تجربة

تجربة "الجولاني" السياسية كمغالطة أخلاقية... "الفيل في الغرفة"؟

رأي نحن والحرية

الأربعاء 19 نوفمبر 20258 دقائق للقراءة

حين يُطرح الحديث عن "نظام الجولاني" كأنه تجربة سياسية تستحق أن تُمنَح فرصة، فنحن أمام مغالطة أخلاقية ومعرفية ضخمة، نحن نقف أمام "الفيل في الغرفة" الذي يتجاهله الجميع: فهذا النظام ليس نتاجاً طبيعياً لمسار سياسي، بل امتداد لتيارات أصولية مسلّحة نشأت على أنقاض الدولة السورية بعدما دمّرها نظام الأسد.

يستند المدافعون عن فكرة "التجربة السياسية" في سوريا بعد سقوط الأسد، إلى حجة براقة تقول إننا مضطرون إلى التعامل مع الواقع كما هو، وإننا بحاجة إلى إصلاح من الداخل بدل الاكتفاء بالرفض أو الإدانة. 

ويقدّم هؤلاء خطاباً يبدو عقلانياً على السطح، يدعو إلى الحوار والانفتاح والبحث عن مساحة وسطى بين المعارضة والسلطة، بين الدولة المفترضة والفاعلين المحليين المسلّحين.

لكن هذا الخطاب يغفل عن حقيقة جوهرية: أننا لا نتعامل مع سلطة سياسية بالمفهوم التقليدي، بل مع جهاز سلطوي قائم على فكرة الولاء العقائدي والغلبة العسكرية، وليس على أي عقد اجتماعي أو مبدأ من مبادئ الحكم المدني.

فـ"هيئة تحرير الشام"، التي تشكّل البنية الأساسية لنظام الجولاني اليوم، لم تتحوّل فعلاً إلى كيان سياسي مستقل عن إرث القاعدة، بل أعادت إنتاج أدواتها: القمع باسم الدين، الرقابة على السلوك، التمييز الطائفي، والشرعنة الانتقائية للعنف.

إن محاولة تقديم هذه المنظومة كـ"نواة دولة" هو تزييف لواقعها الأمني والأيديولوجي، وتبييض لسجلّها الدموي ضد الأقليات وضد كلّ من يجرؤ على الخروج من النسق المفروض.

ولعلّ الأخطر أن هذه المقاربة، التي تدّعي الواقعية السياسية، تُسهم في تطبيع فكرة أن الجماعات المتشددة يمكن أن تتحوّل إلى أنظمة "شرعية" لمجرد قدرتها على ضبط الأرض بالسلاح وفرض شكل من أشكال الإدارة.

ما يحدث اليوم هو إعادة إنتاج لمأساة سوريا بصيغة مصغّرة:

نظام قمعي جديد يُبرَّر بذريعة "الضرورة" و"الواقعية"، في حين تُهمّش كل الأسئلة المتعلقة بالعدالة، والمحاسبة، وحقوق الناس، وإمكان العيش المشترك خارج ثنائية الاستبداد والجهادية.

الواقعية السياسية كمصيدة أخلاقية

في السياق السوري، تُطرح "الواقعية السياسية" اليوم كأنها الحلّ السحري لتجاوز الانقسام، أو كأنها النضج السياسي الذي علينا جميعاً أن نبلغه بعد أكثر من عقد من الحرب.

لا نتعامل مع سلطة سياسية بالمفهوم التقليدي، بل مع جهاز سلطوي قائم على فكرة الولاء العقائدي والغلبة العسكرية… فهل نحن أمام إعادة إنتاج لمأساة سوريا بصيغة مصغّرة؟

لكن ما يُقدَّم على أنه "واقعية"، هو في الحقيقة استسلام ناعم أمام قوى الأمر الواقع، وتخلٍّ تدريجي عن المبادئ التي قامت عليها الثورة.

حين يتحدث البعض عن ضرورة "التعامل مع نظام أحمد الشرع كسلطة أمر واقع"، فهم لا يدعون إلى إصلاح حقيقي، بل إلى نوع من التطبيع مع منظومة تسعى إلى إعادة تشكيل ذاتها كسلطة شرعية، بعدما فشلت عسكرياً في تحقيق مشروعها الأيديولوجي.

وهنا تكمن خطورة الخطاب، فـ "الواقعية" لا تعود توصيفاً للواقع، بل تتحول إلى أداة تزيين له، إلى طريقة لإضفاء الشرعية على ما لا يُشرعن. فكيف تعمل هذه الواقعية؟

إعادة تعريف المفاهيم السياسية 

الواقعية السياسية هنا لا تقوم على قراءة دقيقة للظروف، بل على إفراغ المفاهيم من مضمونها.

فتصبح "الشرعية" مسألة قوة، لا عقداً اجتماعياً. و"الإدارة المدنية" مجرد واجهة لسلطة أمنية. و"الحوار" غطاء لإعادة إنتاج النفوذ.

التذرّع بالانهيار

يقال إن "البديل غير موجود"، وإن "الناس بحاجة إلى استقرار"، وإن "الهيئة هي الوحيدة القادرة على ضبط الأمن".

لكن هذه الحجج تشبه تماماً ما كان يُقال عن نظام الأسد لسنوات: "نحن أو الفوضى"، إنها الصيغة نفسها، فقط بأدوات مختلفة.

تحييد الأخلاق والسياسة عن بعضها 

 يُقدَّم هذا المنطق وكأن الأخلاق ترف، وأن السياسة فنّ الممكن حتى لو كان "الممكن" قائماً على القمع والتطرف. لكن الحقيقة أن هذا النوع من الواقعية لا ينتج سياسة، بل ينتج تواطؤاً ممنهجاً مع العنف.

لماذا يُراد لهذه الواقعية أن تنتصر؟

لأنها تمنح الجميع مخرجاً سهلاً: للمجتمع الدولي الذي يريد "نقطة توازن" في المنطقة. وللنخب السياسية التي تبحث عن أي نموذج بديل من الأسد، حتى لو كان استبداداً بلحية. ولجزء من السوريين المنهكين الذين صاروا يرون في أي سلطة "أمناً نسبياً".

لكن الواقعية السياسية التي لا تُبنى على العدالة، تتحول إلى شكل جديد من الاستبداد المعقلن — نظام يرفع شعارات التغيير لكنه يعيد إنتاج جوهر القمع نفسه، فقط بلغة أكثر ذكاءً ولباقة.

اللافت أن بعض النخب المعارضة، بخاصة تلك التي تعبت من انتظار بدائل، بدأت تتعامل مع الجولاني ببرود أخلاقي لافت.

صارت عبارات مثل "هو أفضل من الأسد"، أو "على الأقل لا يقتل الناس بالبراميل"، تُستخدم لتبرير التعامل معه أو تلميع صورته.

لكن هذه المقارنة السطحية تختزل المأساة السورية كلها في معادلة كاذبة: "إما الأسد أو الجولاني".

بينما الحقيقة أن كلا النظامين يمثل استمراراً لنمط من الحكم يقوم على الخوف، والرقابة، والولاء القسري.

كيف نكسر "الواقعية السياسية" ونفكّك خطابها التبريري؟

إنّ مواجهة ما يُسمّى بـ"الواقعية السياسية" لا تكون عبر الرفض الأخلاقي فحسب، بل عبر تفكيك بنيتها اللغوية والثقافية والنفسية التي جعلتها تبدو مقنعة. هذه الواقعية الزائفة ليست سوى آلية لتطبيع الاستبداد تحت غطاء العقلانية والبراغماتية. ولتفكيكها، يمكن العمل على مجموعة محاور أساسية:

١. تفكيك اللغة التي تُشرعن السلطة

الخطوة الأولى هي فضح اللغة التي تُستخدم لتجميل القمع وتقديمه على أنه ضرورة.

فالواقعية السياسية لا تقول مباشرة "اقبلوا بالظلم"، بل تقول "لنكن عقلانيين" أو "هذا ما هو متاح الآن". وهنا تكمن خطورتها، إذ تجعل التنازل يبدو وكأنه نضج سياسي.

نظام قمعي جديد يُبرَّر بذريعة "الضرورة" و"الواقعية"، في حين تُهمّش كل الأسئلة المتعلقة بالعدالة، والمحاسبة، وحقوق الناس، وإمكان العيش المشترك خارج ثنائية الاستبداد والجهادية… كيف نواجه "الواقعية السياسية" هذه؟

من الضروري إعادة مساءلة المفردات الشائعة، فحين يُقال "الهيئة سلطة أمر واقع"، يجب أن يُسأل: هل يعني ذلك أنها شرعية؟ أم أنها مفروضة بالقوة؟ وحين يُقال "استقرار نسبي"، يجب التذكير بأن هذا الاستقرار يقوم على الصمت والإكراه. وحين يُقال "تحوّل براغماتي"، يجب التساؤل: هل التغيّر طال السياسات فعلاً، أم اقتصر على المظهر واللغة؟

إنّ إعادة تحميل هذه الكلمات بمعانيها الأخلاقية والسياسية الحقيقية تمنعها من التحوّل إلى أقنعة ناعمة للعنف.

٢. إعادة تعريف مفهوم "الواقعية"

الواقعية الحقيقية لا تعني الخضوع للسلطة المفروضة، بل قراءة الواقع بصدق من دون الاستسلام له. بمعنى آخر، الواقعية ليست أن نقول "هذا ما هو موجود"، بل أن نسأل لماذا أصبح الموجود هو الموجود، ومن المستفيد من استمراره.

الواقعية السياسية الزائفة تفصل بين الواقع وتاريخه، وتلغي من المعادلة أسئلة العدالة والمحاسبة.

أما الواقعية النقدية، فتربط كل سلطة بسياقها: من أين جاءت؟ وبأي أدوات تحكم؟ وعلى حساب من؟

هذا التمييز الفكري ضروري حتى لا يتحوّل الفهم إلى تبرير.

٣. استعادة الخطاب الأخلاقي من دون مثالية

أحد أسباب نجاح الواقعية السياسية هو أنها أقنعت الناس بأن الأخلاق "ترف"، وأن السياسة فنّ المصالح لا المبادئ.

لكنّ السياسة بلا أخلاق تتحوّل إلى إدارة للقوة لا إلى إدارة للمجتمع.

لا بدّ من إعادة الاعتبار للبعد الأخلاقي في النقاش السياسي، لا كشعار ديني أو ثوري، بل كمبدأ بسيط: "لا يمكن لأي سلطة أن تكون شرعية وهي تُبنى على الخوف". 

وبذلك يتحوّل النقاش حول الجولاني ونظامه من نقاش حول البدائل إلى نقاش حول الجوهر، فهل يمكن بناء حكم عادل على أساس القهر والرقابة والإقصاء؟

تبييض السلطة وتحويل الخضوع إلى عقلانية ليس مصادفة؛ هو شبكة متكاملة من الإعلام والبحث والمنظمات الدولية والنخب السياسية.

لكن كسر هذا التجميل يبدأ من اللغة نفسها، ومن رفض القبول بالواقع كأنه حتمي، ومن إعادة بناء وعي نقدي يضع الحقيقة والكرامة فوق كل حسابات "الواقعية السياسية".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

سوريا ليست خبراً عابراً.

مسؤوليتنا أن نحكي عنها باستمرار.

بدعمكم، رصيف22 يبقى حاضراً.

Website by WhiteBeard
Popup Image