تأثير أسمائنا على حياتنا أكبر مما نعتقد… ماذا يقول العلم؟ 

تأثير أسمائنا على حياتنا أكبر مما نعتقد… ماذا يقول العلم؟ 

حياة نحن والتنوّع

الثلاثاء 18 نوفمبر 20259 دقائق للقراءة

أسماؤنا جزءٌ منّا، تماماً كعيون ورثنا لونها، وكضحكة لا نعرف من نقلد فيها، لكنها تعبر عن قلوبنا. قد نحبّ أنفسنا من نبرةٍ ينطق فيها أحدهم اسمنا، وقد نكرهها لأن أحداً شوّه موسيقاها، عن غير قصد.

نعرف الناس بأسمائهم، ونرتجف أحياناً حين يمرّ اسمٌ معيّن من أمامنا، كأنه يفتح باب ذاكرةٍ ورديةٍ. وهو بطريقةٍ غريبةٍ، أكثر الأشياء التي لا نختارها، لكنه أيضاً أكثر ما يلازمنا، ويلتصق بنا حتى بعد الموت.

فهل نحبّ أسماءنا لأنها تشبه شيئاً في داخلنا؟ أم نتمرّد على كل ما لم نختره، ومنها أسماؤنا؟ وهل كان أجدادنا هم أيضاً غير راضين عن الأسماء التي ورثوها، أم كانوا يرون فيها امتداداً لهم؟ وهل الاسم لعنة نحملها أم هدية لم نعِ قيمتها بعد؟

جواز سفر عبر الزمن

نحن ننقل أسماءنا من جيلٍ إلى جيل، مثلما ننقل تراثاً غير مرئي، رغم السعي إلى إيجاد قائمة جديدة من الأسماء التي تُناسب حداثتنا، والتي قد يرى أصحابها أنها تعبّر عن الحاضر.

ومع ذلك، هناك أسماءٌ راسخةٌ في الذاكرة الجماعية، أسماءٌ تشبه التاريخ — ففي المجتمع الإسلامي سيبقى اسم محمد حاضراً ما دام هناك إسلام، لأنه رمزٌ دينيٌ وثقافيٌ عميق — يهيمن على قوائم الأسماء الأولى في عشرات الدول العربية، كما هو موثقٌ في إحصائيات واسعة. إلى جانبه، نجد أسماء مثل أحمد، علي، عمر، وإبراهيم تردد صدى الرسالة والقرآن في القلوب، وهي من الأسماء الأكثر اختياراً وفق مواقع متخصصةٍ في الأسماء العربية.

في الغرب، نرى أسماء مثل ديانا تنبع من عشق الناس للأميرة ديانا، أو ليونيل وكريستيانو اللذين ارتبط اسماهما بالنجومية الرياضية، إضافة إلى انتشار اسم ليام (Liam) صاحب الجذور الأيرلندية. هو اختصارٌ من الاسم William ويعني "محارب قوي الإرادة" أو "حامٍ".

من سقراط إلى ابن عربي ومحمود درويش، تعامل الفلاسفة والشعراء مع الاسم كجزء من الروح، أو ربما كبداية المعرفة، في محاولة لالتقاط جوهر الإنسان الذي يُعرّف صاحبه، فالاسم هنا ليس علامة، بل وجودٌ كامل

إن الاسم في هذه الحالة لا يقتصر على كونه مجرد وسمٍ لصاحبه، بل يصبح حامل ذكرى وتاريخٍ، يعكس امتداداً ثقافياً يتجاوز الفرد إلى عوالم أوسع.

هذه الفكرة مدعومةٌ بدراسات من علم الإنسان والاجتماع: فالأنتروبونيميا (onomastique) تدرس الأسماء الشخصية كنظمٍ ثقافيةٍ تعكس انتماء المجتمع وهويته. وفق باحثين أنثروبولوجيين، الأسماء ليست مجرد أصوات، بل رموزاً ثقافية عالية الكثافة تكشف عن علاقة الإنسان ببيئته، وتعكس خلفياتٍ دينيةٍ أو فكريةٍ أو طبقيةٍ. 

وفي سياق عربيٍ تراثي، نجد في بحث أنثروبولوجي بعنوان "الاسم: هوية وتراث، مقاربة أنثروبولوجية لدلالة الأسماء في قسنطينة" أن الأسماء لا تُختار عبثاً، بل هي نتاجٌ تاريخيٌ وثقافي، وهي طريقة المجتمع ليؤكد انتماءه الحضاري عبر الأجيال.

ولدنا حروفاً!

ومن زمنٍ بعيد، قبل أن نفكر بمعنى أسمائنا نحن، كان الفلاسفة والشعراء يتعاملون معها كأنها وجهٌ آخر للروح. سقراط كان يقول إنّ "الاسم بداية المعرفة"، كأنه يلمح إلى أنّ كلّ حكايةٍ تبدأ من أول كلمةٍ نُدعى بها.

أما أفلاطون فذهب أبعد، حين رأى أن الاسم ليس زخرفة، بل محاولةٌ لالتقاط "جوهر الشيء"، كأنّ الناس عبر القرون كانوا يفتشون عن جوهرهم بتمرير أسماءٍ معينةٍ من صدرٍ إلى صدر.

وفي الشعر، كان للاسم وزنٌ يشبه النفس. محمود درويش مثلاً كتب: "لا شيء يوجعني على باب القيامة… ليس لي اسمٌ لأُسميه"، وكأن غياب الاسم يشبه سقوط المرء خارج العالم. ونزار قباني كان يقول إنّ بعض الأسماء "تلمع في الذاكرة مثل سيفٍ من ذهب"، في إشارةٍ إلى تلك الرعشة الخفيفة التي تصيبنا حين يمرّ اسمٌ نحبّه، أو نخشاه، أو نخسره.

أما ابن عربي فكان يرى في الاسم "تعريفاً بالنور الداخلي"، وفي أدبياته لا ينفصل اسم الإنسان عن مقامه الروحي، كأنه بطاقة تعريفٍ قدسية. بينما اعتبر الجاحظ أن الاسم "يكسب صاحبه حسناً أو قبحاً"، وهو ما نراه اليوم في تلك العلاقة الغريبة بين صوت الاسم وصورة الشخص في المخيلة.

وأما رأي شكسبير بأن "الاسم لا يصنع الجوهر، فالوردة تظل وردة مهما تغير اسمها" لكن هل يشبه الإنسان الزهرة؟ الاسم عند البشر يصنع صورة، يبني توقعاً، يفتح باباً أو يغلق آخر. كثيرون يرون أن الاسم ليس قشرةً خارجية، بل إرثاً يرافق صاحبه، يمنح صاحبه مكاناً في الذاكرة قبل أن يثبت نفسه بالفعل.

حين لا يكون الاسم على مسمى

ومن هنا نرى انقساماً طريفاً وإنسانياً: فريقٌ يحتضن الأصالة، يرى في الاسم استمراريةً وأنه هديةٌ من الجذور، وفريقٌ آخر يصرّ على أن يكون اسمه فصلاً متمرداً على التاريخ — اسماً يواكب العصر، "كيوت"، منفتحاً، قابلاً لإعادة التشكيل.

كما في حالة الصبية العشرينية "فرح"، ذات الاسم الذي يعد رقيقاً، ويعني البهجة والضياء، لكنه لم يحمل معه البهجة لصاحبته كما تقول لرصيف22. لا مشكلة في أن تحب الفتاة شخصيةً سينمائيةً وتستلهم منها اسماً، لكن المشكلة الإنسانية تبدأ عندما يتحول الاختيار إلى قرارٍ لم يراعِ مشاعر المسمى، عندما تبدو الطفلة وكأنها هدية معلّبة لذكرى شخصية، لرمزٍ أحبته أختها.

أما فردوس، الاسم الذي يذكّر بالمرتبة العليا من الجنة، فتقول صاحبته إنها لا تحبه، لأنه خيطٌ يشدّها إلى وجعٍ قديم. الاسم الذي اختارته العمّات لا حباً بها، بل نكايةً بأمها. صار الاسم، بدل أن يكون بشارةً، علامةً على معركةٍ عائليةٍ لا ذنب لها فيها.

قد تبدو علاقتنا بالأسماء مرآةً لانقسام أعمق فينا: بين من يريد أن يبقى متصلاً بجذوره، ومن يريد أن يتحرر منها ليصنع هويةً خفيفةً تناسب زمناً سريعاً لا ينتظر أحداً.

أما "هدية"، فحالتها من نوعٍ آخر. اسمٌ دافئ، لكنه بالنسبة لصاحبته المراهقة يبدو قديماً، وينتمي لزمنٍ آخر. تقول إنها كانت تتمنى اسماً آخر… اسماً يلمع، يشبه الستايل الذي تريد تبنيه، كبقية المراهقين الذين يحبون الأسماء "الفانكي". في سن المراهقة، قد يصبح الاسم مرآةً تلتقط تفاصيل الصراع بين من نكون ومن نريد أن نبدو عليه.

بالانتقال إلى آية، يمكن الشعور من اللحظة الأولى بأنها تريد الانتماء لهذا الزمن. هي لا تحمل موقفاً عدائياً من الأسماء القديمة، لكنها تشعر ببساطة أن تلك الأسماء استكملت رحلتها في وقتها.

تروي آية أنها سمت طفلتها الأولى "آيلا" لأنها تريد لها اسماً "ينساب"، خفيفاً، سهلاً في النطق، ويعكس روح العالم الذي ستكبر فيه. وتقول لرصيف22 إنها تريد لأولادها أسماءً منسجمةً مع بعضها، وخلف هذه الرغبة تحاول أن تبني لأطفالها هويةً متماسكة. فهي تعرف، كأمٍ، أن الاسم قد يكون أول امتحانٍ يخوضه الطفل أمام العالم.

هي لا ترفض التراث كفكرة، لكنها لا تريد أن يشعر طفلها يوماً أن اسمه حاجزٌ حوله بدلاً من أن يكون نافذة. تريد لآيلا أن تدخل الصف فيلتفت أحدهم بدهشةٍ عند سماع اسمها، ليكون اسمها امتداداً طبيعياً لوجهها وصوتها وشخصيتها.

لحظةٌ تغير كل شيء!

جهاد مثلاً، وُلد في واحدةٍ من أكثر لحظات لبنان ظلمة: عام 1979، في أتون الاجتياح الإسرائيلي، خلال نزوح عائلته من منطقةٍ إلى أخرى. لم يولد في غرفة مستشفى باردة، ولا في بيتٍ مستقرٍ يعرف صدى أقدام أهله؛ بل وُلد في كاراج، في مكانٍ يعبّر عن كل هشاشة تلك المرحلة وكل فوضويتها.

والده كان مصمماً أن يسميه "كاراج". ربما ليخلّد الحدث، أو ليحوّل لحظة الضعف إلى علامة قوة، أو حتى كنوعٍ من المزاح القاسي الذي يصنعه البقاء حيًا في زمن الموت.

يقول: "تخيلي لو اسمي كاراج!" وهو يضحك، ضحكةً فيها أثر حمدٍ لله الذي ألهم والده العدول عن الفكرة قبل لحظاتٍ من تسجيل الاسم رسمياً.

في النهاية، استقر الأب على اسم جهاد — اسمٌ أخذ من زمن الحرب صلابته، ومن تجربة العائلة معناها. قد يبدو الاسم اليوم تقليدياً وربما محملاً بإيحاءاتٍ سياسية، لكنه بالنسبة إلى الرجل وثيقةُ زمن، يذكره بالمكان الذي وُلد فيه، بالرحلة، وبالقدرة على النجاة.

قصص فرح وفردوس وهدية تكشف كيف يتحول الاسم أحياناً إلى عبء نفسي أو تذكير بصراع عائلي أو شعور بعدم الانتماء. وفي المقابل، ترى آية أن الاسم يجب أن يكون نافذة لا حاجزاً، فتختار لابنتها اسماً خفيفاً ينساب مع زمنها ويمنحها هوية منفتحة أمام العالم

تكشف هذه الحكاية شيئاً مهمًا عن علاقة الرجال بالأسماء: حتى لو لم يظهروا اهتماماً يومياً بالتفاصيل الصغيرة، فإن للاسم أثراً لا يمكن تجاهله عندما يكون مرتبطاً بلحظةٍ مصيريةٍ أو بعتبة حياةٍ قاسية. 

الرجال قد لا يتحدثون كثيراً عن أسمائهم — لكن هذا لا يعني أن أسماءهم بلا جذور. أحياناً، اسمٌ واحدٌ يحمل تاريخ عائلةٍ كاملة، ووطنٍ كامل، وطفلٌ وُلد في كاراج… وصار مدير مدرسة.

الاسم... جسرٌ بين زمنين؟

قد تبدو علاقتنا بالأسماء مرآةً لانقسامٍ أعمق فينا: بين من يريد أن يبقى متصلاً بجذوره، ومن يريد أن يتحرر منها ليصنع هويةً خفيفةً تناسب زمناً سريعاً لا ينتظر أحداً. وكل فريقٍ يملك منطقه وأسبابه.

فأجدادنا، مهما ابتعد الزمن، يستحقون أن يبقوا معنا. ليس لأن الماضي أقدس من الحاضر، بل لأن القصص التي حملوها أكبر من أن تُترك تذبل. في عالمٍ يربينا كل يوم على النسيان، تصبح الأسماء واحدةً من آخر الطرق التي تتيح للذاكرة أن تعيش.

وليس الأمر مرتبطاً فقط بالأشخاص. هناك أسماءٌ تنصر قضايانا: يافا، جنين، رام الله، أسماء أماكن، وأسماء شهداء، وأسماء قضايا. أسماءٌ ليست ملكاً لأحد، لكنها ملكٌ لنا جميعاً. ننطقها فنشعر أن اللغة تتصلب في عروقنا لحظةً واحدة، وأن العالم مهما تغير لا يستطيع أن ينتزعها من أفواهنا.

لكن في المقابل، نحن نعيش حياةً ثقيلة. وربما يكون من اللطف — تجاه أنفسنا وتجاه أطفالنا — أن نختار لهم أسماءً أسهل، أخف، أكثر نعومة. نحن ذاهبون إلى عصرٍ تتراجع فيه اللغة العربية أمام لغاتٍ سريعةٍ وعابرة. ولعل أجمل طريقةٍ للحفاظ عليها ليست في إلزام الأطفال بأصعب مفرداتها، بل في مصالحتهم معها، في تقديمها لهم بأسمائها التي تحتوي موسيقى ورهافة.

الحفاظ على اللغة العربية لا يعني أن نجعل منها عبئاً يومياً على الصغار، بل أن نختار لهم من أسمائها ما يشبه قلوبهم الصغيرة، ما يحبونه لا ما يختبئون منه. اللغة تعيش حين نحبها، لا حين نُجبر أحداً عليها.

وهكذا يصبح الاسم محاولةً إنسانيةً لنسج هويةٍ تعرف كيف تكرم من جاء قبلنا… دون أن تمنع من سيأتي بعدنا من أخذ اسمٍ خفيف، جميل، ويمشي به إلى العالم، بحب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image