بين الموت في غرفتي والموت في بنايةٍ لا أعرفها... اخترت الجنوب

بين الموت في غرفتي والموت في بنايةٍ لا أعرفها... اخترت الجنوب

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 25 نوفمبر 20258 دقائق للقراءة

أن يأتي الشتاء وأنا في منزلي في الجنوب، كانت نعمةً صلّيتُ لأجلها في السنتين الماضيتين.

إنه أوّل المطر؛ ذلك اللمعان الذي يكسو الجبال مع كلّ برق، وحساء العدس الذي يغلي على نارٍ هادئة، وقطّتي التي وُلدت في الربيع وهي تصغي بدهشة إلى صوت الرعد للمرّة الأولى، بينما أحاول أنا تمييزه عن صوت الغارة.

أجلس إلى الطاولة أنتظر حسائي ليبرد قليلاً، تراقبني قطّتي، وتنفتح ذاكرتي على شتاءاتٍ وأماكن مررت بها.

بيروت 2022… آخر شتاء "عادي"

قرّرتُ أن يكون ذلك آخر شتاء أقضيه في بيروت. كان الشتاء الأخير "العادي" قبل أن يبدأ كل شيء بالتحوّل.

كنتُ قد اتخذت قراراً بتركها في العام المقبل، بعد انتهاء الدراسة، والعودة إلى الجنوب بحثاً عن الاستقرار والشفاء من كل ما أورثتني إيّاه بيروت من تعبٍ وقلقٍ وفوضى.

حين أنظر إلى حياتي من الخارج، دون أن أغوص في تفاصيلها، أبدو لي فتاةً مستقلّةً تعيش مع أربع صديقات، تركض خلف أحلامها، تنتظر "فان رقم 4"، وتصل إلى وجهاتها منهكةً.

بيروت هي الوجه الآخر لكل شيءٍ له وجهان: الحبُّ المشروط، وسيف الوقت الذي يسبقك دائماً بخطوتين.

لأنك، في أعماقك، ما زلت ذاك الطفل الذي يراقب البلابل في القرية وهي تبني أعشاشها، بينما المدينة تُصرّ على أن تُبقيك غريباً مهما حاولت الانتماء.

أن ينزل أوّل المطر وأنا وحدي أحاول طهو الحساء لأدفئ نفسي، وصوت المطر على ألواح الحديد يوقظ قلقي، والشوارع تغرق بمياه الصرف الصحي… كان ذلك مزيجاً من كابوسٍ وحنينٍ دائم، ومن شعورٍ بأنّ كل مكانٍ ينقصه بعضٌ من قريتك ليصير مكاناً.

العودة إلى بيت ليف… بين الموتين

عدتُ إلى بيت ليف، وأنا أعلم أنّ حرباً على وشك الاندلاع.

لكن بين الموت في غرفتي التي أعرف كل زاوية فيها، والموت في بناية لا أعرف ساكنيها وأكره شرفاتها، اخترتُ الجنوب.

الطيور هاجرت، وتهاوت السقوف، ومات الورد في حيّنا. عجوز الحيّ تركت الشباك الخشبي الأزرق مشقوقاً كي نرى الحقيقة بعينٍ واحدة، ونبكي بالأخرى. انتهت الحرب في الأخبار فحسب

وبرغم القصف المدفعي المستمرّ والتهديدات اليومية، حاولتُ أن أطبّع كل ذلك كجزء من حياتي الجديدة: مارست التأمّل على موسيقى المسيَّرات، وصوت المدفعية، والتصريحات السياسية المنفصلة عن الواقع.

ثم وقعت الغارة الأولى.

تبنين 2023… حين تركنا الحطب مشتعلاً

كان النزوح إلى تبنين بعد الغارة الأولى التي استهدفت بيت ليف.

تركنا الحطب مشتعلاً في المدفأة، والقطط تحدّق بنا من بعيد بينما السيارة تبتعد.

سمعتُ ورأيتُ أول غارة تستهدف منزلاً وسط البلدة. يتحوّل المشهد في لحظة من صمودٍ واعتياد إلى انفجارٍ يدوّي، وصراخٍ يعلو، ودخانٍ أسود يتصاعد، ورجفةٍ تسري في القدمين.

غادرنا البلدة عند أول استهداف لها. أظن أننا بالغنا قليلاً.

فبعد كل غارة على بيت ليف، كنتُ أشعر وكأنني تركتها وحدها، تارةً تصارع الحرب، وتارةً تصارع الحنين.

عشتُ في تبنين شتاءً كاملاً.

كنت كلما أمسكني الشوق بيدي، جررته خلفي إلى حرش الصنوبر.

كان الحنين إلى بيتي الأول يثقل خطواتي كلما حاولت الانتقال من مكانٍ إلى آخر.

وأحببت تبنين لأنها لم تحاول ابتلاعي كما فعلت بيروت؛ ألفتها وألفتني، روّضت حنيني، وأصبحت طرقاتها وناسها وحرشها الممزوج برائحة أوّل مطر، مساحتي الآمنة لرياضتي اليومية، وتأمّلي، وانكساراتي.

جبيل 2024… حين صلّيت ليسوع ومار شربل

ثم جاء أيلول بما حمله من انتكاسات أثقلت ظهورنا وأعادتنا إلى واقعٍ حاولوا جاهدين فصلنا عنه.

أوهمتنا عقولنا أنّ الخطر تراجع. "بضع غارات فقط" وينتهي الأمر.

لكن أن يُستهدَف الجنوب بـ1،300 غارة في الوقت نفسه؟

أظن أننا كنّا بحاجة إلى النزوح مرةً أخرى… إلى مكان أبعد.

عدتُ إلى بيت ليف، وأنا أعلم أنّ حرباً على وشك الاندلاع.

بين الموت في غرفتي التي أعرف كل زاوية فيها، والموت في بناية لا أعرف ساكنيها وأكره شرفاتها، اخترتُ الجنوب.

بعد أن تساقطت الصواريخ على أطراف تبنين، حاريص، سهل عيتا الجبل، وبيت ياحون، ووصلت حجارة إحدى الغارات إلى البيت الذي كنا نقطنه، اضطررنا إلى المغادرة.

ست عشرة ساعة قضيناها في الطريق من تبنين إلى بيروت فجبيل.

كانت أغنية عبد الحليم تتردّد في رأسي:

"وفي عزّ الأمان… ضاع مني الأمان".

لأنني، في داخلي، عددت تبنين بيتي الثاني، وأهلها أهلي، فصرت أعيش فقداً وحنيناً لبلدتين ومنزلين في آن.

وصلنا إلى عنّايا، استقبلتنا قداسة مار شربل وأجراس الكنيسة.

أحببت المكان في البداية لأنه بعيد عن بيروت؛ أنا التي هربت منها في "أيام اللولو"، لن أعود إليها في الحرب حاملة ثقل النزوح.

تخيّلتها ستنظر إليّ ضاحكةً، تراني خارجةً منها معتدّةً بنفسي وبحقائب وأحلام، وعائدةً إليها بحقيبة كتفٍ وحيدة، أبحث عن بيتٍ أناديه منزلي "من فرط وحشات الملاجئ".

لكن حنيني لم يهدأ.

كان لأوّل مطر تشرين في عنايا ثقلُ الجبال على صدري.

كان الناس يحتفلون ببداية الموسم، يجمعون الحطب والمونة، بينما كنتُ أحاول جمع شتاتي: أبكي حيناً، وأتأمّل حيناً آخر.

حاولت أن أكون جبلاً من ثلج… عبثاً.

كنتُ أريد بيتي ويوماً قديماً.

صلّيت ليسوع ومار شربل كي تنتهي الحرب، لأنني كرهت الثلج، ولأنّه في صباح اليوم التالي تماماً، وصلتنا مقاطع مُصوّرة من وسط بيت ليف.

المطر باغتها على غفلة.

رأيته واقفاً في الساحة كمن ينتظرنا، فوجد بدلاً من ذلك بيوتاً مدمّرةً وشهداء تماهت أجسادهم مع التراب.

تخيّلت الغيم يبكي لهول ما رأى؛ جعلته يبكي في مخيلتي لأشعر ببعض المواساة، لأنه لا بدّ لأحدٍ أن يبكي مصابنا.

كان الثلج يتساقط في الخارج، وأنا في غرفة الفندق الضيّقة التي لا تتّسع مهما أطلت النظر فيها.

أتصفّح الخريطة الجوية لبيت ليف، أحصي بيوتها المدمرة، أشتاق إلى سنديانها، ثم أعود إلى مجموعة أخبار تبنين، وأبكي الحي الذي احتضننا في نزوحنا الأول.

أبكي الشهداء الذين عرفناهم والذين لم نعرفهم.

وبين الثلج والضحكات والوحل والجرّافات، كنت أشعر أنّ البرد يقرص قلبي قبل أصابعي.

بين مكانين، أعيد مشاهدة الفيديو، وأنظر من نافذة الفندق.

كيف يمكن أن يكون المرء في مكانين في وقتٍ واحد؟

القرميد المكسوّ بالثلج… دخان المواقد… الجثامين تحت الركام… أماكن الطفولة المبعثرة… وصوت يقول: "الله يبعت الخير".

وصوتٌ آخر من الهاتف يصرخ بلا صدى: "في حدا هون؟".

لا… لا يوجد أحد.

كان النزوح إلى تبنين بعد الغارة الأولى التي استهدفت بيت ليف. تركنا الحطب مشتعلاً في المدفأة، والقطط تحدّق بنا من بعيد بينما السيارة تبتعد

الطيور هاجرت، وتهاوت السقوف. ومات الورد في حيّنا. عجوز الحيّ تركت الشباك الخشبي الأزرق مشقوقاً كي نرى الحقيقة بعينٍ واحدة، ونبكي بالأخرى.

انتهت الحرب… في الأخبار فحسب.

أما نحن الجنوبيين فكانت مأساتنا تبدأ.

لم ننتظر بزوغ الفجر لنسلك طريق الجنوب.

أعلننا الجنازات المؤجلة، والمناحات التي مُنعنا عنها كي لا نُصدر ضجيجاً يزعج عالم "الإيجابية" المُفرطة و"سلام الحمّامات البيضاء".

بيت ليف 2025 وحطب الشتاء الماضي

عدنا إلى بيت ليف.

أشعلنا ما تبقّى من حطب الشتاء الماضي، وشعرتُ بالدفء يتغلغل في أصابع قدميّ وقلبي.

نظرت إلى السقف الذي بقي واقفاً، ورأيت البيت يضيء ثانيةً ثم يخبو.

قرأتُ الشهادتين في سرّي، وأغمضتُ عينيّ لئلا أرى الصاروخ يسقط.

لكنني سمعتُ صوته، ما يعني أنه سقط على بيتٍ آخر، بيت لعائلة كانت سعيدةً، شدّها الحنين إلى العودة، فاختار العدوّ أن يجعلها حزينةً إلى الأبد.

وتركتُ شتاء بيت ليف مرةً أخرى.

اليوم، وبعد مضي أشهر على انتهاء الحرب والهدنة، وبرغم الاستهدافات المستمرة، أنا هنا في مطبخي، جالسة إلى طاولتي، أترك حسائي ليبرد قليلاً، وأتابع المطر من نافذتي.

يصفو الجو، وتصفو معه ذاكرتي المتصدعة.

كل ما مضى صار ظلالاً. وحده الحنين بقي حقيقةً ثابتةً، كشمس الأصيل، يسطع من بين ضلوعي ليعيدني إلى المكان الذي أحببته، بأصواته وناسه ورائحة شتائه الخاصة.

حنيني لم يكن دراما ولا مبالغة؛ كان خيطاً يشدّني إلى البدايات: إلى حرش الصنوبر في تبنين، إلى كرم الزيتون، إلى طريق الجبل في القوزح، وإلى رائحة الغار والملّول.

هو الصوت الذي يذكّرني بأنّ غناء ضفادع المطر في قريتي لا يشبهه غناء آخر.

هو اليد الخفية التي تدفعنا نحو البيت الأول، مهما اعتلى الحزن قلوبنا وارتمى الفقد فوق أكتافنا.

هو ما يدعونا إلى أن نجلس مع كل من استطاع النجاة من هذه الحرب، ومع صور كل الذين فقدناهم، لأنهم بدورهم اختاروا حنينهم الخاص، ومضوا خلفه… غير آبهين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image