شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لن أغيّر اسمي

لن أغيّر اسمي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات الشخصية

الثلاثاء 4 فبراير 202509:46 ص

ربما لم يكن مقدّراً أن يكون اسمي عبد الله، إذ رغبت أمي في أن تسميني "كريم" بعد أن زارها في المنام زعيم الطائفة الإسماعيلية، كريم شاه الحسيني، حاملاً معه ما كان يمكن أن يكون اسمي، لولا إصرار أبي على تسميتي عبد الله، تيمناً بأخيه عبد الله أبو الندى، امتثالاً لأحد الأعراف السائدة التي يلتزم بها أهالي مدينتي السلمية في ريف حماة.

بالطبع، نجح أبي بسهولة في تسميتي كما أراد، وذلك بفضل السلطة التي منحها له المجتمع كرجل، وفق تقسيمات جندرية متوارثة، منحته، وفقًا للصبغة الوراثية، الكلمة العليا!

أحببت اسمي عندما كنت صغيراُ، ورفضته كلياً عندما كبرت. كما سُمّي أخي الكبير محمد نسبةً إلى عمي محمد، وهذا هو الحال عند بعض العائلات السلمونية السورية.

عبد الله، هذا الاسم الذي دعاني الكثيرون في هذه الغربة إلى تغييره، لكي أبدو كالإسبان أو الإيطاليين، على حد قولهم. ولكني رفضت دائمًا القيام بهذا التغيير القسري، لأني لا أنصاع للضغوطات، أو هكذا أعتقد أني أفعل.

عشت كامل طفولتي بهذا الاسم، وأتذكر دائماً أن أبي، الذي توفي وأنا في غربتي القسرية، ولم أره منذ أكثر من عشر سنوات، كان يناديني به. وأمي، التي أعشقها بكل كياني، نادتني، ودللتني، ووبختني أيضاً بهذا الاسم أو بأشكاله المصغرة، مثل: "عبودي"، "عبود"، و"عبيقة"، وغيرها الكثير من الاختصارات التي صاغها لي والداي، وإخوتي، والأقارب.

 هذا الاسم لي

مع انطلاق الثورة في عام 2011، ومع اختياري لأسماء عديدة حملتها وتسمَّيت بها لحماية نفسي أمنياً ولأسباب تتعلق بالتنسيق والتواصل في الأيام الأولى للثورة، إلا أنني للأسف لم أنجح أبداً. حتى المحقق في إدارة أمن الدولة في كفرسوسة، والعسكري في إدارة الأمن العسكري هناك، ناديا عليَّ باسم "عبدالله"، فكانت كل محاولاتي لإخفائه غير نافعة، وفي النهاية وقعت بين أيديهم.


كان لديَّ ثلاثة أسماء مستعارة: إياد، وقيس، وأخيرًا كفاح، لكل منها مسارها الدرامي. فقد تسمَّيت "إياد" نسبةً إلى صديقي إياد درويش، الذي وهبني أوراقه الدراسية ودفتر الجيش، لأتنقل بها من سلمية إلى دمشق أثناء هروبي من الحواجز، ثم لأعيش من خلالها سنة كاملة في دمشق.

غيرت اسمي أكثر من مرة في بداية الثورة السورية عام 2011، لكن أياً من هذه الأسماء لم ينجح في حمايتي، إذ ناداني المحقق باسمي الحقيقي في أحد مراكز الشرطة

 و"قيس" كان اسماً مستعاراً لي، نسبةً إلى صديقي قيس الشعار، الذي جمعني به العام الأول من الثورة أثناء فراري من الجيش واختبائي في جرمانا بريف دمشق.

أما "كفاح"، فقد اخترته نسبةً إلى أبي كفاح، الشهيد إسماعيل حيدر، الثائر الواعي الجميل، الذي كان مع الثورة قلباً وقالباً، ورفض دائماً الضغوطات والسياسات التي كان يمارسها عليه والده، الذي لعب دوراً سياسياً حليفاً لنظام الأسد.

عاطفة مفخخة 

في إحدى المرات، مازحت أحد الأشخاص الذين اقترحوا عليّ تغيير اسمي للتخلص من جرْسه العربي الثقيل، فقلت: "أتمنى لو أستطيع الدخول إلى عقلك الباطني ومشاهدة الشكل التخيلي لاسم عبدالله"، ثم تابعت ضاحكاً: "رجل يُتوقع منه القيام بعمل تفجيري في أي لحظة!". لولا كل هذه الضغوط، لكنت قد غيّرته طوعاً، وأصبح اسمي اليوم نابعاً من إرادتي الحرة.


طُلب مني تغيير اسمي إلى اسم إسباني عندما كنت مُدرّساً في إحدى رياض الأطفال، كما طُلب مني الأمر ذاته خلال الفترة التي عملت فيها في غسيل الصحون في أحد البارات، لكنهم اقترحوا حينها أن أغيره إلى اسم إيطالي. فبحسب ظن الناصحين، تخلّط الإيطاليون بالعرب في فترات زمنية سابقة، وهكذا يمكنني التحايل على من يرى سمرة بشرتي من خلال اسمي ذي الجرس الموسيقي المختوم بالواو.


لقد طُرحت عليّ العديد من الاقتراحات لتغيير اسمي بحثاً عن فرصة عمل أفضل، ما يعكس صورة العربي في مخيال الآخر: شخص مستعد للتضحية بأشياء كثيرة طلبًا لحياة كريمة.

أظهرت دراسة صادرة عن معهد تقييم السياسات التعليمية وسوق العمل في السويد أن الأسماء المحلية تؤثر بشكل أكبر من الخبرة المهنية عند التقدم للوظائف، إذ يواجه الأشخاص الذين يحملون أسماء عربية صعوبة في الحصول على عمل.

لكن نصيحة الأصدقاء لي بتغيير اسمي للحصول على عمل أفضل لم تكن مبالغة، وفقاً لما بيّنته دراسة صادرة عن معهد تقييم السياسات التعليمية وسوق العمل (IFAU)، إذ تبيّن أن للاسم السويدي تأثيراً أكبر من الخبرة المهنية عند التقديم على الوظائف في السويد، حيث كشفت الدراسة عن الدور الذي يلعبه الاسم في فرص الحصول على وظيفة.


ووفقاً للدراسة، فإن الشباب السويديين الذين يحملون أسماءً عربية يواجهون صعوبة في الحصول على ردود من أرباب العمل، مقارنةً بنظرائهم الذين يحملون أسماءً سويدية.

التجربة السويدية

غيّر صديقي عبد الرحمن اسمه إلى "أببي"، وهو اسم سويدي. في كل مرة يعرّف فيها عن نفسه بهذا الاسم، يُواجه بالسؤال: "أليس هذا الاسم سويدياً؟" فيجيبهم: "نعم." ثم يسألونه: "ومن أين أنت بالأصل؟" فيردّ بأنه مواطن سويدي، فيضحكون ويقولون: "أببي، لقد غيّرت اسمك إلى 'أببي'؟" وفي إحدى المرات، انفجر غاضباً قائلاً: "غيّرت اسمي لأتفادى عنصريتكم، لكن لا فائدة!"


أما صديقي الآخر، عروة، فلم يُخفِ سعادته وهو يقول لي: "مديرتي في العمل أخبرتني أن اسمي ليس واضح الأصل، لا يمكن تحديد أصله بالضبط، لا هو عربي ولا فارسي." كان في غاية السعادة، لأنهم لم يكتشفوا أنه عربي!

أبجدية الاندماج 

في الفترة الأخيرة، بدأت دراسة مع مجموعة من الشابات والشباب في مجال الأفلام الوثائقية، ولاحظتُ شيئاً غريباً في طريقة تعامل أحد المدرّسين السويديين، خصوصاً مع غير السويديين البيض تحديداً. كان هناك نوع من التمييز الدائم، إذ إن الأفكار التي شكّلت تصوّره عن الأشياء تضمنت تصورات مسبقة عن كيفية رؤية الآخرين الغرباء. انتبهتُ إلى هذا الأمر من خلال عدة مواقف. في إحدى المرات، اقترح عليّ أحدهم اسم "أببي"، ثم قال لي: "هل تريد أن يصبح اسمك أببي؟" فأجبته: "لا، يمكنك أن تقول 'عبود' إذا كان لفظ 'عبدالله' صعباً، فعبود هو الاسم المختصر الذي يناديني به الجميع، وذلك حفاظاً على التنوع."

أسعى يومياً لتعلّم اللغة وتطوير نفسي لأعيش باستقلالية وأندمج في مجتمعي الجديد، فهل من الصعب أن تخصص دقيقتين فقط لتُنطق اسمي بشكل صحيح؟

وفي مرة، وأنا في طريقي إلى الاستوديو، قلت: "صباح الخير، يا فلان"، فقال لي: "صباح الخير، عبودوالله". وقفت في مكاني كالمسمار، عددت من الواحد إلى العشرة تصاعدياً ثم تنازلياً، وأخذت نفساً عميقاً. وعندما سيطرت على غضبي، ابتسمت ولمعت عيناي، ونظرت إليه وقلت: "أنا هنا في هذا البلد منذ أكثر من عشر سنوات، وكل يوم يشغلني هاجس تعلم اللغة حتى أتمكن من تطوير مهاراتي وحياتي، وأعيش بطريقة لا تجعلني محتاجاً للمساعدات، ولأتمكن من التواصل مع المجتمع الذي انضممت إليه حديثاً، فهل يُعقل أنك لا تستطيع تخصيص دقيقتين من يومك لتعلُّم نطق اسمي بطريقة سليمة؟"

أجابني متفاجئـاً:هل تقصدني أنا؟ فأجبته: "نعم أنت يمكنك فعل ذلك إذا كنت معنياً بأن يكون لقائنا لطيفا وأن تترك لي كأستاذ بصمة لطيفة في حياتي". 

لم أكن أبالغ في رد فعلي، فالإصرار على حشري واسمي ضمن إطار معيّن قد يدفعني إلى العزلة ويعيق اندماجي، وهذا ما أثبتته الدراسات. فقد تكون العنصرية بسبب الاسم أو الشكل أحد العوامل الرئيسية التي تدفع صاحبها إلى العزلة أو رفض الواقع الذي يعيش فيه. كما أن تكرار التنميطات أمام الشخص يسهم في تشكيل نظرته إلى ذاته، وبالمقدار نفسه، نظرته لمن هم حوله. وهنا تكمن المشكلة، لأن الإنسان قد يبدأ في تقييم ذاته وفقاً لنظرة الآخر، التي قد تكون مبنية على أحكام جائرة، أو تصورات مسبقة، أو حتى كراهية، لمجرد كونه "الآخر" المختلف.

 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image