قبل أيام كنت في ندوة لمناقشة كتاب صدر حديثاً في القاهرة، التقيت فيها بمجموعة من الأصدقاء والمعارف ممن لم أرهم منذ مدة طويلة. طبعاً، أخذت سوريا الحيّز الأكبر من الأحاديث التي تبادلتها معهم، مباركات برحيل الطاغية وأسئلة عن وضع السوريين في مصر وأسئلة أخرى حول خططي الشخصية. إحدى المعارف قالت لي: "لا أعرف، هل أبارك لك أم أقدم التعازي؟". أجبتها بهدوء: "مهما كان القادم سيئاً فلن يكون ولا للحظة أسوأ مما كان". هذه السيدة تنتمي إلى مجموعة من المثقفين المصريين والعرب المصدّقين لشعار "سوريا قلب العروبة النابض"، هذا الشعار الذي استخدمه هؤلاء للتغاضي أو لتبرير كل جرائم الأسد ضد السوريين، وكأن الشعب السوري لا قيمة له مقابل أن يبقى شعار العروبة ومقاومة إسرائيل موجوداً، رغم أن النظام السوري لم يقم بأي فعل ضد إسرائيل طيلة عقود من الزمن.
افرحوا معنا إن استطعتم، أو ابكوا معنا، فنحن نبكي الآن عن ستين عاماً من القهر والخوف.
كنت أعلم أن التعزية التي تريد تلك السيدة تقديمها لي تأتي من تلك الخلفية، رغم أنها تعلم موقفي جيداً من نظام الأسد، لكن العماء الإيديولوجي الذي تعيش به كان يمنعها من رؤية فرحي بخلاص سوريا مما ابتلت فيه منذ أكثر من خمسين عاماً.
اندهشت السيدة من ردّي عليها، وسألتني: "ألست خائفة من سيطرة الإرهابيين على سوريا؟!". فكّرت بالمجازر التي ارتكبت في سوريا منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، فكّرت بسوريا المدمرة لوجستياً ومجتمعياً وخدمياً، بالبراميل المتفجرة وهي تسقط فوق رؤوس السوريين، بالمجازر الجماعية التي ارتكبت في البيضا والحولة وكرم الزيتون، بمئات الجهاديين الذين أفرج عنهم نظام الأسد واحتفظ في معتقلاته بالمدنيين والمتعلمين والمثقفين، فكّرت بمئات آلاف المفقودين والمغيبين، بالمقابر الجماعية التي ما تزال تكتشف بالمدن السورية حتى الآن، فكرت بسجن صيدنايا والسجون الملحقة بالأفرع الأمنية وتلك المنتشرة في كل مكان من سوريا البائسة، فكّرت بسوريا البائسة التي تهجر من شعبها ملايين، عاش بعضهم في خيم بأسوأ الظروف الإنسانية وأكثرها انحطاطاً، وغرق بعضهم في البحر وهم يحاولون الوصول إلى بلاد آمنة، ووصل بعضهم إلى تلك البلاد ولم يتمكنوا من الاندماج، فأصابتهم العلل والأمراض الجسدية والنفسية.
كنت أريد حقي كمواطنة وليس كعلوية؛ لم يكن الوطن لمواطنيه، لم يكن الوطن للسوريين الذين لم ينظر إليهم أحد بوصفهم مواطنين يوماً، وحدها الثورة عام 2011 أعادت هذا الأمل
فكّرت بمن بقي في داخل سوريا وعاش الفقر والفاقة والظلام والبرد والجوع والحزن والقهر والقمع، فكّرت بآلاف صور الشباب المعلقة علي جدران المدن والبلدات والقرى في الساحل السوري، نعوات لمن ماتوا كي يحتفظ الأسد بمنصبه وبقدرته على تجريف سوريا من كل خيراتها، فكّرت بكل هذا الإجرام الذي كان يعرض على الهواء مباشرة ويراه العالم أجمع، وظل صامتاً لمدة أربعة عشر عاماً لم يكن للسوريين فيها أية قيمة ولم يكن لسوريا، سليلة أقدم حضارات البشر، أية قيمة، ثم التفت نحو السيدة وسألتها: "هل يمكن أن تشرحي لي ما هو الإرهاب قبل أن أجيبك إن كنت خائفة أم لا"؟.
هل أنا خائفة؟ لم يكن لي يوماً حق في وطني. منذ تفتح وعيي على العالم وأنا أنتقل من مكان إلى آخر، لم يكن لدى عائلتي (التي تنتمي بيولوجياً للمذهب العلوي وتنحدر من ريف الساحل السوري) بيتاً ملكاً لها في دمشق حيث عمل والدي. كنا ننتقل من بيت مستأجر إلى آخر، حتى حين غادرت منزل والدي واخترت حياتي الشخصية لم يتغير أي شيء علي. لم أتمكن يوماً من شراء بيت ولو صغير، لم يكن دخلي يتيح لي ذلك، حتى البيت الذي كان يحق لي أن أمتلكه أخذوه، قال لي يومها أحد الأصدقاء: "احكي قصتك لأي ضابط أمن بيرجّعلك البيت وفوقه حبة مسك، إنت علوية معقول ما بتعرفي حدا؟"؛ ربما كنت أعرف الكثير لكنني لم ألجأ لأي أحد يوماً من أجل شأن شخصي. كنت أريد حقي كمواطنة وليس كعلوية؛ لم يكن الوطن لمواطنيه، لم يكن الوطن للسوريين الذين لم ينظر إليهم أحد بوصفهم مواطنين يوماً، وحدها الثورة عام 2011 أعادت هذا الأمل لولا أن ما رسخه استبداد آل الأسد كان قد ترسّخ في المجتمع فرفض كثر المطالبة بالمواطنة وفضلوا البقاء رعايا في مزرعة آل الأسد، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه.
هل أنا خائفة؟! منذ خروجي من سوريا في أول عام 2012 وأنا أبحث عن مكان لي في هذا العالم، قضيت سنوات وأنا في المكان وخارجه، في الانتماء وخارجه، كما لو أنني أعيش في نفق لا أستطيع عبوره إلى جهة الضوء ولا أتمكن من العودة. كان علي أن أبني وطناً وحياة وتفاصيل، أبني؟!! في الحقيقة أنا استعرت كل ذلك. استعرت الوطن واستعرت صداقات واستعرت حياة، وارتديت كل ذلك كما لو أنه ثوب جديد لا أعرف إن كان يناسبني، أردته أن يناسبني.
هل أنا خائفة؟ نعم خائفة ومثلي ملايين السوريين. ذلك أن حرية الموتى مرعبة، حرية فاقدي الأمل، حرية المحكومين بحكم مؤبد، خائفون من الفوضى من الانتقام من الطائفية من التطرف من العودة من الحياة، خائفون من كل شيء
"إن التأقلم ليس تقليداً، بل هو قوة المقاومة والاستيعاب"، يقول غاندي. كنت أحاول أن أتأقلم لأستمر في العيش، لأقاوم أثر قوة الفقد والخيبة، لأقاوم ذلك الموت الذي كان يعيش معي كما لو أنه رفيق سكني. هكذا في وسط النفق اخترعت نوافذ، ورأيت الضوء يغمر وجهي لكن قلبي كان يثقل، يوماً بعد يوم تحوّل إلى صخرة حتى أصابه العطب، بينما روحي كانت أكثر هشاشة من ورقة شجر يابسة، ومشاعري كانت تحتاج دائماً لعكازات تستند إليها كي لا تتعثر أو تتوه.
تخيلوا امرأة خمسينية تبحث عن عكازات لأحاسيسها كي لا تسقط في هاوية الموت. حين يفقد المرء وطنه يفقد معه انتماءه، لن تعوضه أوطان مستعارة، ثمة ما سيبقى ناقصاً، ذلك أن الروح تبقى تائهة لا مستقر لها؛ حين يعود الوطن تهدأ الروح وتستكين.
كان حالي هو حال السوريين جميعاً. صحونا ذات يوم واكتشفنا أن ما كنا نظنه وطناً لم يكن سوى مزرعة لآخرين، وحين حاولنا كسر ذلك وتفكيكه، تم كسرنا نحن وقطعت آخر الروابط مع فكرة الوطن. لم يعد ثمة احتمالات لبحث الفكرة. كل شيء ثابت ومغلق وصامت، تماماً كما لو أنه مقبرة. هل دخلتم يوماً ما مقبرة في الظلام؟ هل اختبرتم ذلك الإطباق على الرئتين الذي يخلفه هول الثبات في مقبرة ليلية؟
تخيلوا امرأة خمسينية تبحث عن عكازات لأحاسيسها كي لا تسقط في هاوية الموت. حين يفقد المرء وطنه يفقد معه انتماءه، لن تعوضه أوطان مستعارة، ثمة ما سيبقى ناقصاً، ذلك أن الروح تبقى تائهة لا مستقر لها؛ حين يعود الوطن تهدأ الروح وتستكين
تلك كانت حالنا مع "سوريا الأسد". اسألوا أي سوري الآن عن مشاعره قبل الثامن من ديسمبر، أي سوري ممن لا يرتعدون خوفاً (ثمة سوريون يرتجفون من الخوف الآن، سوريون كانوا يعتقدون أنهم حراس تلك المزرعة بكل ما للحارس من مزايا تافهة)، اسألوه عن كتمة الثبات في المقبرة، عن الجدران المصمتة، عن دوائر الخوف المتداخلة حتى التوهان. سيقول لكم أي سوري لقد بدأنا نتنفس، دعونا نلتقط أنفاسنا ونبتهج قليلاً بتخفّف رئاتنا من الثقل، افرحوا معنا إن استطعتم، أو ابكوا معنا، فنحن نبكي الآن عن ستين عاماً من القهر والخوف. نبكي عقوداً من ضرب رؤوسنا وأجسادنا بالجدران المصمتة، نريد أولاً أن نرى ابتسامتنا تتدحرج على الطرقات في سوريا، نريدها أن تسبق دموعنا، نريد أن نوضب لحياتنا الجديدة، أن نجهز حقائب العودة، أن نقول وداعاً لذلك الرحيل الطويل. كانت بلادنا مقبرة. ولم يكن أمامنا أي احتمال.
هل أنا خائفة؟ نعم خائفة ومثلي ملايين السوريين. ذلك أن حرية الموتى مرعبة، حرية فاقدي الأمل، حرية المحكومين بحكم مؤبد، خائفون من الفوضى من الانتقام من الطائفية من التطرف من العودة من الحياة، خائفون من كل شيء، لكن خوفنا اليوم مفتوح على احتمالات متعددة، خوف محفز ومثمر، كانت سوريا مقبرة ونحن سنحاول اليوم أن نحولها إلى حديقة إن استطعنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ 11 ساعةكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ يومينراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومينعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 6 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...