الإنسان المؤجّل... متى يتحرّر الفرد من جماعته في سوريا؟

الإنسان المؤجّل... متى يتحرّر الفرد من جماعته في سوريا؟

رأي نحن والحرية

السبت 22 نوفمبر 20258 دقائق للقراءة

قبل ربيع 2011، لم يكن للسوريين أي صوت وازن أو حضور فاعل في التعبير السياسي المباشر والعلني والحر، أو في المشاركة السياسية أو الانخراط في عمل عضوي وميداني يعود بالنفع للصالح العام، الذي هو في صالح الأفراد المكوّنين أساساً لأيّ جماعة. 

كانت سوريا حالةً نموذجيةً لإعدام السياسة، السياسة بما هي حق أساسي في تداول أي شأن عام ومناقشته، تبديله وتحسينه، وقبوله أو رفضه. الفعل ومثله الفكر تجمّدا مختنقَين، وأصبَحا أقرب إلى تنفّس الكائن البشري هواءً قديماً في مكان بلا هواء وبلا منفذ! 

قبل الثورة… فقدان الصوت والهيئة 

إذا نظرنا حقاً في الحالة السورية العامة قبل الثورة، فعلينا القول إنه لم تكن هناك حياة سياسية. لا أحزاب حقيقيةً تناقش أو تقدّم برامج اقتصاديةً أو اجتماعيةً، ولا نقابات مهنية تحمي حقوق أعضائها ومنتسبيها إلا ما يعرفه الجميع من أحزاب هي رديف البعث الحاكم، ونقابات لا تضم سوى موظفين خانعين مطيعين. هذا يعني في ما يعنيه أن سوريا كانت بلداً جامداً. وفي بلد جامد محاصَر بمئات الآلاف من المخبرين والوشاة، والسجون والمعتقلات، كانت الآراء والانفعالات والمشاعر مخنوقةً، وكان الأبد السوري البائد يطبق على أنفاس السوريين جميعهم وأرواحهم دون استثناء. 

كان السوري مكمّم الفم، معقود اللسان، ومخفي الوجه الحقيقي والصورة المعبّرة الصادقة. أي أننا كنا في مجتمع مقنّع أو هو مضطر إلى أن يبقى مقنَّعاً حتى يستمر في حياته الفقيرة والضيقة. لم ينحصر تكميم الأفواه وإلغاء الوجوه في الشأن السياسي والهموم المجتمعية، الاقتصادية والتعليمية والصحية العامة فحسب، التي كانت محرمةً وممنوعةً قطعاً، إنما حتى في النطاق الأصغر في ما يعود إلى الفردي والشخصي والاجتماعي ـ العائلي. يعرف الكثير من الكتّاب والفنانين السوريين كيف وبأيّ عقلية كانت تدار المؤسسات الثقافية العامة، ووفق أي نوع عسير من التكيف والمجاملة كان يمكن لمحاضرة أن تُعقَد، ولكتاب أن يصدر، أو لمسلسل أن يوافَق عليه من قبل وزارة الإعلام التي ليست سوى جهاز إداري تابع للمخابرات، أو لأغنية أن تسجَّل وتُبثّ. كانت الرقابة والنظام البوليسي العنيف سيفاً مسلّطاً على الجميع. كانت المطرقة مرفوعةً ويمكن بسبب ومن دونه أن تهوي وتحطّم وتبيد. كانت الإبادة عنصراً تكوينياً في صلب النظام السوري، ولم تكن شأناً طارئاً. 

الفرد داخل الجماعة ليس سوى رقم، وما يُفرح الجماعة كثرتها الرقمية، وحشدها ضد جماعة أخرى، وهي التي تعرّف الآخرين من دون أن تكلّف نفسها واجب التعرّف عليهم قبل تصنيفهم، وتالياً الحكم عليهم  

كان السوريون والسوريات كمن فقد صوته وهيئته إلى الأبد. اضطروا إلى أن يتكيّفوا مع المستحيل، مع اللاإرادة واللافعل واللامبادرة، أي مع اللاحياة. 

دفع السوريون أكثر مما هو كثير من الأكلاف والأرواح والممتلكات حتى يحصلوا على ما هو عادي وطبيعي، في نظام سياسي يحترم كرامة الإنسان. الكرامة البشرية التي يحب ألا تُمسّ وتظلّ محفوظةً وتتمتع بالرعاية والحماية دوماً. لا يمكن للكرامة إلا أن تكون قرين الفرد بما هو ذات خاصة مستقلة ومسؤولة ، ذاتٌ هي النواة الأساسية والفاعلة في أي جماعة وأي مجتمع. دون حرية مدنية وفردية لا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي لا يقبل بالتعدد وحسب، بل يدافع عنه ويحميه من سلبيات الصوت الواحد وعقم الحشود المخيفة. كل حشد مخيف وخطر، إذ يُذوِّبُ الفرد ويُشيّئه ويحوّله إلى رقم وأداة. 

التنازع والتباعد 

خلال الثورة وبعدها، صارت للسوريين أصوات ووجوه، غير أنّ هذه الأصوات المجمّعة أولاً على أهداف أساسية ومشتركة سرعان ما تفرّقت واختلفت، وبدأت تتنازع وتتباعد بل تتخاصم وإن لم يكن بالعنف المحض وحده. مَردُّ التباعد والتخاصم العنيف، في وجه من وجوههما، أن السوريين كأفراد أحرار ومستقلي الرأي ليسوا هم أنفسهم عندما يعرّفون أنفسهم باسم الجماعة، سياسيةً كانت أو دينيةً طائفيةً أو قوميةً عرقية. كلما ازداد منسوب الجماعة وسطوتها قلّ منسوب الفرد وحضوره. الفرد داخل الجماعة ليس سوى رقم، وما يفرح الجماعة كثرتها الرقمية، وحشدها ضد جماعة أخرى. يمكن للفرد أن يتعرف على فرد آخر، لكن الجماعة هي التي تتولى تعريف أفرادها، وهي التي تعرّف الآخرين من دون أن تكلّف نفسها واجب التعرّف عليهم قبل تصنيفهم، وتالياً الحكم عليهم.  

انكفاء الأفراد إلى الجماعة

على أنّ انكفاء الأفراد إلى جماعاتهم مردُّه إلى أمرَين: الأول هو انعدام الأمن العام والتهديد المتبادل من جماعة لأخرى بما هي جماعة. والثاني صمتُ أفراد الجماعة على ما يفترض ضمناً أنه تهديد للفرد بما هو فرد حرّ. للجماعة أجوبتها واسمها وأسئلتها. لا تشك في معنى وجودها وجدوى انتمائها. هويتها ثابتة وأسئلتها على الأرجح أقل من أجوبتها، وربما تكون بلا أسئلة بقدر ما لها من مطالب وأهداف تحسبها محقّةً وعادلةً وغير قابلة للنقاش حتى ولا للمساومة. للجماعة صَنَمُها، لكن الفرد بلا صنم إلا إذا كان نسخةً من جماعته. 

لكن الفرد أقل من جماعته. هو واحد منها، لكنه لم يساهم في تكوينها التقليدي. تكاد الجماعة أن تكون أمّ الفرد. أمّه العاطفية والحانية والمربية والحاضنة، أمّه البيولوجية، لكن الفرد يحسب نفسه وقد تجاوز الحضانة وفكّ الأسْر الأسري. وهو ليس سليل البيولوجيا بل رهين الثقافة الرحبة والأفكار الحية والمتحولة. 

الأسرة تحضن، لكنها في المقام نفسه تقيّد وتحجب. الفرد يبحث عن مرآته لكن الأسرة والجماعة تعكسان ذاتيهما وحسب. للفرد أسئلته وهي في الغالب ليست أسئلة جماعته. أسئلة الفرد أكثر وأجوبة الجماعة أقل. في المحصلة الفرد المستقل والحرّ وسيد نفسه لا يجد نفسه إلا خارج الجماعة دون أن يكون ضدها بالضرورة. 

الخوف والوئام 

قرارات الفرد غالباً مرتبطة بالبحث عن الأمان، الرزق، والحرية الشخصية. في ظل الأزمات، يضطر كثيرون إلى اتخاذ مواقف حيادية أو الهجرة، وقدرة الأفراد على التأثير محدودة ما لم ينضموا إلى جماعات أو حركات أكبر. الجماعة تُعرَّف بالانتماء الطائفي (سنّة وعلويون… إلخ)، العشائري، الإثني (عرب، أكراد، آشوريين…)، أو السياسي (موالاة، معارضة، حياد). القرار جماعي أكثر، يخضع لضغط "التماسك الداخلي"، والخوف من فقدان الدعم أو الحماية. الجماعات قادرة على التأثير السياسي والعسكري والاجتماعي بدرجة أكبر، لأنها تتحرك كتكتل، كحشود متراصّة. 

خلال الثورة وبعدها، صارت للسوريين أصوات ووجوه سرعان ما تفرّقت واختلفت، وبدأت تتنازع وتتباعد بل تتخاصم، ومَردُّ هذا إلى أن السوريين ليسوا هم أنفسهم عندما يعرّفون أنفسهم باسم الجماعة، سياسيةً كانت أو دينيةً طائفيةً أو قوميةً عرقية

الوئام أساس الجماعة وأصل استمرارها وديمومتها. الوئام يحمل معاني الطاعة والقبول والانسجام. كيف للفرد حينها أن يخرج بعيداً عن أسوار الجماعة إذا كان مطيعاً ومنسجماً وقابلاً تعريف الجماعة لنفسه، وهو ضمنها كرقم وكمحصلة بيولوجية وكادّخار واستثمار أسريَّين؟ كل جماعة تنجب أشباهها وتفرح بهم. لكن فرح الجماعة ليس فرح الفرد بالضرورة، ولا ابتهاجها بالابن المطيع ابتهاجه. 

في المحصلة، الفرد هو الحركة والكلام والتحول، القبول والرفض، والجماعة هي الجمود والثبات والموت. 

الجماعة وهم راسخ وقويّ ومتماسك على الرغم من كونه وهماً صغيراً. الفرد حقيقي وضعيف على الرغم من أحقيته في تمثيل نفسه على نحو يعكس قناعته الفعلية وإرادته الحرة ورأيه المستقل استقلالاً تاماً. كلام الجماعة فوقي قادم من جوهر ثابت أقرب إلى معتقد أيديولوجي، فيما كلمات الفرد تأتي من تحت، من التجربة والممارسة، ومن الفشل والنجاح، ومن الحيرة أو الثقة، ومن اليأس أو التفاؤل. كائناً ما كان الحال، لن تشفى سوريا من وباء جماعاتها ما لم يُعامَل السوري كفرد مواطن حرّ محفوظ الكرامة أبداً.

ولنا في عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني إيريك فروم، دليل، إذ يشير إلى اضطراب شخصية الفرد وعدم معرفته حقيقة ما يريد بسبب ضغوط الامتثال وعدم القدرة على تخطّي القيود الاجتماعية: "نحن أحرار أو غير أحرار إلى حدّ ما. القيود الاجتماعية، والمعايير، أو ضغوط الامتثال يمكن أن تحدّ من هذه الحرية"، و"يعيش الإنسان المعاصر في وهم أنه يعرف 'ما يريده'، بينما هو في الواقع يريد ما يُفترض أن يريده". 

وما يُفترض هنا، في الحالة السورية بعد سقوط نظام الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، هو ما تمليه الجماعة على أفرادها، مما يجعل الأخيرين تابعين لا غير، والتبعية ليست سوى رافد من روافد الدكتاتورية والخضوع للحكم الشمولي الخانق. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

باب رصيف22 مفتوح لكُل من يروي عمّا يحصل في سوريا، وينقل الواقع، بعيداً عن السردية التي يُراد بها تعميةً ما، أو إنكاراً شبيهاً بما كان يحصل أيّام البعث.

كي يبقى صوتكم عالياً

Website by WhiteBeard
Popup Image