ولد الجولاني في السعودية ثم انتقل إلى دمشق، مع أبيه اليساري الناصري حسين الشرع، الذي يقال إنه كان متأثراً بحزب البعث العراقي، ولم يكن الأب إسلامياً متشدّداً كما يُتوقع، وربما كان لمعايشة الجولاني فشل تيار أبيه العروبي وعجزه عن حماية دولة عربية مثل العراق، دافعاً له حتى يمشي في الجهة المعاكسة تماماً، ويذهب للجهاد ضد قوات الاحتلال الأمريكي، ليُسجن/يتتلمذ في "بوكا"؛ السجن الشهير الذي ضمّ أشهر قادة "القاعدة"، ليخرج بعدها متابعاً المسيرة الجهادية التي مرّت بالكثير من التقلبات والانفصالات والتغيرات، بدأت من عدم الظهور إلى الظهور دون الوجه، ثم إظهاره بالعباءة ثم بلباس عسكري، حتى وصوله إلى قصر الشعب بالطقم وربطة العنق... هذه السيرة المتقلبة بتعقيداتها تتشابه مع مسار الثورة السورية، التي إن أحصينا انعطافاتها المفاجئة وربما العشوائية، قد نراها متجسّدة في شخصية أحمد الشرع/ أبو محمد الجولاني.
صك غفران لمن يطيح بالأسد
صحيح أنّ الديكتاتور هو من يقمع المجتمع ويدجّنه ليثبت حكمه ويطبق شموليته على أرض الواقع، لكن إلى جانب هذه الحقيقة يوجد حقيقة أخرى؛ هي أن المجتمع يسهم في تعزيز الميول الاستبدادية لدى القادة الجدد أو في الحد منها، من خلال النقد والتمرّد وعدم إعطاء الثقة الكاملة لأي شخص كان، مهما بدت عليه ملامح حسن النية وأقوال وأفعال، إذ يقتضي المنطق إبقاءه تحت الإقامة الجبرية للمراقبة النقدية، للحفاظ على إحساسه بالمسؤولية تجاه الناس، والإبقاء على نسبة صحية من الخوف، الذي يذكّره بالانتخابات القادمة، وبالطرق القانونية والدستورية للاحتجاج وحجب الثقة والعزل وغيرها.
بغض النظر عن خلفية الجولاني الأيديولوجية، فإن سلوك التمجيد يغذّي نزعة السلطة داخله، ومن الضروري أن تتغير نظرة الناس تجاه الحكام، بحيث يُعتبرون بشراً عاديين مهمتهم خدمة المجتمع، وليس الركوب عليه
لكن يبدو أن العديد من السوريين لم يستفيدوا من التجارب السابقة، فالمدح والتمجيد والتأليه لدى الحاكم السابق لم ينمّ في داخله سوى شعور الراحة وصفة النرجسية، إذ يبالغ كثيرون في إظهار الولاء للعهد الجديد وإطلاق ألقاب تعظيم على أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني، وقد يكون ذلك مفهوماً في اللحظات الأولى لسقوط أعتى ديكتاتورية في العصر الحديث وأكثرها إجراماً في التاريخ، فمقدار الوحشية والشمولية لنظام الأسد، أعطت -باللا وعي- صك غفران لتاريخ من يزيحه ويخلص البلاد والعباد منه، وقد يكون مفهوماً في لحظات النشوة والاحتفال، وخطيراً فيما لو تمّ البناء عليه في المدى الطويل.
مع التذكير أنّ هيئة تحرير الشام هي من أطلقت رصاصة الرحمة على النظام المتهالك، بفعل نضالات السوريين الأحرار السلمية والمدنية والسياسية والأدبية والعنفية منذ السبعينيات وحتى الثامن من ديسمبر 2024، هو فعل تراكمي وليس كبسة زر.
تمجيد= استبداد
وبغض النظر عن خلفية الجولاني الأيديولوجية، فإن سلوك التمجيد يغذّي نزعة السلطة داخله، ومن الضروري أن تتغير نظرة الناس تجاه الحكام، بحيث يُعتبرون بشراً عاديين مهمتهم خدمة المجتمع، وليس الركوب عليه.
وليس في تعداد أخطاء "حكومة الجولاني" في إدلب والتحذير منها وتسليط الضوء عليها، خيانة أو استعجالاً، وإنما تذكير بها، وليعلموا أنّ هنالك من يراقب أداءهم ويعارض سلبياتهم، وهذا ما يجب الحفاظ عليه في الدستور الجديد وفي الشكل الجديد للدولة، كائناً من كان الرئيس، يجب أن تكون حرية المعارضة ليس مكفولة فقط وإنما مقدسة أيضاً.
فجهاز الأمن العام في إدلب، الذي كان يقوده أبو أحمد حدود (القائد الحالي للاستخبارات السورية) اتبع أسلوباً مختلفاً عن نظام الأسد في التعامل مع شهادات وفاة المعدومين في سجونه ومعتقلاته.
وبدلاً من إرسال الشهادات إلى دائرة الأحوال الشخصية، كما كانت تفعل مخابرات الأسد، كان عناصره يبلغون زوجات الضحايا بضرورة دخولهن في العدة، وكأنه استنساخ واضح لتجربة الأسد بنكهة إسلامية، وهنا طالب الصحفي السوري المختص بالجماعات الجهادية حسام جزماتي، رئيس الاستخبارات الجديد أنس خطاب، بتحديد مواقع المقابر الفردية والجماعية للضحايا نتيجة المحاكمات السرية التي قام بها، إن كان يرغب في بناء جهاز أمني استخباري مختلف عن سلفه البائد.
لم يعتذر
الكثيرون لم ينسوا أنّ الشرع هو الجولاني الذي ارتكب المجازر والجرائم في رحلته الجهادية، وهو بدوره لم يعتذر عنها أو يقدم نقداً ذاتياً، وقد اكتفى بالتلميح "تلك مرحلة قد مضت.."، لم يعتذر عن جرائم الاستعباد الجنسي وخطف الأيزيديات وبيعهن.
قد يبدو الأمر صعباً على أرض الواقع، خاصة أنه لم يتلفظ بكلمة "ديمقراطية" حتى الآن، بل تكلم -هو وحكومته- بنقيضها، إذ أجاب على الأسئلة التي تخص الدستور الجديد بأنه سيتركها لما أسماه "لجان من المختصين في الشأن"، هذا ما يُشعل نار الشك والتساؤلات: من هي هذه اللجان؟ من يعينها؟ هل تُعين على شاكلة التعيينات التي نراها الآن؟ لنبرّرها تحت عنوان "ضرورات الانسجام في هذه المرحلة"؟ فلو كان الجولاني يسعى لدولة ديمقراطية كان يفترض أن يكون الجواب: "مؤتمر وطني جامع لجميع القوى والتيارات السورية"، أما كلمة "لجان ومختصين" فلا تذكرنا سوى بدوامات ومتاهات النظام البائد.
يمكن تناول مراوغة/ براغماتية الجولاني من منظور آخر، وهي أنّ الجولاني لم يعد مقتنعاً بالسلفية الجهادية منذ سنوات، وليس في وارد أن يقيم دولة إسلامية متشدّدة، وإنما يستغل "الجهادية" لتحقيق أهدافه "السلطوية"، فماذا سيكون مصيره أو رصيده لو تخلى عن جهاديته؟
الجولاني... المكوّع الأكبر
مع سقوط الأسد، برز مصطلح التكويع في الفضاء السوري العام، ذلك لتوصيف تكويع موالي الأسد إلى موالين للجولاني، بين ليلة وضحاها، لكن نسي كثيرون أنّ الجولاني كان "المكوّع الأكبر" من العباءة إلى "الطقم والكرافة"، وهو يحيّر جميع الأطراف باتجاه تكويعته "يميناً أم يساراً؟".
فهو يقول إنّ سوريا ستكون لكل السوريين، لكنه يرفع ضباطاً غير سوريين، ومنهم مدنيون بالأصل ولم يجروا "حتى معسكر تدريب جامعي" كما يقول أحد الناشطين. يؤكد أنه سيقوم بحل "الهيئة"، لكنه يعين ضباط الهيئة في هرم الاستخبارات والجيش، ووزراء الهيئة في الحكومة، عندها يصبح حلّ الهيئة لا طعم له ولا رائحة، فقد تحولت الهيئة إلى دولة.
يقرّ أنّ حكم إدلب يختلف تماماً عن إدارة سوريا كلها فـ "إدلب ليست سوريا"، وينكر نيته تعميم التجربة في إدلب على عموم البلاد، لكنه يعتبر تجربة إدلب نواةً يعتمد عليها! ويعين وزراء حكومة إدلب (حكومة الإنقاذ) وزراءً في الحكومة السورية! يعتبرها حكومة تصريف أعمال لكنها تتجاوز كل صلاحيات تسيير الأعمال، يصفه أحد الأصدقاء "يغمز عاليسار ويكوع على اليمين ".
يمكن تناول مراوغة/ براغماتية الجولاني من منظور آخر، وهي أنّ الجولاني لم يعد مقتنعاً بالسلفية الجهادية منذ سنوات، وليس في وارد أن يقيم دولة إسلامية متشدّدة، وإنما يستغل "الجهادية" لتحقيق أهدافه "السلطوية"، فماذا سيكون مصيره أو رصيده لو تخلى عن جهاديته؟ الجواب: لا شيء، وهو يسترضي جماعته وجمهوره بأشياء بسيطة لا وزن حقيقي لها، مثل تعديلات المناهج وتغيير أسماء وتعيينات يمكنه التراجع عنها فيما بعد في سياق التغيير، فقد احتلّ تعديل المناهج السوشال ميديا، وحول الأنظار عن أي حدث آخر.
فلا يجب الخوف من أسلمة الدولة، أكثر من السيطرة عليها والاستبداد بها وبنا من جديد، خاصةً أنّ التاريخ ليس في صالحنا، فقد بينت الدراسة التي عمل عليها كرم شعار وسامي عقيل في معهد الشرق الأوسط، أنّ احتمالية التخلي عن السلطة طوعاً (بعد السيطرة عليها عسكرياً) هو صفر تقريباً، وخلال التاريخ السوري الحديث، كل حاكم وصل للرئاسة بالقوّة لم يترك بغير القوّة، باستثناء أديب الشيشكلي الذي غادر الحكم بسبب خطر اندلاع الثورة، وهرب للبرازيل وقتله شخص سوري بعد عشر سنوات على انتهاء حكمه.
ما يمكن الاستفادة منه في حالتنا السورية، ليس التسليم بالأمر الواقع والاستسلام، بل يجب معرفة أنّ حق التعددية السياسية وحق المواطنة وممارسة الديمقراطية وتداول السلطة يؤخذ بالقوة، ولا يجب توقع منحه على طبق من فضة، لذا يجب أن نجهّز أنفسنا لمواجهة مشروع الاستبداد الجديد، فالتاريخ والحاضر يدلان أنّ الشرع ساع للتفرد بالسلطة، وإيحاءاته وكلامه ووعوده ولطفه قد يكونون مجرد شهر عسل سينتهي قريباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ 23 ساعةاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته