شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
فنّ

فنّ "الستاند أب" في "سوريا الجديدة"... هل من حدود للكوميديا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن وحرية التعبير

الثلاثاء 4 فبراير 202509:01 ص

بعد أيام من إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، وفي ظلّ محاولات استيعاب التغيير الكبير الذي طرأ على البلاد برمّتها، لم يكن تفكير الثلاثيني الدمشقي شريف الحمصي، الذي أسّس قبل عامين أول فريق "ستاند أب كوميدي" أو الكوميديا الارتجالية في سوريا، مقتصراً على معرفة ما قد يؤول إليه وضعه على الصعيد الشخصي، إذ انصبّ اهتمامه وجزء من مخاوفه على مصير فريق "ستيريا" الذي شكّل تجربةً فريدةً من نوعها على مستوى "سوريا الأسد".

"صرت أتساءل: هل يمكن أن نكمل عملنا كما في السابق؟ وهل يمكن أن نستفيد من مساحة جديدة متاحة وأماكن لم تعد مغلقةً في وجهنا؟ ورحت أفكر أيضاً في أنني لا أرغب في أن توضع لنا حدود جديدة كما كان الحال في السابق، وفي أنني أريد على الفور أن أشتبك مع 'الخطوط الحمراء' كي لا تبقى حمراء"، يقول الحمصي في لقاء مع رصيف22، على هامش أحد عروض "ستيريا" الأخيرة في دمشق.

يُقدّم الفريق المكوّن من أكثر من عشرة شبان وشابات، عروضاً دوريةً ومساحات لتجريب الكوميديا في العاصمة والعديد من المدن السورية دون انقطاع منذ تأسيسه نهاية عام 2022، وقد استمدّ اسمه من جمع كلمتَي "سوريا" و"هستيريا".

المواضيع التي كان متاحاً تناولها في هذا القالب الكوميدي، قبل إسقاط النظام السوري وهروب رأسه بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، كانت محدودةً بعشرات "الخطوط الحمراء" والمحاذير، خاصةً في ما يتعلّق بالمحرّمات الأساسية: السياسة والدين والجنس. لكن أعضاء الفريق برعوا في التحايل على كثير من هذه القيود، وقدّموا ساعاتٍ من الضحك للجمهور حول تفاصيل حياة السوريين اليومية ومخاوفهم ومعاناتهم وآمالهم، سيّما عندما يتعلّق الأمر بجيل الشباب، لتكون عروضهم بمثابة فسحة التجأ إليها سوريون كُثُر بعيداً عن ضغوط الحياة.

برغم عشرات "الخطوط الحمراء" والقيود، كانت عروض "الستاند أب كوميدي" في "سوريا الأسد" بمثابة فسحة التجأ إليها سوريون كُثُر بعيداً عن ضغوط الحياة. ماذا بعد إسقاط النظام؟

اليوم، هناك آمال في أن تحمل المرحلة الجديدة انفتاحاً أكثر على هذا الفن، وأن تعطيه مساحةً أكبر للحديث والتعبير. وخلال العروض الأولى لفريق "ستيريا"، في الأيام التالية لإسقاط النظام، والتي حضرها المئات في مقاهٍ وصالات متنوعة في دمشق، احتلّت السخرية من رموز النظام الساقط، بمن فيهم "بشار" والأفرع الأمنية و"مملكة الخوف" التي كان السوريون يعيشون فيها، مساحةً كبيرةً من مضمون الدعابات، إلى جانب الواقع الجديد والقلق من المرحلة المقبلة. فتناول الكوميديّون مثلاً صور بشار الأسد التي كانت منتشرةً في كل مكان من البلاد سابقاً، وأجهزة المخابرات التي كانت "تحسب لكل مواطن عدد أنفاسه"، و"ليلة السقوط" وما رافقها من مخاوف وفوضى، وسخروا من ألبومات صور آل الأسد التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي.

يقول الحمصي: "كنا دائماً نقول إننا إن استطعنا الضحك معاً، يمكننا الحياة معاً، وما زلت أقول إنه علينا أن نكون ‘ضحكة البلد’، وعلينا مسؤولية تقديم محتوى ملائم للجمهور الآن وفي كل وقت".

"علينا تفعيل الرقيب الداخلي"

منذ عام 2001، يعمل رامي جبر، في مجال المسرح، وبعدها في صناعة المحتوى. وقبل نحو عام ونصف العام، انضمّ إلى فريق "ستيريا"، ليكون واحداً من أبرز وجوهه. قبل نحو سنة، تعرّض جبر (43 عاماً)، لملاحقة من قبل أحد الأفرع الأمنية سيئة السمعة في سوريا، بسبب عرضٍ قدّمه وتحدّث فيه عن واقع المدارس السورية مقارناً بين حال المدارس الحكومية والخاصة، وهو اليوم يأمل ألّا تتكرّر مثل هذه المواقف التي توحي بمستوى شديد من الرقابة، لا يمكن للكوميديا الارتجالية العمل ضمنه بأريحية.

شارك جبر، خلال الأسابيع الفائتة، في عشرات العروض التي تحدّث خلالها عن مشاهد مختلفة عاشها و/ أو كان شاهداً عليها في سوريا بعد إسقاط النظام، وكيف تعامل السوريون مع الأمر بين محتفلٍ ومشكّكٍ ومتخوّفٍ، مع الحديث بشكل نقدي وفكاهي عن السلطات الجديدة، مثل المقارنة بين الرئيس السابق بشار الأسد، ورئيس السلطة الجديدة أحمد الشرع.


يقول جبر لرصيف22: "مع توقّف مؤسسات الرقابة والقمع، أرى المشهد الكوميدي مفتوحاً على مصراعيه. فالجميع يُعبّر دون قيود أو ضوابط، ولا نعلم بعد ما هي 'الخطوط الحمراء' للمرحلة الجديدة. نبدو كمن يحاول الاقتراب من النار ليجرّب إن كان سيحترق أو لا، وهو أمر جيد حتّى الآن. لكن العمل في مجال الكوميديا يشبه قيادة سيارة من دون مكابح، لذا يجب تفعيل الرقيب الداخلي أولاً، حتّى لا ينجرّ المشهد إلى السخرية والتجريح والتنميط والغوغائية".

ويرى جبر، أنّه "لا توجد كوميديا من دون رقابة، وإلا أصبحت فنّاً منفلتاً لا تهدف إلّا إلى الكوميديا بحدّ ذاتها، وتفقد دورها النقدي والفكري. فكلمة رقابة لا تحمل دوماً معنى سلبياً، وهناك رقابة مجتمعية وذاتية نفرضها نحن على أنفسنا بحكم مهنتنا، وهي ضرورية".

في غضون ذلك، يأمل الكوميديان المنحدر من مدينة حمص، أن تتوسّع مساحة عمل هذا الفن، وأن يكون المشهد المقبل أكثر حريةً، "كي نتكلم ونبوح أكثر كما نحتاج فعلاً، وتكون بوصلتنا الحقيقية هي الناس والبلاد".

"كان تحدّياً هائلاً، فهنا جمهور عاش فعلاً كل التجربة السورية، ولا أريد أن أبدو وكأنني سائح قادم فقط لإضحاكهم دون فهم سياق حياتهم، فلا يمكنني مثلاً الحديث عن الحياة في أوروبا، وكان عليّ كتابة نكات جديدة تماماً"... كيف استقبل السوريون طفرة "الستاند أب" بعد إسقاط النظام؟

"التحديات أكبر اليوم"

من عروض ماري عبيد مع فريق ستيريا


بالنسبة لماري عبيد، وهي أول فتاة تخوض تجربة "الستاند أب كوميدي" في سوريا، وقد انضمّت إلى "ستيريا" منذ بداياته، فإنّ المشهد اليوم بكل تأكيد أصبح مختلفاً. "بدايةً، لمست هذا التغيير كواحدة من جمهور عروض الكوميديا الارتجالية، خاصةً أنني لا أخوض كثيراً في السياسة. كما أنني كمؤدّية شعرت بالراحة لأنّ الحدود التي كانت مرسومةً لنا أصبحت أقلّ بكثير. إلى جانب ذلك، زخم الأحداث بعد إسقاط النظام أتاح لنا مادةً دسمةً لنكتب عروضنا، فأصبحنا كما لو أننا ضمن مسلسل نُحضّر حلقةً جديدةً منه كل يوم"، تقول لرصيف22.

تشير الشابة العشرينية وهي طبيبة أسنان أيضاً، إلى أنّه في الأيام الأولى بعد "السقوط"، كان هناك إحساس عام لدى الفريق بأنّ العمل سيكون أسهل مع قدرة الأعضاء كلهم على التعبير بأريحية عن "الماضي". لكن السؤال الملحّ كان يكمن في مدى القدرة على الحديث عن المستقبل، وحتّى في استمرار السماح بهذه العروض. تتابع: "أشعر بأنّ التحدّي أكبر من قبل، كما أنّ الجمهور بات حسّاساً أكثر، وهناك من يُحتمل أن يعارضوا كل ما نقوم به في حين أنّ آخرين يمكن أن يناصروا أي تجربة جديدة".

يشمل التحدّي الذي تُشير إليه ماري، أيضاً، "الانطباع الخطأ" لكثيرين عن فنّ "الستاند أب"، إذ يحصرونه في كونه "نمطاً هابطاً هزلياً"، ناهيك عن وجود فتاة تخوض غمار هذا العالم، وهو أمر لا يزال جديداً على المجتمع العربي عموماً والسوري خصوصاً، وتالياً قد تلقى معارضةً لا يُستهان بها.

"الخوف من الفشل موجود، وأحاول أن أكون قريبةً من الجمهور وألا أثير حفيظة أي فئة، لأنّ 'الستاند أب' هو فن شارع، ويجب أن يصل إلى الجميع ويلمسهم بطريقة ما، ولديّ في الوقت ذاته آمال كثيرة للمستقبل، أولها أن يصبح هذا الفن قائماً ومعترَفاً به كغيره من أنواع الفنون من قبل الكيانات الرسمية كوزارة الثقافة، وأن يحصل تبادل وتعاون بيننا وبين 'كوميديانز' آخرين في بلدان مثل لبنان، فنقدّم عروضنا هنا وهناك. كما آمل أن يكبر فريقنا مع الوقت، كوسيلة للتعبير عن أنفسنا وعن الناس بشكل إيجابي"، تختم ماري.

كوميديا "الداخل والخارج"

خلال السنوات العشر الأخيرة، لم يتمكّن طارق بالي، وهو كوميدي سوري مقيم في ألمانيا منذ عام 2013، من القدوم إلى سوريا نتيجة الظروف السياسية والأمنية. بعد نحو عشرة أيام من إسقاط النظام، عاد إلى دمشق وعلى الفور قرّر التواصل مع فريق "ستيريا"، وبالفعل شارك في تقديم عدد من العروض معهم.

من عروض فريق ستيريا

يقول بالي، الذي يعمل مهندس اتصالات أيضاً، لرصيف22: "قبل نحو عامين بدأت في مجال 'الستاند أب' في برلين وأوروبا عموماً، وكنت أتابع فريق ستيريا عن بعد وأتواصل مع مؤسسيه في محاولة لفهم الخطوط التي يعملون ضمنها. كانت لافتةً بالنسبة لي الرقابة الشديدة خاصةً في ما يتعلق بالمحتوى السياسي، وأقل منه ربما الاجتماعي، وتالياً كانت لديهم مهمّة صعبة للغاية في الحديث عمّا يريدون دون 'استفزاز' السلطات، فكانوا يعملون على التلميح أكثر من التصريح، وكانوا بحاجة إلى الكثير من الدهاء لإيصال أفكارهم، بعكسنا إذ كنا أحراراً في الحديث في ما نرغب بشكل مباشر وبتعابير واضحة".

"هل تخيّلتَ يوماً أن ترى نفسك تؤدّي عرضاً مع فريق ستيريا في دمشق؟"؛ نسأل طارق، فيبتسم ويجيب: "كنت أعتقد أنني سأموت قبل أن تُتاح لي هذه الفرصة. بمجرد أن حجزت رحلتي من برلين، تواصلت مع شريف، كي أكون معهم في أول عرض تجريبي". ويضيف بالي، أنّ الأمر سبّب له توتراً مشابهاً لما شعر به حين قدّم عرضاً لأول مرة، إذ يرى أداءه أمام "السوريين الفعليين" كما وصفهم، أي من يعيشون داخل البلاد وليس الجمهور الذي اعتاد عليه في برلين، "اختباراً كبيراً". "كان تحدّياً هائلاً، فهنا جمهور عاش فعلاً كل التجربة السورية، ولا أريد أن أبدو وكأنني سائح قادم لإضحاكهم فحسب، دون فهم سياق حياتهم، فلا يمكنني مثلاً الحديث عن الحياة في أوروبا، وكان عليّ كتابة نكات جديدة تماماً"، يُردف.

إلى ذلك، يرى بالي، في الواقع الراهن "فرصةً نادرةً" لتطوير مشهد "الستاند أب" في سوريا، إذ يمكن أن يفتح أفقاً للتعاون بين من هم داخل البلاد ومن هم خارجها، ويشير إلى أنّ كثيرين من "الكوميديانز" السوريين المغتربين يتهيأون للعودة إلى سوريا. وعلى صعيده الشخصي، باتت لديه أفكار جديدة مع انفتاحه على ما يحدث في الداخل، ومحاولته فهم مزاج الناس وما يمكن أن يُضحكهم فعلاً.

وبينما "الخطوط الحمراء" ستتغير دون شك، يبقى السؤال: هل يمكن أن تُلغى تماماً؟ وهو ما يُجيب عنه بقوله: "لا أعتقد، اليوم ننتقد السلطات الجديدة لكن ببعض من الحذر، في حين أنّ الحديث عن النظام السابق كان ممنوعاً تماماً. حدود الانتقاد ليست واضحةً تماماً حتّى الآن، ولا تزال قيد الاختبار، وفي نهاية المطاف ستبقى الكوميديا ملاذاً للتعامل مع كل ما نمرّ به من تجارب صعبة أينما كنّا، وآمل أن يبقى الوضع مستقرّاً دون تدخّل يومي في شؤون الناس وما يقولونه ويفعلونه".

"نريد أن نحلم كما نشاء"

من عروض فريق ستيريا

بالعودة إلى شريف الحمصي، يقول إنه اعتاد خلال السنوات الماضية كتابة عشر نكات، وتقديم نكتتَين أو ثلاث منها فقط والاحتفاظ بالبقية لنفسه. يسترسل: "كنّا نعمل في ظلّ نظام الأسد الذي كان ربما الفعل الأصعب على الإطلاق. اليوم بالتأكيد نحن نخاف من المجهول وهو أمر 'طبيعي' في ظلّ أيّ تغيير سياسي بهذا الحجم، وكأننا وسط رمال متحركة فلا يسعنا الحركة كثيراً وبسرعة. حتّى اليوم، لم نتعرّض لأيّ مضايقات من السلطات الجديدة، ونأمل أن يستمر الوضع هكذا، وأن نتابع عروضنا بحرّية".

"لا توجد كوميديا من دون رقابة، وإلا أصبحت فنّاً منفلتاً لا تهدف إلّا إلى الكوميديا بحد ذاتها، وتفقد دورها النقدي والفكري. فكلمة رقابة لا تحمل دوماً معنى سلبياً، وهناك رقابة مجتمعية وذاتية نفرضها نحن على أنفسنا بحكم مهنتنا، وهي ضرورية"... أيّ مسؤولية على فنّ "الستاند أب" في "سوريا الجديدة"؟

ويعتقد الحمصي، أنّ التغيير الحاصل في سوريا قد يفتح الباب لأعضاء فريق "ستيريا"، نحو أفق جديد، سواء في المحتوى المقدّم، أو بإعطائهم فرصاً لتطوير عملهم وأدائهم من خلال السفر والانفتاح على العالم، وهو أمر لم يكن متاحاً لمعظم السوريين/ ات في السنوات الأخيرة، ما خلق فجوةً كبيرةً بين أولئك المقيمين داخل البلاد وخارجها. لكن الكوميدي السوري يأمل في أن تساعد المرحلة المقبلة في "ردم هذه الفجوة"، وحتّى الحديث عمّا كان يعيشه السوريون داخل سوريا، لجمهور مقيم خارجها.

ويختم: "كان هناك محرّك أساسي يمنعنا من الحلم، والآن اختفى. أتمنى أن نكون من الآن فصاعداً قادرين على أن نحلم كما نشاء، وأنا بشكل شخصي أطمح إلى أن أكتب عرضاً كاملاً خاصّاً بي وأقدّمه أمام الجمهور في كل مكان".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image