في محافظة قفصة، بل تتكرّر في جميع محافظات التراب التونسي تقريباً، إذ يشير التقرير السنوي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعام 2024، إلى أنّ التحركات المطالبة بالحق في بيئة سليمة ازدادت خلال النصف الثاني من العام الماضي، حيث تم تسجيل 114 تحرّكاً، وكانت أبرز التحركات من أجل الحق في بيئة سليمة والحدّ من التلوّث في المناطق الحضرية والمحيط البحري بمياه الصرف الصحي، حيث تم رصد 28 تحركاً في مناطق بني خيار، والميدة، وبوعرقوب، ومنزل تميم في محافظة نابل. كما اشتكى السكان في مناطق مثل رقادة، ومرق الليل، والقيروان الجنوبية، من غياب الربط بشبكة الصرف الصحي، وتم تسجيل 35 تحرّكاً للحدّ من التلوّث الناتج عن تراكم النفايات الصلبة وانتشار النقاط السوداء والمصبّات العشوائية، خصوصاً في ولايات أريانة وصفاقس وقفصة.

ووفق المنسّقة الجهوية لمشروع العدالة البيئية في مكتب المنتدى في القيروان، منيارة مجبري، فإنّ هناك غياباً واضحاً للربط بشبكة التطهير، حيث لا تتجاوز النسبة 59.7% عموماً، وتُعدّ محافظة مدنين، المنطقة الأقل ربطاً بشبكات التطهير، حيث تسجّل 31.4%، بينما تصل نسبة الربط في تونس العاصمة إلى 98.8%، وسوسة 88%، وهنا يبرز المعيار الاجتماعي، فكلما كانت المنطقة نائيةً وواقعةً في الأعماق، قلّ ربطها بشبكة التطهير، ما يشير إلى غياب كامل للعدالة البيئية في خدمات الصرف الصحي في تونس.

وكحلول وقتية للتخفيف من حدّة الانعكاسات السلبية لمياه الصرف الصحي، قام الأهالي ببناء آبار لتجميع المياه المستعملة، ويتم إفراغها بواسطة الجرار بمقابل مادي قدره 70 ديناراً (أكثر من 20 دولاراً أمريكياً). لكن تبقى الأزمة قائمةً، إذ إنّ الجرار عادةً ما تُلقى في الأراضي الزراعية مخلّفةً ضرراً مباشراً على الأرض والإنسان، وهو ما أدّى إلى توخّي الأسلوب الاحتجاجي لحثّ الجهات المسؤولة على ضرورة التدخّل في إنشاء شبكات تطهير.

لكن الديوان الوطني للتطهير كمسؤول أوّل، يقول إنه جاهز لتركيز قنوات الربط شرط أن تتم عملية تمويل العملية من قبل المجلس الجهوي، وهنا تغيب العدالة الاجتماعية والبيئية، والمواطن وحده يدفع الضريبة.

وتضرب منيارة، مثالاً حيّاً على ما سبق، الحي القصديري الذي يفتقر إلى الربط بشبكة التطهير، ولم تحدث أي استجابة لمطالب الأهالي، بينما تم ربط أحد المصانع القريبة بالشبكة برغم قرب المكان، مبرّرةً ذلك بأنّ "تفكير الدولة رأسمالي إذ تمنح الأولوية لمن يدفع المال".

كما توضح لرصيف22، أنّ غياب الربط بشبكات التطهير لا يتسبّب في الأضرار الصحية والبيئية فحسب، بل يهدّد السلم الاجتماعي أيضاً، وذلك بسبب ارتفاع وتيرة المشاحنات بين السكان، خاصةً عندما تمتلئ الآبار بالمياه الآسنة.

وتعرّج منيارة على الكثير من الإشكاليات الأخرى، على غرار التأثير على السياحة ومياه السباحة في شواطئ رادس والزهراء وحمام الأنف، والتي لم تعد صالحةً للسباحة. كما تم تسجيل تحركات للصيادين في خليج قابس، ضد الديوان الوطني للتطهير الذي أضرّ بعمل صغار الصيادين، وأضرّ بالدورة الاقتصادية باعتبار أنّ العديد من المِهن مرتبطة بالشواطئ، ولا سيّما بعد أن أعلنت وزارة الصحة منع ارتياد 22 شاطئاً عام 2022.

أزمة الصرف الصحي في تونس

وبرغم خطورة عدم الربط بشبكات الصرف الصحي، إلا أنّ الدولة تتأخّر كثيراً في التدخّل الفاعل، حتّى أنه تم إعداد دراسات لربط بعض المناطق، مضت عليها 10 سنوات ولم ترَ النور، وفقاً لمنيارة.

تداعيات خطيرة وخسارة فرص هائلة

أزمة الصرف الصحي في تونس

يخلّف الصرف الصحي تداعيات خطيرةً على الإنسان والحيوان والأرض، كما أوضحنا أعلاه، وهو يحتاج إلى وضعه على الطاولة كملف عاجل بالنسبة للحكومة التونسية، لا من حيث إيجاد حلول للمعالجة فحسب، بل أيضاً لما ينطوي عليه هذا الملف من خسارة فرصة كبيرة لحلّ أزمة المياه في تونس.

في هذا الصدد، يقول الخبير البيئي نور الدين بن عيسى، لرصيف22: "مياه الصرف الصحي هي مياه طبيعية في بداية الأمر ضمن حلقة المياه، إلا أنّ استعمالها في شتى الميادين الاقتصادية والاجتماعية -بما في ذلك الاستعمال المنزلي والصناعي- يغيّر من تركيبتها الكيميائية والبيولوجية وتصبح حاملةً لملوّثات عديدة، وقد تؤثّر هذه المياه الآسنة على صحة الإنسان وعلى الفلاحة ومنتجاتها إذا أعيد استعمالها دون معالجة لإزالة الملوثات والأدران التي أصابتها خلال حلقة استغلالها من طرف الإنسان".

أما على المستوى الصحي، فيلفت بن عيسى، إلى أنّ "هذه المياه دون معالجة كافية لا تكون قابلةً للاستغلال أبداً، وكل اللوائح العالمية تمنع ذلك لأنها مستودع جراثيم ومواد كيميائية سامّة تضرّ بصحة البشر، سواء كان ذلك عبر الشرب أو اللمس وحتّى الشمّ أحياناً".

وعلى مستوى تأثيرها على الزراعة، يقول بن عيسى، إنّ استعمال هذه المياه من دون معالجة أيضاً ممنوع، لكن في حالة معالجتها معالجةً ثلاثيةً في محطات التطهير يمكن استغلالها لأغراض فلاحية معيّنة بعد التحقّق من احترامها للمواصفات واعتمادها في أصناف معيّنة من الغراسات، ولكن يُمنع منعاً باتاً استخدامها في ريّ الخضر والمنتجات الطازجة.

وبخصوص أزمة الصرف الصحي في تونس، يوضح بن عيسى، أنها "مشكلة قديمة، ظهرت منذ الحقبة الاستعمارية بعد أن توسّعت المدن، خاصةً تونس العاصمة، وأصبح الحلّ في جمع هذه المياه على شبكات خاصة ومعالجتها في محطة تطهير في الشرقية منذ خمسينيات القرن الماضي، قبل أن يشهد هذا المجال تطوراً سريعاً منذ 1974، بعد إنشاء ديوان التطهير. واليوم هناك بنية تحتية متطوّرة (18،000 كلم من الشبكات مختلفة الحجم و125 محطة تطهير تعالج نحو 300 مليون متر مكعب في السنة)".

جعلت معاناة السكان من تردّي الوضع البيئي بسبب غياب الربط الكافي بشبكات التطهير وتفاقم الانعكاسات السلبية لمياه الصرف الصحي، الكثيرين يفكرون في هجر المنطقة على الرغم من أنها غنيّة بالفوسفات ومن ارتباط الأهالي بالأرض والعادات والتقاليد المحلية

ويستدرك بأنّ "هذا الوضع يجعل تونس في مستوى مقبول من حيث تغطية المدن بخدمات التطهير مقارنةً بالعديد من البلدان الأخرى، لكنه لا يجب أن يحجب عنّا وضعاً يُحتّم التدخّل والإسراع بمعالجته بعد 50 عاماً من استغلال المنشآت ومعاينة مدى قدرتها على مواكبة تطوّر البلاد من ناحية، وعلى مساهمتها في تقليص العجز المائي والتأقلم مع التغيّرات المناخيّة".

ويلخّص بن عيسى، الوضع الحالي في "تزايد مشكلات شبكات التطهير وعدم قدرتها على استيعاب مياه آسنة مع محدودية محطات التطهير في مستوى المعالجة البيولوجية (المعالجة الثانية)، فضلاً عن تطوّر عدد البلديات إلى 350 بلديةً تستوجب استثمارات كبيرةً لتغطية حاجياتها من التطهير والنقص الفادح في الموارد البشرية المختصّة والكوادر لاستغلال هذه المنشآت كلها".

الصرف الصحي من محنة إلى منحة

ومع تطوّر تقنيات وطرائق معالجة مياه الصرف الصحي، لاستعمالها في مجالات عديدة، يفرض السؤال نفسه: كيف يمكن لتونس أن تحوّل معضلة مياه الصرف الصحي لديها من أزمة إلى منحة؟ يجيب الخبير بن عيسى، عن ذلك، قائلاً: "يتّضح جليّاً أنّ الحلول التي يمكن اتخاذها لحلّ مشكلات المياه المستعملة قد تتطلّب تجديد الشبكات القديمة، وتوسيع البعض منها، وتطهير المجمّعات السكنية التي تفرز مياهاً مستعملةً في الطبيعة، وتعصير وتطوير محطات المعالجة، وإدراج المعالجة الثلاثية لضمان جودة مياه معالجة وفق المواصفات المعمول بها مع ضمان المراقبة المستمرة، وتغطية البلديات ذات الأولوية بشبكات ومحطات تطهير وهي بلديات جلّها ريفية (ما يجعلها ترتبط بمخاطر تلوّث المائدة المائية في غياب التطهير)، ودعم ديوان التطهير بالقدرات والكوادر اللازمة لحسن استغلال المنشآت، وضمان نوعية مياه معالجة تحترم المواصفات".

"تفكير الدولة رأسمالي إذ تمنح الأولوية لمن يدفع المال".

كما ينبّه بن عيسى، إلى أنّ تحقيق ذلك يتطلّب استثمارات كبرى حيث تبيّن بعض الدراسات الأممية أنّ الاستثمار في التطهير مربح ولا يؤدي إلى الندم أو الخسارة باعتبار أنّ كلّ دولار يُستثمر في هذا القطاع يمكن أن يُسترجَع 5.5 دولارات من خلال المحافظة على الصحة وتطور الاقتصاد. كما أنّ التطهير هو الوجه الآخر للصحة باعتباره يكمل حلقة المحافظة على صحة البشر من الأمراض والأوبئة، كما يحافظ على سلامة المنظومات البيئية والتنوع البيولوجي في المناطق الرطبة، على حد قوله.

وعن محاولات معالجة مياه الصرف الصحي في ظل الشحّ المائي الذي تعيشه تونس، وما إذا كانت كافيةً، يقول الخبير التونسي: "تونس مصنّفة ضمن 30 دولةً في العالم تعاني من الشحّ المائي بالنظر إلى أنّ حصة المواطن التونسي نحو 380 متراً مكعباً في السنة، بينما المعدل العالمي هو 500 متر مكعب في السنة لكل إنسان، وعليه نحن للأسف تحت خط الشحّ المائي. أما من حيث محاولات مجابهته في تونس، فهي قديمة وعديدة باعتبار أنّ البلاد بالإضافة إلى كونها موجودةً في مجال جغرافي جافّ أو شبه جاف، فإنّ تطورها يتطلب المزيد من الاستفادة من مختلف أنواع المياه المتوافرة لحفظ الصحة والتنمية الاقتصادية وضمان التنمية المستدامة، وفق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة".

ويختم بن عيسى، بالتأكيد على أنه في ظل الشحّ المائي الذي تشهده البلاد، وأمام وطأة تغيّر المناخ وتاثيراته، "كل هذه المحاولات تُذكر فتُشكر"، لكن وجب المرور إلى مستوى سرعة أعلى لمجابهة سرعة تداعيات الجفاف، مقترحاً دعم محطات التطهير بالمعالجة الثلاثية لضمان نوعية مياه مطهرة يمكن استغلالها في الاقتصاد الدائري، خاصةً المجال الفلاحي والصناعي واستعمال المياه المعالجة في إنتاج الأعلاف لتلافي توريدها والسيطرة على سعر اللحوم واستغلالها في تطوير الغابات وإعادة غراسة المساحات التي تضررت بالحرائق وتقليص كلفة المعالجة بمحطات التطهير باستغلال الطاقات البديلة والنظيفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image