بات لأمي بيت جديد يحتضنها... الموت كاحتفال بالحب

بات لأمي بيت جديد يحتضنها... الموت كاحتفال بالحب

مدونة نحن والنساء

الجمعة 21 نوفمبر 20256 دقائق للقراءة

عند حدود أطراف بلدتنا القديمة، حيث يقطن الناس بيوتاً جديدة تأويهم فُرادى، بات لأمّي على تخومها بيت صغير، صار عمره 30 يوماً، أقصدها مرّات في اليوم، أجلس عند بابها الساكن ساعات طويلة، وأضمّ لحدها إلى قلبي، وأغفو.

هناك، حيث تفوح رائحة الحبق الذي زرعناه بجانب الزرع الأخضر، يزور أمّي أناس ومارّة، يطرقون بابها ويلقون عليها التحيّة، قبل أن يتلوا سورة الفاتحة. مثلهم أفعل أنا، أدقّ أبواب الذين يسكنون بيوتهم الجديدة الأزليّة، مع كثيرين من سكّان مدن القبور.

شيئاً فشيئاً، وددت بيت أمي المتواضع وخاويته، تآلفت مع كامل المكان ومساحته لأجلها، أنا التي كنت أخاف المقابر، أفرّ منها وأهجرها، أنكرت ضرورة التطبيع مع زيارتها وفكرة أنّ الموت يأتي وميض لحظات، خلسة بلا مواعيد، لكنّها اليوم مقصدي وملجأي وأقرب الأماكن وأكثرها راحة إلى قلبي، إذ حيث تسكن أمّهاتنا تكون الوجهة إليهنّ سبيلاً. 

كرمى لعيون أمّي

هكذا، وبعد سنوات من الخوف والهجران، تقبّلت المكان بكلّ ما فيه، كرمى لعيون أمّي، وبدأت أعيش مشاعر الخسارة المُرّة، وتذوّقت معنى أن ترحل أمّي، وأن لا أقسى من رحيل الأمّهات.

هناك عند حدود القرية أجلس ساعات طويلة، أوشوش أمّي فأُخبرها عن شوقي الكبير وعن بيتنا الخاوي من دونها، وعن مدى حبّي لها على عكس ما كانت تعتقد، بأنّني أحبّ أبي أكثر، على الرغم من أنّها لطالما أظهرت حبّها الكبير لي. 

تمرّ الأيام ويكبر وجع الفقد. أشتاقك أكثر وأكثر، أخالك تتنقلين في المنزل، تطهين وتأكلين بيد واحدة، تضعين كريمات الترطيب وبرفاناتك المفضلة، ونحن، أنا وأنت، جالستان نحتسي القهوة الأطيب، في موعدنا الثابت بعد كلّ ظهر

وأعتذر مرّات عن عدم تلبيتي لأمور أرادتها، أشياء كانت تثير امتعاضي، كأن أذهب إلى الدكّان أكثر من مرّة في اليوم! 

في منزلنا الذي تركته أمّي ورحلت عنه، تزورنا عند ساعات الفجر الأوّلى فراشة عاجيّة، تدور حولنا وتتنقّل بيننا، صار عندي إيمان بأنّها رسولة أمّي إلينا، ترسلها كي لا نضلّ الطريق إليها، لذلك بتّ أنتظرها يومياً، أتفقدّها وأبحث عنها في زوايا المنزل وخارجه.

هنا حيث تسكن تفاصيل أمّي وذكرياتنا معها، لا تزال صورتها حاضرة مثل روحها أمامنا، لم تغادر الكنبة التي كانت تجلس عليها ولا كرسيّها المتحرّك. صوتها يملأ أذنيّ ورائحتها تعبق في المكان. أتذكر كلّ تفصيل يخصّها، أحاديثها وقصصاً كانت ترويها لي، ومواقف مرّت فأبتسم، ثمّ تأخذني الغصّة والحنين فأبكي؛ الآن صار منزلنا فارغاً ولا حياة فيه.

الأشياء أضحت أقلّ لطفاً

تمرّ الأيام ويكبر وجع الفقد. أشتاقك أكثر وأكثر، أخالك تتنقلين في المنزل، تطهين وتأكلين بيد واحدة، تضعين كريمات الترطيب وبرفاناتك المفضلة، ونحن، أنا وأنت، جالستان نحتسي القهوة الأطيب، في موعدنا الثابت بعد كلّ ظهر. 

أتذكر صباحاتك الباكرة، وأنت تستقبلينني بكلمة "أهلاً وسهلاً، يا صباح الخير، يلّا نشرب قهوة" واتّصالاتك الكثيرة المتكرّرة، وكثيراً من الأشياء والذكريات والحنين.

أجلس يومياً، في المكان نفسه، أخبرك يا أمّي أنّ مذاق القهوة بات مختلفاً، وحتّى الأشياء أضحت أقلّ لطفاً وجمالاً وحياةً. أمّا الأماكن كلّها فغدت شديدة البرودة، تقول شقيقتي: "إنّ منزلنا صار كالغول، يأكلنا كلّ يوم قليلاً قليلاً".

اكتشفت بعد رحيل أمّي، أنّنا نخسر دائماً كلّ ما نحبّ، وبأنّ الأمهات يمنحن الحياة للأماكن كما الأشياء، وكذلك الأبناء، وبأنّنا مهما كبرنا سنركض دوماً إلى حضن أمّهاتنا أينما حللن، حتّى ولو في بيوت جديدة من شواهد ورخام.

في اتصالنا الأخير أخبرتني بأنها صنعت مؤونة الزيتون والمكدوس، وكذلك رُبّ الرمان الذي تُحبّ، وبأنّها تنتظر قدومي في اليوم التالي؛ لكنّها غادرت قبل أوان لقائنا، إذ بعد اتّصالنا بقليل، خانها قلبها وفي دقائق معدودات رحلت. هكذا ودّعتني أمّي من دون أن أعلم

يحاول بعضهم التخفيف عنّا، فيقولون إنّ أمّي في مكان حلو يشبه عينيها العسليّتين، وبأنّها تعيش حياة أجمل من التي اختبرتها على كوكبنا التعيس هذا، وبأنّنا سنلتقي يوماً ما في حياة أخرى. هكذا، يسعون إلى مواساة قلوبنا، لكن وبكلّ بساطة، لا أحد يتقبّل فكرة موت الأمّهات. 

يقولون إنّ الأمّهات، بساتين تزهر فيها الورود، لذلك عند رحيلهنّ، يُقبّل الناس رؤوسنا، ويواسوننا كي لا نذبل. يقول أبي: "إنّ فقد الأشخاص مؤلم وصعب، فما بالكم بخسارة الأمّهات؟ إذ من بعدهن تهون كلّ الخسارات".

وداع هادئ

كان أكتوبر أحبّ الشهور إلى قلبي، واليوم صار أثقلها. ففي ذلك اليوم، الخميس 16 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، أنهينا اتّصالنا المعتاد، أرادت أن تودّعني بالصوت والصورة، فرنّت "فيديو كول"؛ كانت جميلة كعادتها، تبادلنا الأحاديث والحكايات، استعلمت عن يوميّاتي في بيروت التي انتقلت إليها قبل أيّام قليلة من مغادرة أمّي حياتنا، إذ شاء القدر أن أمكث لديها ستّة أشهر متتالية قبل الرحيل.

يومها، أخبرتني بأنها صنعت مؤونة الزيتون والمكدوس، وكذلك رُبّ الرمان الذي تُحبّ، وبأنّها تنتظر قدومي في اليوم التالي (الجمعة)؛ لكنّها غادرت قبل أوان لقائنا، إذ بعد اتّصالنا بقليل، خانها قلبها وفي دقائق معدودات رحلت. هكذا ودّعتني أمّي من دون أن أعلم أو أن أشعر بذلك، تحجّجت بأحاديث عاديّة. يقولون: إن المغادرين يشعرون بدنوّ الأجل، فيودّعون أحبّتهم. هكذا فعلت أمّي وودعتني بكلّ هدوء.

تمرّ تفاصيل ذلك اليوم أمام عينيّ، فتبدأ منذ لحظة اتّصالنا وما تبادلناه من أحاديث. أشاهد وقع الخبر عليّ، بعد أن أخبرني أحدهم، وبشكل صادم ومن دون مقدّمات أنّ أمّي "ماتت"، وكأنّه أمر عاديّ أن تموت الأمّهات!؟ لم أختبر شعوراً مماثلاً من قبل. أتمنّى لو تحدث معجزة تخصّ الأمّهات، فلا يختبر أحدنا مثل هذا الإحساس من الفقد.

طوال الأيّام الماضيّة، وددت لو ينتهي هذا الكابوس، أستيقظ فتعود أمّي، لكنّني أيقنت اليوم أنّها رحلت، والأشياء التي ترحل لا تعود، لكنّ طيفك وروحك يا غاليتي سيرافقانني إلى أبد الآبدين.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image