لم يكن الاستبداد يوماً مجرّد نظام سياسي يُحكم بالسقوط، بل هو ثقافة تُزرع في النفوس وتجد طريقها لتُعيد إنتاج نفسها في أدق تفاصيل الحياة اليومية. اليوم، وبعد التحرير، يبدو أن السوريين لا يواجهون فقط تركة النظام السابق، بل يواجهون أنفسهم أيضاً، حيث تسللت بقايا العقلية البعثية إلى الخطاب الشعبي والسياسي، بشكل يعيد إنتاج أدوات التخوين والإقصاء، ولكن بأسماء جديدة.
في الشوارع والمقاهي وعلى منصات التواصل الاجتماعي، يتردّد صدى عبارات مألوفة من الحقبة الماضية، مثل "وين كنتوا قبل؟" و"ما كنتوا تسترجوا تحكوا"، لكن المفارقة أن هذه العبارات لا تأتي اليوم من حاشية النظام أو أنصاره، بل من أبناء الحرية أنفسهم، الذين يتنازعون على ملكية النصر وحق التعبير. وبين اتهامات بـ "التكويع" و"التشبيح" وصراعات لا تنتهي على شرعية المواقف، يبقى السؤال الأهم: هل نتحرّر فعلاً إذا ما بقيت عقولنا مكبلة بأصفاد الماضي؟
هذا المقال هو محاولة لإعادة التفكير، ليس فقط في نتائج الثورة، بل في جوهرها الإنساني، ولماذا يجب أن تكون الحرية، المحبة، والتسامح هي العناوين العريضة للمرحلة القادمة.
الصامتون… أعداء أم شركاء؟
عندما بدأت الثورة، لم يكن الصمت خياراً سهلاً. البعض صمت ليس تواطؤاً، بل لأن النظام جعل كل كلمة ثمنها الاعتقال أو الرصاص. هذا الصمت لم يكن بالضرورة خيانة، بل كان تعبيراً عن غريزة البقاء في ظل استبدادٍ لا يرحم.
الثورة، بوصفها فعلاً تحررياً، جاءت لتحطم تلك الأغلال التي جعلت الصمت خياراً وحيداً. هي لم تكن دعوة فقط لمن تجرأ على الكلام، بل أيضاً للذين كانوا ينتظرون لحظة الأمان ليكون لهم صوت.
ومع ذلك، نرى اليوم من يحاول إعادة تعريف الثورة كـ "نادٍ خاص" لا يحق دخوله إلا لمن كان حاضراً منذ البداية، رافعاً الشعارات ومعرّضاً حياته للخطر. هذا الأداء ليس إقصائياً فقط، بل يتعارض مع جوهر الثورة نفسه، الذي يهدف إلى تحرير الجميع، وليس فقط من حمل رايتها في البداية.
عندما بدأت الثورة، لم يكن الصمت خياراً سهلاً. البعض صمت ليس تواطؤاً، بل لأن النظام جعل كل كلمة ثمنها الاعتقال أو الرصاص. هذا الصمت لم يكن بالضرورة خيانة، بل كان تعبيراً عن غريزة البقاء في ظل استبدادٍ لا يرحم
بقايا العقلية البعثية
من الصعب الحديث عن سوريا دون الحديث عن العقلية البعثية التي حكمت البلاد لعقود. هذه العقلية لم تكن مجرد منظومة سياسية، بل ثقافة تسللت إلى أعماق المجتمع، قائمة على الإقصاء والتخوين واحتكار الحقيقة.
حينما تُقال عبارات مثل: "من كان صامتاً لا يحق له أن يعترض اليوم"، فإنها تعكس بوضوح امتداداً لتلك الثقافة التي جعلت من الولاء للنظام معياراً للوجود، فالثورة يجب أن تكون قطيعة كاملة مع هذا الإرث، لا مرآة له.
فإن الاتهامات التي تقصي الصامتين وتضع حدوداً لحقهم في التعبير، تشبه النظام الذي قامت ضده، فاحتكار الحق في الحديث والتعبير هو شكل آخر من أشكال الاستبداد، حتى لو تم تغليفه بخطاب ثوري.
لا حرية دون احترام التضحيات
لا يمكن بأي حال التقليل من قيمة التضحيات التي قدّمها آلاف السوريين من شهداء ومعتقلين ومنفيين. هؤلاء هم القلب النابض للثورة، والأمانة التي يجب أن تحترمها الأجيال القادمة.
لكن احترام التضحيات لا يعني إقصاء الآخرين أو إنكار حقهم في التعبير والمشاركة. الثورة ليست قائمة امتيازات أو مكافآت، بل مشروع جماعي لتحرير البلاد من الاستبداد، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً.
كل من رفع صوته منذ البداية يستحق التقدير، لكن هذا التقدير لا يعني سحب حق التعبير من الآخرين، فمن صمتوا في الماضي كانوا ضحايا الاستبداد، وليسوا شركاء فيه.
الخطر الأكبر الذي يواجه البلاد اليوم لا يأتي فقط من أعدائها، بل من داخلها أيضاً. حينما يتحول الخطاب اليومي إلى ساحة لتصفية الحسابات وتوزيع الاتهامات والتشكيك في نوايا الآخرين
هل نعيد إنتاج الاستبداد؟
الخطر الأكبر الذي يواجه البلاد اليوم لا يأتي فقط من أعدائها، بل من داخلها أيضاً. حينما يتحول الخطاب اليومي إلى ساحة لتصفية الحسابات وتوزيع الاتهامات والتشكيك في نوايا الآخرين، فإننا نعيد إنتاج نفس المنظومة التي أردنا إسقاطها.
اليوم نحن بحاجة لعدم احتكار الحرية لمن تجرأ منذ البداية، وعدم إقصاء كل من لم يكن حاضراً في الصفوف الأولى.
فهذه البلاد تستحق منا أن نعيد النظر، ونقوم بقطيعة مع كل أشكال العقلية البعثية، سواء في النظام أو في نفوسنا. هذه القطيعة تعني فتح المجال للجميع، بمن فيهم من لم يتمكنوا من الكلام في البداية، بشرط ألا يكونوا قد برّروا أو دعموا جرائم النظام.
الحرية للجميع
الثورة الحقيقية ليست مجرّد إسقاط للنظام، بل تحرير للعقل والوجدان من كل ما رسخه الاستبداد فينا. الحرية التي قامت الثورة السورية من أجلها هي حق جماعي، لا يمكن تجزئته أو احتكاره.
إذا أردنا أن نبني سوريا جديدة، فعلينا أن نمنح الفرصة للجميع للمشاركة، وأن نحترم اختلاف التجارب والمواقف. لا يمكننا الحديث عن الحرية ونحن نصادرها ممن صمت في الماضي. الثورة ليست ماضياً فقط، بل هي مستقبل أيضاً، ولا مستقبل لها إذا بقيت رهينة عقلية الإقصاء والتخوين.
في النهاية، علينا أن نؤمن بأن الحرية ليست حكراً على من ضحوا في سبيلها فقط، بل هي حق لكل من عاش تحت ظل الاستبداد، فمن أجل هؤلاء، قامت الثورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ ساعتينكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ يومراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومينعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 6 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...