الرصاص حين يصمت، لا يصمت حقاً. إنّه يترك صوتاً آخر، ناعماً وخافتاً، لكنه أشد مضاءً. صوت كالحفيف، يسري في الهواء مثل نصل خفي. هذا الصمت الذي يقال إنه صمت وقف إطلاق النار، ليس إلا خدعة، أو ربما هو فراغ تموج فيه أرواحنا، تبحث عن شيء لتتعلّق به.
في اللحظة الأولى، ينتزعنا هذا الإعلان من بين شظايا الرعب، كأن يداً خفية قد جذبتنا من أطراف جروحنا وقالت: "قفوا. لا موت اليوم. ليس الآن". لكن هذه اليد نفسها، التي تمنحنا الحياة للحظة، هي التي تغرز فينا شكوكاً أعمق: ماذا بعد الصمت؟ أهذا الصمت إشارة إلى نهاية، أم هو مجرد استراحة قصيرة للدمار كي يعيد ترتيب أدواته؟
حالة النجاة
حين تعود الحياة بعد الموت، تبدو الحياة غريبة، مشوهة بعض الشيء، كأنها لا تعرف كيف تكون على طبيعتها بعد كل ما مرّ. الشوارع التي كانت تضجّ بالحياة صارت صامتة كصمت بيت مهجور. البيوت التي كانت مأهولة بأصوات الأطفال وصخب الأسر، الآن جدرانها مثقوبة، أبوابها مخلعة، وسقفها يكاد يسقط إذا ما سقط بالفعل.
في أعماقك، لا شيء يعود كما كان. النجاة هنا ليست نصراً؛ إنها مجرد عبورٍ من موتٍ كان قاب قوسين. عبور مؤقت. تسمع صوت قلبك في هذا الفراغ، لكنه قلب خائف، متردّد. القلب الذي نجا من العاصفة لا يعرف كيف يفرح بالهدوء، كأنه ينتظر العاصفة القادمة، يتوقعها، ربما حتى يتمنى أن تأتي معجزة ما لتُنهي هذا الانتظار الثقيل.
حين تعود الحياة بعد الموت، تبدو الحياة غريبة، مشوهة بعض الشيء، كأنها لا تعرف كيف تكون على طبيعتها بعد كل ما مرّ
الصمت سيف مزدوج
الصمت، هذا السيف ذو الحدين، لا يعطينا إجابات. بل يتركنا أمام الأسئلة العارية. هل توقّف كل شيء حقاً؟ هل هذه نهاية الحرب أم مجرد فسحة لاستنشاق الهواء؟ كيف يمكن أن نعود إلى الحياة الطبيعية، إن كان هناك شيء يُسمى "الحياة الطبيعية" بعد كل ما حدث؟
الصمت يفضح. إنه يضعنا وجهاً لوجه أمام دمارنا. لا أحد يتكلم الآن، لكن الركام يتحدّث. يتحدّث عن البيوت التي كانت هنا واختفت، عن العائلات التي كانت تحلم بالأمان ووجدت نفسها في الحداد. يتحدّث عن الأشجار التي كانت خضراء وأصبحت رماداً.
والأسوأ، أن الصمت يجعل الذكريات تعود. عندما كان صوت الرصاص والقصف يملأ الهواء، لم يكن هناك وقت للتفكير. لكن الآن يعود كل شيء. يعود وجه أختي الذي فقدته، يعود صراخ ابنة أختي "مروة" التي حملتها يد الموت بعيداً، تعود تفاصيلك الصغيرة، أحلامك التي نسيتها في الزحام، والتي لم يعد لها مكان في هذا الركام.
ماذا نريد؟
ومع ذلك، في خضم كل هذا، هناك شيء صغير ينبض داخلنا. شيء يشبه الحلم، لكنه ليس واضحاً. ماذا نريد حقاً؟ نريد أن نعيش، هذا أكيد. لكن ما معنى أن نعيش؟ هل العيش هو مجرد البقاء، أم أننا نبحث عن شيء أكبر، شيء يجعل هذا البقاء يستحق العناء؟
في البداية، تكون الأحلام صغيرة: نريد أن تعود الكهرباء، أن يعود الماء، أن يعود الخبز. نريد أن نستيقظ صباحاً دون أن نقلق من أن يكون اليوم هو الأخير. لكن الأحلام تكبر بسرعة: نريد شيئاً يشبه العدالة، شيئاً يعيد إلينا ما أُخذ منا. نريد أن نعيد بناء كل ما تحطم، ليس فقط الجدران، بل أيضاً أرواحنا التي أصبحت مثقوبة كالشباك القديمة.
لكن كيف يمكننا أن نبني في أرض كهذه، أرض ما زالت مشحونة بالخوف والدماء؟ كيف يمكننا أن نصنع سلاماً في مكان علق فيه الصراع في الهواء، كأنه جزء من طبيعة المكان نفسه؟
ثقل البناء
البناء ليس أمراً سهلاً. إنه يتطلب شجاعة أكثر من الحرب. يتطلب أن ننظر إلى الأمام، بينما كل شيء حولنا يشدنا إلى الخلف. أن نؤمن أن الحياة يمكن أن تزهر مرة أخرى، حتى لو كانت التربة مشبعة بالدم.
لكننا نبني لأننا لا نعرف ماذا نفعل غير ذلك. نعيد رفع الحجارة لأننا نرفض أن نكون شهداء فقط. نرفض أن تكون الحرب هي قصتنا الوحيدة.
في داخلنا، هناك شيء أعمق من الصراع. شيء يجعلنا نعيد ترتيب الركام على شكل بيوت، حتى لو كنا نعلم أن هذه البيوت قد تُهدم مرة أخرى. شيء يجعلنا نزرع شجرة، رغم أننا لا نعرف إن كانت ستنمو.
لكن الأحلام وحدها لا تكفي. علينا أن نواجه الحقيقة. الحقيقة التي تقول إن وقف إطلاق النار ليس سلاماً، إنه مجرّد لحظة بين معركتين. علينا أن نكون واقعيين، أن نفهم أن الصراع ليس مجرد رصاص، إنما أفكار تتصارع، وأيديولوجيات تتناحر
بين الحلم والحقيقة
لكن الأحلام وحدها لا تكفي. علينا أن نواجه الحقيقة. الحقيقة التي تقول إن وقف إطلاق النار ليس سلاماً، إنه مجرّد لحظة بين معركتين. علينا أن نكون واقعيين، أن نفهم أن الصراع ليس مجرد رصاص، إنما أفكار تتصارع، وأيديولوجيات تتناحر.
وربما، في أعماقنا، نحن لا نبحث عن سلام كامل. نحن نعرف أن هذا السلام الكامل، إن وُجد، لن يكون في حياتنا. لكننا نريد سلاماً جزئياً، سلاماً يسمح لنا بالنجاة، ولو قليلاً.
ختام مؤقت
وقف إطلاق النار هو فرصة، لكنه ليس أكثر من ذلك. فرصة لنلتقط أنفاسنا، لنعيد ترتيب أنفسنا. لكنه ليس النهاية. ومع ذلك، نحن متمسكون بهذه الفرصة، متمسكون بها كما يتمسك الغريق بخشبة في بحر هائج. لأنها قد تكون الأمل الوحيد الذي يربطنا بالحياة.
وفي النهاية، ربما هذا كل ما نحتاجه: خيط رفيع من الأمل، نحمله بين أيدينا، نحاول أن ننسج منه حياة، حتى لو كان الخيط رقيقاً، وحتى لو كان الهواء مشبعاً برائحة الموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed Gomaa -
منذ 54 دقيقةعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 3 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق