شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ميثاق النسيان أم عدالة الذاكرة؟… أي تجربة إسبانية ستختارها سوريا؟

ميثاق النسيان أم عدالة الذاكرة؟… أي تجربة إسبانية ستختارها سوريا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

كان لقاءً في منزل أندلسي الطراز في إشبيلية جمعني مع ماريا، صديقتي الإسبانية. وأثناء بحثنا عن بقعة ضوء دافئة نركن إليها لنكمل حديثنا عن السياسة والدين والقضايا النسوية، باغتُّها بسؤال فرضه عليّ سقوط نظام الأسد في سوريا في كانون الأول/ديسمبر 2024، عن ذكرياتها حول حقبة فرانشيسكو فرانكو المريرة. كانت محاولتي هذه تهدف إلى رسم سيناريو لمستقبل هذا البلد المنهك على الضفة الأخرى من المتوسط، مستنداً إلى تجربة إسبانيا، التي لا تشترك مع سوريا في تاريخها الأموّي فقط، بل أيضاً في تجربة الديكتاتورية والحرب الأهلية، وما كان لها من تأثير عميق على الهوية.

ماريا، السخية في حديثها ووصفاتها الشهية، لم تبخل عليّ بإجابة صادقة حين قالت إن هناك عرفاً اجتماعياً ضمنياً يفرض عدم التطرّق إلى الحرب الأهلية الإسبانية، تلك الحرب التي استمرت ثلاث سنوات عجاف، من 1936 إلى 1939، وراح ضحيتها ما يقرب من مليوني شخص بين قتيل وجريح ومفقود.

ومع ذلك، تحمل ماريا ذكريات عن الأثر العميق الذي تركته هذه الحرب على عائلتها. فقد شاهد والداها فصولاً مؤلمة من هذه المأساة. كما تتذكر ماريا بوضوح تأثيرها على والدتها، التي عانت المجاعة والتشرّد خلال الحرب الأهلية. هذه التجارب تركت بصمة دائمة عليها؛ إذ ظلت تتجنب أخبار المعارك، حتى لو كانت مجرد مشهد في فيلم. ولم تقتصر تداعيات الحرب على ذلك، بل أدمنت والدتها عادة تخزين الطعام خوفاً من شبح حرب قادمة، واستمرت هذه العادة معها حتى وفاتها.

وتوضح ماريا في ختام حديثنا عن هذه السنوات ثقيلة الظل على الروح، أنها من الجيل الذي نشأ على ميثاق النسيان، والذي أقرّه أول برلمان إسباني منتخب بعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرانكو، عام 1977، الذي أصدر عفواً عاماً عن معارضي الدكتاتورية، لكنه في الوقت ذاته وفر الحماية لمسؤولي النظام من المحاسبة القانونية على انتهاكات حقوق الإنسان.

ذاكرة في مواجهة النسيان

"ميثاق النسيان"، بما يحمله الاسم من ثقل درامي، كان أحد الأعمدة الرئيسية في عملية التحول الديمقراطي بإسبانيا، وظل يحظى بدعم واسع على مدار جيل كامل. لكن، لأن الألم لا ينام والجراح تستيقظ؛ فقد تمكن معارضو هذا القانون من الدفع نحو إصدار قانون آخر لا يقل درامية في تسميته: قانون الذاكرة التاريخية لعام 2007. هذا القانون جاء ليُيسّر عملية تحديد مواقع المقابر الجماعية، واستخراج رفات ضحايا قمع نظام فرانكو، والتعرف على هوياتهم، حيث لا تزال العديد من رفاتهم مفقودة.

تستحضر ماريا بوضوح آثار الحرب الأهلية الإسبانية على والدتها التي ظلّت حتى وفاتها تتجنب متابعة أخبار المعارك، حتى وإن كانت مجرد مشاهد في فيلم

وفي عام 2022، بلغت هذه الجهود ذروتها مع إصدار قانون الذاكرة الديمقراطية. ينص هذا القانون على حق عائلات الضحايا في معرفة ما حدث خلال الحرب الأهلية وفترة الديكتاتورية. كما يُلزم الدولة، بما في ذلك قيادتها العليا، بالبحث عن المفقودين والتعرف على هوياتهم، ويؤسس قاعدة بيانات وطنية للحمض النووي لضحايا تلك الحقبة. كذلك، يضمن القانون الحقَّ في إجراء تحقيق فعال في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت خلال الحرب والدكتاتورية.

الآن، إذا كانت إسبانيا، التي عانت من عقود من الديكتاتورية وتقارب تجربتها في بعض النواحي مع سنوات حكم عائلة الأسد في سوريا، ستقدم خلاصة تجربتها إلى سوريا، فأي المسارين ستنصح باعتماده؟ الصفح، أم المحاسبة؟

المعضلة السورية

للمقاربة بين التجربتين الإسبانية والسورية، أجرى رصيف22 حواراً مع الدكتور محمد ظهيري، الباحث المغربي والمحاضر في جامعة كومبلوتينسي، الذي أوضح أن "نموذج الانتقال الديمقراطي في إسبانيا قد لا يكون قابلاً للتطبيق حتى داخل إسبانيا حالياً". وأضاف: "إن الذين شاركوا في صياغة مرحلة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا كانوا من بقايا النظام الديكتاتوري وحلفائه، وخرجوا بفكرة ميثاق النسيان خوفاً من العودة إلى حرب أهلية جديدة. لهذا السبب، فإن تجربة الانتقال الديمقراطي الإسبانية لا يمكن استنساخها في الحالة السورية، لاعتبارات عدة".

وحدد ظهيري هذه العوائق بثلاثة هي: أولاً، كان ثقل إسبانيا الديمقراطي في سياق أوروبي مستقر، ولم تكن هناك مشكلات كبيرة في محيطها الجغرافي، تجعل من انتقالها إلى نظام حكم ديمقراطي مشكلة.

ثانياً، سعت إسبانيا إلى الانضمام إلى اللجنة الأوروبية، والتي هي النواة التي تشكّل منها الاتحاد الأوروبي، مما دفعها إلى صياغة دستورها وقوانينها بما يتماشى مع قيم حقوق الإنسان والديمقراطية.

ثالثاً، يجب التنبه إلى أن ميثاق النسيان في إسبانيا لم يُوضع مباشرة بعد حرب أهلية، بل جاء بعد وفاة الديكتاتور فرانكو الذي حكم البلاد لأربعة عقود، ما يعني أن الميثاق جاء في سياق مختلف تماماً عن سوريا، حيث الحرب والثورة ما تزالان حاضرتَين في الذاكرة القريبة.

ويعتقد ظهيري بأن على سوريا أن تشق طريقها وأن تبتكر نموذجاً خاصاً بها لانتقالها الديمقراطي، يراعي تعدديتها الطائفية والعرقية، داعياً إلى أن يلجأ إلى المحاكمة العادلة في محاسبة المتورطين بجرائم، ويمكن الاستفادة من الدرس الإسباني بعدم تكرار الأخطاء، والاطلاع على التجربتين التشيلية والمغربية، فـ"في المغرب يمكن الاطلاع على مبادرة الإنصاف والمصالحة التي تأسست بعد وفاة الملك حسن الثاني، لمراجعة مرحلة سنوات الرصاص، لانتقال ديمقراطي سلس وسلمي يراعي مصالح السوريين جميعاً".

فروقات ديكتاتورية

في إطار المقارنة، التقى رصيف22 بإغناسيو دي تيران، الباحث الإسباني والمحاضر في جامعة أوتونوما دي مدريد، الذي قال: "لا يمكن مقارنة ما حدث في إسبانيا بما جرى في سوريا. جرائم النظام السوري تفوق بكثير جرائم الدكتاتورية في إسبانيا. ففي سوريا، تورط النظام بأكمله في الإعدامات والتعذيب والإخفاء القسري، بينما في إسبانيا انخرط العديد من موظفي النظام الدكتاتوري لاحقاً في النظام الجديد".

الانتقال الديمقراطي في إسبانيا كان مدبَّراً وموجهاً من المؤسسة العسكرية والأمنية التي أعادت الملكية للحكم بتفاهمات محددة، أما في سوريا، فميثاق النسيان وقانون العفو قد لا يكونا مناسبَين، خاصةً في ظل التركيبة الاجتماعية المعقدة

كما أوضح أن الانتقال الديمقراطي في إسبانيا كان مدبَّراً وموجهاً من المؤسسة العسكرية والأمنية التي أعادت الملكية للحكم. أما في سوريا، فميثاق النسيان وقانون العفو قد لا يكونا مناسبَين، خاصةً في ظل التركيبة الاجتماعية المعقدة، التي تتسم بالطائفية والانقسامات المذهبية والإشكاليات العرقية، بخلاف إسبانيا التي لم تشهد خلافات طائفية. "لذا، رغم أن الانتقال السياسي في إسبانيا كان نموذجياً، فإن الحالة السورية تتطلب تنازلاتٍ ونوعاً من التسامح لبناء سوريا جديدة قائمة على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان".

في المقابل، شجعت تيريزا أرنغورين، الصحافية الإسبانية المتخصصة بقضايا العالم العربي، على صياغة قانون مشابه لميثاق النسيان في مرحلة انتقالية بسوريا، قائلة: "أعتقد أن الأولوية الآن في سوريا يجب أن تكون لتحقيق انتقال سلمي من الديكتاتورية إلى حكومة تضمن الحريات الأساسية لجميع المواطنين. هذا يتطلب التوصل إلى اتفاقات وحوار بين من في السلطة ومن دعموا النظام. من المهم تجنب التصعيد والانتقام، بل تعزيز الحوار والتفاهم. يمكن تسهيل ذلك عبر سنّ قانون مشابه لميثاق النسيان لبضع سنوات حتى تستقر البلاد، مع تقديم المجرمين للعدالة".

ترف المغفرة

وحول مدى استعداد السوريين للاستفادة من تجربة إسبانيا في بنائها الديمقراطي مروراً من "ميثاق النسيان"، تباينت آراء السوريين المقيمين في إسبانيا، إذ رفضه الصحافي عقبة محمد، معللاً ذلك بالقول: "لا يمكننا التسامح مع المتورطين بتعذيب أو بقتل سوريين، ميثاق النسيان في الحالة السورية سيدفع بالناس للانتقام بشكل فردي وتصفية الحسابات والثأر. أنا كشخص قُتل 69 شخصاً من عائلتي على يد النظام، أجد أنه من حقي أن أطالب بالعدالة لهم"، مضيفاً: "نعم، أنا ضد العفو، والناس كلها ضد العفو، فسجن صيدنايا لا مثيل له هنا في إسبانيا ولا في أي مكان، والصفح عن المجرمين لن يمنعهم من العودة لارتكاب نفس المجازر".

واتفقت مع هذا الرأي ليلى المصري، التي أكدت أن من حق ذوي المفقودين معرفة ما حلّ بأبنائهم الذين دفنوا في مقابر جماعية مجهولة، وأضافت :"الحلّ الوحيد للسّلم ليس العفو والنسيان، بل هو تذكر ما حدث حتى لا نكرره، لذلك يجب تنفيذ العدالة"، داعية إلى ما وصفته بـ"حملة تنظيف للمجتمع من الفاسدين والقتلة"، معتبرة أن سنّ قانون شبيه بميثاق النسيان "لن يعزز السلم الداخلي، بل سيدفع لحرب أهلية ولبحر من الدماء، وعليه يجب محاسبة القتلة وتعويض أهالي الضحايا… يجب ألّا ننسى".

منى الحسن: "الصفح والعفو هو أسمى الصفات الإنسانية، ويساعدنا كسوريين على طيّ صفحة مريرة في تاريخنا الدامي، والبدء بمرحلة سلمية يتساوى فيها الجميع من مختلف الطوائف والخلفيات، لنبني سوريا جديدة جميلة وهانئة"

في المقابل، وجدت منى الحسن أن ميثاق النسيان يمكن أن يمنح السوريين زاوية آخرى للنظر إلى مستقبل بلادهم، موضحة :"الصفح والعفو هو أسمى الصفات الإنسانية، ويساعدنا كسوريين على طيّ صفحة مريرة في تاريخنا الدامي، والبدء بمرحلة سلمية يتساوى فيها الجميع من مختلف الطوائف والخلفيات، لنبني سوريا جديدة جميلة وهانئة لا مزيد من القتل فيها أو الإعدامات. لا نريد نظاماً يشبه النظام البائد بوحشيته. لا نريد شريعة الغاب ومشاهد السلخ في الساحات العامة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image