شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بيوتنا السورية الصغيرة ستصبح يوماً حقيقةً في الوطن الكبير

بيوتنا السورية الصغيرة ستصبح يوماً حقيقةً في الوطن الكبير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 20 يناير 202509:57 ص

كبرت في منزل يروي قصته اليومية عن التعايش، وعن الحب الذي يكسر الحواجز، وعن التنوع الذي يثري العائلة بدلاً من أن يفرّقها. كان جدّي، المسلم السنّي، وجدّتي القادمة من قلب السويداء المنتمية إلى طائفة الموحدين، مثالاً حيّاً على أن الهوية السورية تتجاوز الطوائف.

لم تكن الأعياد في بيتنا مجرد احتفالات عائلية، بل كانت رسالة حب لكل من حولنا. كنا نجتمع على مائدة واحدة، نتشارك الطعام والأحاديث دون أن نعرف أن العالم خارج باب منزلنا قد بدأ يزرع بذور الانقسام. تربّينا على أنّ الانتماء الحقيقي هو لهذا الوطن الكبير، وأنّ ما يجمعنا أعظم من أي خلاف يمكن أن يصنعه التاريخ أو السياسة.

لكن هذه الصورة الجميلة التي عرفتها في بيتنا، أصبحت هدفاً للتمزيق تحت حكم الأسد. مع وصول بشار الأسد إلى السلطة، تحوّل التنوع من مصدر غنى إلى أداة تُستخدَم لتفريقنا، لتصبح الطائفية سلاحاً يراد منه قمع إرادة الشعب وإطالة عمر النظام.

الطائفية في سوريا ليست ظاهرةً جديدةً، بل لها جذور عميقة تعود إلى حقبة الاحتلال العثماني، من ثم تفاقمت في ظل حكم حزب البعث الذي كرّس التفرقة الطائفية بين أبناء الوطن

حافظ الأسد: حامي الأقليات أم مستغلّها؟

الطائفية في سوريا ليست ظاهرةً جديدةً، بل لها جذور عميقة تعود إلى حقبة الاحتلال العثماني، من ثم تفاقمت في ظل حكم حزب البعث الذي كرّس التفرقة الطائفية بين أبناء الوطن. في هذا السياق، برز حافظ الأسد، الذي أدرك منذ البداية أن بقاء سلطته واستمرارية نظامه يعتمدان على ركيزة واحدة: ادّعاء حماية الأقليات.

سعى الأسد، إلى إظهار نفسه كحامٍ للأقليات في مواجهة الأغلبية السنّية، مروّجاً لفكرة أنّ زوال حكمه يعني زوالهم، ليضمن ولاءهم المطلق. وعلى أرض الواقع، عمد إلى تسليم المناصب الحساسة في الجيش والأمن والمخابرات لأبناء طائفته العلوية، مقنعاً إياهم بأنهم شركاء في الجرائم التي ارتكبها، مثل مجازر حماة وجسر الشغور وتدمر. وبذلك، خلق رابطة مصير مشترك معهم، مبنيةً على الخوف من انتقام الطائفة السنّية في حال سقوطه.

في الحقيقة، سياسة الأسد لم تقتصر على طائفته فحسب. فقد حاول استقطاب بعض الشخصيات من الطائفة السنّية عبر رجال دين تقليديين يتبنّون الفكر الأشعري السلفي، الذي يقدّس الحاكم ويرى فيه تجسيداً لإرادة الله على الأرض. من خلال هذه التحالفات الدينية، تمكّن الأسد من كسب تأييد بعض رجال الدين وأتباعهم، وبذلك جمع بين ولاء الأقليات التي أقنعها بأنه حاميها، ورضوخ بعض أطياف الأكثرية التي صوّر نفسه لها كمخلّص ومبعوث إلهي.

كبرت في منزل يروي قصته اليومية عن التعايش، وعن الحب الذي يكسر الحواجز، وعن التنوع الذي يثري العائلة بدلاً من أن يفرّقها. كان جدّي، المسلم السنّي، وجدّتي القادمة من قلب السويداء المنتمية إلى طائفة الموحدين، مثالاً حيّاً على أن الهوية السورية تتجاوز الطوائف

بين الأب والابن: التنوع الطائفي أداة الأسد لإحكام السيطرة

منذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم، عُرف نظامه، ومن بعده نظام ابنه بشار، ببراغماتيته الشديدة وتكيّفه مع الظروف بما يخدم مصالحه. تجلّى ذلك في تقلّب مواقفه بين دعم دول وتنظيمات وأفكار في وقت ما، ثم معاداتها في وقت آخر.

من أبرز مظاهر هذه البراغماتية، تعامل النظام مع التنوع الطائفي في سوريا. لطالما صوّر آل الأسد، أنفسهم، كحماة للأقليات ومدافعين عن الحريات والعلمانية، لكن الوقائع التاريخية تكشف خلاف ذلك.

لنعد إلى عام 1982، عندما ارتكب حافظ الأسد مجزرة حماة، التي راح ضحيتها أكثر من 30 ألف قتيل، بحجة محاربة تنظيم الإخوان المسلمين. حينها، استخدم الأسد الأب، هذه الحملة لتقديم نفسه كدرع للعلمانية في مواجهة "التطرف"، ما زرع الخوف من الإسلام السياسي في عقول السوريين. بل إن المسلمين أنفسهم باتوا يتوجسون من ممارسة شعائرهم خوفاً من اتهامهم بالتطرف. هذه السياسات لم تساهم فقط في قمع الحريات الدينية، بل عمّقت الانقسامات الطائفية في المجتمع السوري.

مع تسلّم بشار الأسد الحكم عام 2000، ظهر بصورة الإصلاحي المنفتح الذي تلقّى تعليمه في بريطانيا، ما أثار آمال الشعب بإصلاحات سياسية وفكرية. حينها، برزت حركة فكرية-سياسية تُعرف بـ"ربيع دمشق"، ضمّت عدداً من المثقفين والليبراليين الذين دعوا إلى التعددية الحزبية وحرية التعبير وفصل الدين عن الدولة، مع الحفاظ على الإسلام كهوية ثقافية.

بدأت هذه الحركة بتنظيم منتديات خاصة، وإصدار بيانات كبيان الـ99 الذي وقّعه عدد من الفنانين والمثقفين. وبرغم أنّ النظام لم يمنع هذه الأنشطة في البداية، إلا أنه سرعان ما واجهها بحملة قمع، مبرراً ذلك بأنها حركة نخبوية لا تمثّل الشعب السوري، وأنها تتعارض مع قيم المجتمع المحافظ. وفي عام 2001، بدأ النظام باعتقال عدد من أعضاء الحركة بتهم مثل "النيل من هيبة الدولة" و"مخالفة الدستور".

تُظهر هذه الوقائع أن سياسات آل الأسد، لم تكن تستهدف الدفاع عن العلمانية أو محاربة التطرف الديني كما ادّعت، بل كانت تهدف إلى قمع أي معارضة تهدد سلطتهم. فعندما ظهرت معارضة إسلامية، قمعوها تحت ذريعة محاربة "التطرف". وعندما جاءت المعارضة من الأقليات أو المثقفين، وُصِموا بأنهم مفسدون يهددون الإسلام وقيم المجتمع. وهكذا كان النظام يستخدم الطائفية أداةً لإحكام سيطرته، لا للحفاظ على التنوع أو العلمانية.

تُظهر هذه الوقائع أن سياسات آل الأسد، لم تكن تستهدف الدفاع عن العلمانية أو محاربة التطرف الديني كما ادّعت، بل كانت تهدف إلى قمع أي معارضة تهدد سلطتهم.

ثورة 2011: كيف تحوّلت من ثورة شعبية إلى حرب طائفية؟

في خضم الربيع العربي، وبينما شهدت دول المنطقة انتفاضات تطالب بالحرية والعدالة، اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، حين خرج السوريون في مظاهرات سلمية تطالب برحيل النظام الذي هيمن على البلاد لعقود طويلة، وبتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية. لكن سرعان ما قوبلت هذه المطالب الشعبية بالقمع الوحشي من قبل النظام السوري، الذي لجأ إلى إستراتيجيات ممنهجة لتشويه الثورة وتحويل مسارها إلى نزاع طائفي.

منذ اللحظة الأولى، عمل النظام على تصوير الاحتجاجات على أنها مؤامرة طائفية تستهدف الأقليات. استخدم إعلامه الرسمي خطاباً مليئاً بالتحريض ضد المتظاهرين، متهماً إياهم بالتطرف الديني والإرهاب. وبدأ يروج لفكرة أن سقوط النظام سيؤدي إلى فوضى تهدد الأقليات الدينية في سوريا، ما دفع شرائح من المجتمع، خصوصاً العلويين، إلى الوقوف بجانبه.

على الأرض، ارتكب النظام مجازر وحشيةً في المناطق ذات الغالبية السنّية، كما حدث في حمص ودرعا، حيث استُهدفت المظاهرات السلمية بالعنف المفرط، ما أسفر عن سقوط العديد من القتلى والمعتقلين. ومن خلال إطلاق يد ميليشيات طائفية، مثل "الشبيحة" و"حزب الله"، في تنفيذ جرائم مروعة ضد المدنيين، عمّق النظام الانقسامات الطائفية وأشعل نار الانتقام بين مختلف مكونات المجتمع.

كان النظام يستخدم الطائفية أداةً لإحكام سيطرته، لا للحفاظ على التنوع أو العلمانية.

لم يكن القمع الوحشي للنظام يقتصر على الشوارع والميادين، بل امتد إلى أقبية السجون والمعتقلات. سجن صيدنايا، المعروف بأنه "مسالخ بشرية"، كان رمزاً لهذا القمع الممنهج. في إحدى هذه القصص التي تنقل وحشية النظام، روت صديقة لي أنّ أباها اعتُقل خلال الثورة، وأُخذ إلى سجن صيدنايا "لتحقيق بسيط"، كما أخبرتهم السلطات. في يوم التحقيق، طلب منهم السماح له بالصلاة قبل بدء الجلسة، فسمحوا له بالصلاة، لكنه لم يكملها. أطلقوا النار عليه وهو ساجد.

هذه القصة ليست حالةً فرديةً؛ إنها شهادة مؤلمة على كيفية استخدام النظام للسجون كأداة لزرع الخوف، وتحويل القمع إلى وسيلة للتفرقة الطائفية. استهدف النظام بشكل خاص الناشطين والمشاركين في الثورة، مع التركيز على المناطق السنّية، ما عزز شعوراً بالاضطهاد وزاد من حدة الاستقطاب بين مكونات المجتمع.

ومع تصاعد القمع الوحشي، بدأ العديد من الناشطين والضباط بالانشقاق عن النظام، وأعلنوا تشكيل الجيش السوري الحرّ بهدف حماية المتظاهرين. لكن النظام استغل هذه المرحلة لتقديم الثورة على أنها "تمرّد مسلح"، ما برّر مزيداً من القمع الدموي.

في الوقت نفسه، بدأت دول إقليمية، مثل السعودية وتركيا، دعم المعارضة بالمال والسلاح، بينما اعتمد النظام على دعم إيران وروسيا وميليشيات طائفية خارجية.

سوريا بعد الأسد: فرحة الانتصار تُعكّرها مخاوف الأقليات ومحاولات التعايش

في تمام الثامنة وست عشرة دقيقةً، تبدّلت عقارب الزمن السوري، معلنةً ما كان يوماً حلماً لدى الملايين: سوريا من دون بشار الأسد. جملة ترددت أصداؤها بقوة في الشوارع والمدن وحتى في خيم اللاجئين. لكن وسط هذه الهتافات وفرحة الانتصار، ارتفعت تساؤلات كثيرة: هل هذا النصر مكتمل؟ وهل تتسع الفرحة للجميع؟

لطالما استغلّ نظام الأسد الانقسامات المجتمعية لصالحه، مغذّياً فكرة أنّ سقوطه يعني نهايةً مأساويةً للأقليات في سوريا. زرع النظام في عقولهم روايةً مفادها أنّ السنّة ينتظرون سقوطه لا للاحتفال، بل للانتقام، وأنّ البديل عنه لن يكون سوى تنظيمات متطرفةً تحمل راية القتل باسم الدين. بهذه السردية، وجدت الأقليات نفسها في مأزق نفسي: الكره لنظام قمعها لعقود، والخوف من بديل قد يطيح بوجودها.

لم تكن هذه المخاوف مجرّدةً من الواقع. فعقب سقوط النظام، تصاعدت حالات فردية أثارت الذعر بين الطوائف، من خطف أفراد إلى تصفية حسابات ثأرية غذّتها عقول غارقة في أحقاد الماضي. هذه السلوكيات، وإن كانت استثنائيةً، أضافت وقوداً إلى نار المخاوف القديمة، وأعادت إلى الأذهان سيناريوهات عن حرب طائفية تلوح في الأفق.

لكن برغم كل هذه التحديات، لا يزال هناك أمل في تجاوز هذه الحقبة السوداء وبناء نموذج جديد من التعايش. الركيزة الأساسية لهذا الأمل تكمن في تبنّي العدالة الانتقالية كخيار إستراتيجي، لا كمجرد شعار. فالعدالة الانتقالية ليست انتقاماً، بل هي جسر للمصالحة. إنها آلية تتيح للسوريين النظر إلى الماضي بشجاعة، لمحاسبة الجناة، وإنصاف الضحايا، وردّ الحقوق، وإغلاق الأبواب أمام أي محاولة لاستغلال المظالم القديمة لتفجير صراعات جديدة.

وعلى الصعيد الاجتماعي، لا بد من إعادة صياغة المفاهيم. مصطلحات مثل "الأقليات" و"الأكثرية"، يجب أن تُمحى من قاموس سوريا الجديدة، ليحل محلها مفهوم "المكونات"، حيث الانتماء إلى الوطن هو القاسم المشترك. فالخيار أمام السوريين ليس بين طوائف أو أديان، بل بين وطن موحّد أو استمرار التفكك الذي رسخه الأسد لعقود.

الطريق إلى التعايش يبدأ أيضاً بترسيخ مبدأ مركزية الدولة. دولة قوية تكون المرجعية الوحيدة للجميع، تُنهي سلطة العشائر والقبائل والطوائف، وتعمل على فرض سيادة القانون فوق أي سلطة أخرى. دولة لا تميز بين أبنائها، بل تضمن للجميع حقوقهم تحت مظلة المواطنة الحقيقية.

برغم كل هذه التحديات، لا يزال هناك أمل في تجاوز هذه الحقبة السوداء وبناء نموذج جديد من التعايش. الركيزة الأساسية لهذا الأمل تكمن في تبنّي العدالة الانتقالية كخيار إستراتيجي، لا كمجرد شعار

سوريا من دون الأسد قد تكون واقعاً جديداً، لكن هذا الواقع لن يكتمل إلا إذا تحوّل النصر إلى فرصة لإعادة بناء وطن يلمّ شمل الجميع. فالحرب انتهت، لكن معركة التعايش بدأت الآن.

برغم كل الألم، وبرغم السياسات التي عمّقت الجراح بين أبناء الوطن الواحد، أؤمن بأنّ سوريا قادرة على العودة إلى ما كانت عليه قبل أن يحكمها الخوف والطائفية. لا تزال عائلتي، بجدّي وجدتي المختلفيْن طائفياً والمتحِّدَين إنسانياً، شاهدةً على قدرة السوريين على تجاوز ما فُرض عليهم.

نحن صورة مصغرة عن المجتمع السوري الذي لم يعرف الطائفية يوماً، إلا كفكرة مستوردة. في قلوب السوريين، ما زالت جذور الوحدة قائمةً، تنتظر من يسقيها حباً وعدلاً لتحيا من جديد. ربما يكون النظام قد مزّق هذا النسيج لفترة، لكنه لم ولن يستطيع تدميره تماماً.

سوريا، كما عائلتي، يمكن أن تعود وطناً للجميع، وطناً نعيش فيه متساوين، ونختلف فيه باحترام، ونتشارك أحلام المستقبل دون خوف من هوياتنا أو انتماءاتنا. ويبقى الأمل في قلوبنا بأنّ الوحدة التي عرفناها في بيوتنا الصغيرة ستصبح يوماً حقيقةً في الوطن الكبير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image