"الأهوال تتحول فجأة إلى ضحك بطارئ من طوارئ التغيير والتبديل التي تتعاقب في أيام النصر والهزيمة"، لن تجد كلمات أفضل من هذه الكلمات التي أوردها الأديب المصري الراحل عباس العقاد في كتابه "جحا الضاحك المضحك"، للتعبير عمّا نشهده اليوم من حرب اسرائيلية همجية وما تتضمنه يومياً من مجازر ومشاهد دموية.
فعلى اختلاف ثقافات البشر، ومواقفهم وحتى "أجنداتهم"، تجدهم في أي حدث متفرقين بين مؤيد ومعارض، وهو أمر ليس بالغريب. لكن، بالنسبة لأصحاب القضية، يصعب فهم تحوّل البعض إلى تأييد الجلاد لا الضحية، خاصةً، ونحن نتحدث عن أكثر من 35 ألف ضحية سقطت، وأكثر من 10 آلاف مفقود، وأكثر من مليون ونصف المليون نازح جراء الحرب الإسرائيلية على غزة.
ومع طول أمد الحرب، وازدياد المشاهد الواردة من غزة فظاعة، بما ينعكس على المتابعين خوفاً ورعباً، وأحياناً إحباطاً ويأساً، يلجأ البشر إلى أساليب متعددة لـ"المقاومة" أو "التكيف" ومحاولة الهروب من المخاوف وآثارها على الصحة النفسية. أحد هذه الأساليب هو "السخرية".
وقاحة؟
في حين يرى البعض السخرية في مثل هذا التوقيت "وقاحة"، ويراها غيرهم غير مجدية، يبدو الهجوم الذي يشنه البعض على من يعملون بمجال "الستاند أب كوميدي" واعتبار النكات التي يطلقونها خلال عروضهم فعلاً غير سوي، وأمراً غير منطقي. علماً أن البعض يغالي في انتزاع صفة الإنسانية عنهم أو اتهامهم بالحقارة، أو "بيع القضية" من دون أدنى وعي بأنهم لا يقومون إلا بعملهم الذي يشكّل مصدر دخلهم وشغفهم في الوقت عينه وأحياناً متنفسهم الوحيد في مواجهة ما يحدث.
لماذا ينكر البعض على "الستاند أب كوميديان" العرب استئنافهم عملهم في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة؟ هل فعلاً "السخرية" في هكذا ظروف "وقاحة"؟
في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، وفي ظل عدم وضوح الرؤية حول أمد الحرب، توقف العديد من "الستاند أب كوميديان" العرب عن تقديم عروضهم باعتبار أن الظروف غير ملائمة. لكن الحرب امتدت لأسابيع فشهور، وليس لدى غالبيتهم عمل آخر يعيشون منه، كما لم يجدوا شيئاً آخر يمكنهم فعله لدعم أهل غزة - علاوة على النشر والحديث عما يجري عبر حساباتهم على السوشال ميديا - فعاد غالبيتهم إلى تقديم عروض على استحياء.
وعلى الرغم من أن عدداً من هؤلاء الكوميديين العرب خصص فقرات للحديث عما يحصل في غزة، ومبالغ من عائد العروض لجهات إغاثية تنشط في غزة، تعرضوا لهجوم واتهموا بعدم الاكتراث بما يحدث للغزيين. أحد هؤلاء الذين تعرضوا لما هو أبعد من الانتقاد والهجوم، بالتخوين، هو الكوميدي الفلسطيني علاء أبو دياب. علماً أن صاحب "كتيّب الحرب" ضمَّن عروضه محتوىً سياسياً متعلقاً بالأحداث.
وبغض النظر عن السجال الدائر حول "تصدره" الأحداث، يبقى الساخر المصري باسم يوسف أحد الأمثلة على ما يمكن أن يفعله "الستاند أب كوميديان" لأجل دعم غزة إذ ينتهز كل فرصة للحديث عن حقيقة الجرائم الإسرائيلية وبشاعتها في غزة وموقف المجتمع الدولي منها، والكيل بمكيالين ومحاولة قلب الحقيقة.
تواصل رصيف22 مع "الستاند أب كوميديان" المصري محمد أشرف الذي لا يترك مناسبة إلا يرفع من خلالها علم فلسطين أو يتكلم عنها، في برنامجه أو حتى في الجولات والحفلات التي يقيمها ضمن فريق "The elite". يؤكد أشرف صعوبة إضحاك الناس وخلق السخرية في هكذا ظروف نظراً لفظاعة الحرب المستمرة على قطاع غزة.
وعن تكريس صفحاته الشخصية للنشر عمّا يجري في فلسطين، يوضح أشرف أن ذلك يندرج ضمن مسؤوليته كشخص لديه قاعدة جماهيرية، فهو يشعر أنه مسؤول عن توعية الناس بحقيقة ما يحدث، لافتاً "منذ أن أنشأتُ حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي وأنا دائم الحديث عن فلسطين"، عازياً ذلك إلى تنشئته وتحديداً إلى "الدور الكبير الذي لعبته والدتي في هذا الخصوص، وأننا، ككل أسرة مصرية أو عربية، نعتبر أن فلسطين جزء لا يتجزأ من مصر والعالم العربي، وأنه لا يمكن اعتبار ما يجري في غزة شأناً لا يخصنا وإنما هو مصاب يضرب الجميع كما لو أنه في الداخل المصري".
يقول أشرف إن حديثه الدائم عن فلسطين في حفلاته ضمن فريق "The elite" التي أقيمت في العديد من العواصم الأوروبية في الفترة الأخيرة، ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي، "هو أقل ما يمكن تقديمه لفلسطين"، معتبراً أنه كمن يحمل لافتة داعمة لغزة في الغرب "لأن هناك عدداً لا يُستهان به يمكن أن يشاهد ما أنشره، والتأثير هو أقل ما يمكن أن أقدمه لما يجري اليوم من حرب إبادة جماعية ضد أهلنا في غزة، ولو كان باستطاعتي أن أفعل أكثر لما ترددت أبداً".
"طبيعة عملي القائمة على إضحاك الناس، منعتني في الأيام الأولى للحرب من العمل إذ لم أكن قادراً حتّى على القيام بأمور الحياة اليومية المعتادة. ولكن منذ قررت رفع الصوت والتحدث عمّا يجري في كل حفلة أو مناسبة أو على مواقع التواصل، شعرت بأن هذا ما عليّ فعله لا الانزواء والتوقف عن العمل"
وعن الهجوم على "الستاند أب كوميديان"، يقول أشرف إنه "يتفهّم وجهة نظر المنتقدين، لكن طبيعة العمل تفرض نفسها حتى في مثل تلك الظروف"، مشدداً على أن هذا مصدر دخله ووجد نفسه مضطراً لاستئناف عمله بعد أن أجّل العديد من العروض في بداية الحرب.
ويضيف: "طبيعة عملي القائمة على إضحاك الناس، منعتني في الأيام الأولى للحرب من العمل إذ لم أكن قادراً حتّى على القيام بأمور الحياة اليومية المعتادة. ولكن منذ قررت رفع الصوت والتحدث عمّا يجري في كل حفلة أو مناسبة أو على مواقع التواصل، شعرت بأن هذا ما عليّ فعله لا الانزواء والتوقف عن العمل"، متمنياً أن تنتهي الحرب في أقرب وقت وتتحرر فلسطين بالكامل حتى "تعود الحياة إلى طبيعتها".
السخرية كوسيلة دفاعية
تقول المختصة في علم الأعصاب الإدراكي، سماح كركي، لرصيف22، إن السخرية واحدة من الوسائل الدفاعية التي قد تلجأ إليها أدمغتنا لمواجهة المواقف الصعبة، بل هي "وسيلة هامة بالنسبة للبعض لتخطّي المخاوف والمشاعر المتضاربة، أولاً لأنها جامعة للبشر انطلاقاً من كون الضحك أمراً جامعاً. كما أنها طريقة مقاومة فعّالة في وجه الجلاد".
تشترط كركي لذلك "أن تكون السخرية ذكية، وتناصر الضحية"، مشددةً على أن "السخرية قادرة على اختراق سد قناعات البشر الذي يكون حصيناً في غالبية الأوقات، ولكن في حالة السخرية يجد المتلقي في ثقة الساخر ما يجعله أكثر إقناعاً، على اعتبار أنه قادر على التحدث عن أمر جلل وتحويله إلى مزحة وهو وما يدلل على أن الساخر يدري فعلاً ماذا يقول أو يفعل، فنتقبل بعض الآراء بطريقة أسهل من الطريقة الأكاديمية في بعض الأحيان".
وعن مفهوم قوة السخرية، تعتبر كركي أن السخرية على اختلافها، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك، هي أمر تاريخياً كان له وقعه وخصوصاً في الأزمات. تستشهد في سبيل التدليل على ذلك بمسرحية زياد الرحباني "فيلم أميركي طويل" التي تطرق فيها الفنان اللبناني إلى موضوع حساس وهو السيارات المفخخة والاغتيالات، وكيف تقبل الجمهور المسرحية بأسلوبها الساخر رغم صعوبة المشهد.
"السخرية وسيلة هامة بالنسبة للبعض لتخطّي المخاوف والمشاعر المتضاربة، أولاً لأنها جامعة للبشر انطلاقاً من كون الضحك أمراً جامعاً. كما أنها طريقة مقاومة فعّالة في وجه الجلاد"
وتضيف: "في السخرية، يجب أن ننظر للقائل، فهو سيكون فعّالاً وجاذباً أكثر للجمهور في حال كان هو الطرف الضعيف من القصة، وهنا أهمية أن يتم رفع الصوت وطرح ما يحدث في غزة من قبل 'الستاند أب كوميديان' لما لذلك من وقع إيجابي من شأنه التأثير على الرأي العام"، مردفةً "الرأي العام يتعاطف مع الضحية، ويجب أن تحسن استغلال موقعك كضحية على ألّا تتمسك به، فتتحول تماماً كما يحصل اليوم مع إسرائيل التي تحاول تصدير نفسها كضحية رغم كل ما ترتكبه من جرائم بحق الشعب الفلسطيني بالارتكان إلى ما تعرض له اليهود في العصور السابقة من اضطهاد".
وهي تتابع: "الساخر شخص قادر على التعبير عن مشاكله، الشخصية والجمعية، بصوتٍ عالٍ. وفي الغالب، لا يخجل من مشاركة الناس فيها. لذلك، فإنه يجب أن يستغل عمله وجماهريته في حفلاته أو حتى على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل إيصال موقفه واستغلال انجذاب الناس إليه وإلى ما يقول".
في الختام، لعل التكيّف مع الظروف والصعاب والتعامل معها من الأمور التي تختلف من شخص لآخر، فإذا كانت طريقة البعض قائمة على السخرية للتعبير عن حقيقة مشاعره ولكن بأسلوبه الخاص، أو حتى في طريقة تعبيره ودعمه لقضية ما، فهذا الأمر يجب أن يُترك للشخص نفسه بحيث لا يفسد الاختلاف في طريقة التعبير للود قضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه