"بدّن يرجّعونا عتّالين عالبور"، "ما حدا رح يرجّعنا عتّالين عالبور"... هي تنويعات مختلفة لفكرة واحدة، يرددها سياسيون لبنانيون شيعة ومعهم شرائح واسعة من الشيعة كلما شاع حديث عن موقع هذه الطائفة في المنظومة اللبنانية.
والـ"بور" (Port) هو المرفأ، وفي السياق هنا هو مرفأ بيروت. والعبارات المذكورة استنكارية، وتحيل إلى زمن قديم، إلى ما بين خمسينيات القرن الماضي وسبعينياته، عندما كان بعض النازحين الشيعة من الأطراف اللبنانية التي تعاني من إهمال بسبب سياسات التنمية غير المتوازنة ينزحون إلى بيروت، فيعملون في مهن متواضعة من بينها العتالة في مرفأ بيروت.
حال هؤلاء النازحين الشيعة لم يكن مختلفاً كثيراً عن حال غيرهم من نازحي الأطراف من طوائف أخرى. ينتقلون إلى العاصمة اللبنانية بلا شهادات دراسية وبلا مهارات حرفية عالية تؤهلهم لشغل أعمال عالية أو متوسطة المستوى، فلا يبقى لهم بطبيعة الحال إلا أشغال مثل العتالة. وأعداد عتّالي "البور" الشيعة يمكن تخمين أنها كانت بالمئات، موزعين على فترة زمنية تمتد لنحو ثلاثة عقود.
وعليه، فإن العبارات المذكورة تقوم على فكرة منتزَعة من سياقاتها الاقتصادية والاجتماعية، كمعظم الشعارات السياسية التي يتعلّق بها عقل الطوائف المتصارعة الجمعي، فيُعمَّم واقع قلة كانت تفتقر إلى المهارات وشقّت طريق حياتها في العاصمة بصعوبة على طائفة كاملة بأمها وأبيها!
فرض حزب الله سيطرته على أغلبية أبناء الطائفة اللبنانية الشيعية على إيقاع نشر سردية أن الشيعة يجب أن يبقوا قلقين ومتأهبين لأن هنالك مَن يتربّص بهم وسينقضّ عليهم فور استرخائهم، أو فور تحوّلهم إلى ناس "عاديين" مثلهم مثل أبناء باقي الطوائف
"الإقصاء المتخيَّل"
يعود الحديث عن إعادة الشيعة إلى الوراء مع امتعاض حزب الله العلني من المستجدات السياسية الأخيرة في لبنان، وأولها انتخاب رئيس للجمهورية بعد تعطيل هذا الحزب للعملية طيلة سنتين وشهرين وتسعة أيام، وثانيها تكليف رئيس حكومة بدون النزول عند رغباته كما جرت العادة في السنوات الأخيرة، وعبّر رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد عن ذلك عندما تحدث عن "إقصاء" وعن "كمين" تعرّض له حزبه.
لا غرابة في أن يكون حزب الله متوتراً بعد الهزيمة العسكرية التي تكبّدها في حربه الأخيرة مع إسرائيل، والتي اغتيل خلالها أبرز قادته، وبعد اضطراره لتوقيع اتفاق هو أشبه بإعلان استسلام يتضمّن بنداً لسحب سلاحه وحصره بيد المؤسسات الأمنية اللبنانية الشرعية. هذا المتغيّر، يضاف إليه إسقاط النظام السوري وقطع طريق تدفّق السلاح نحو لبنان، غيّر المشهد الإقليمي وكانت له انعكاسات على الداخل اللبناني عبر تحرر القوى السياسية اللبنانية من السطوة التي فرضها حزب الله منذ تحرّكه العسكري شبه الانقلابي في الداخل اللبناني في 7 أيار/ مايو 2008.
ولكن هل ما جرى إقصاء فعلاً؟ لا يوجد، حتى الآن على الأقل، أي مؤشر على إقصاء لا للطائفة الشيعية ولا حتى لحزب الله نفسه، وهذا تعيه حركة أمل. ربما أقصت الأحداث الأخيرة حزب الله عن الهيمنة على لبنان وعن التحكم بقراراته منفرداً، صحيح، ولكن هذا ليس "إقصاءً" بل هو تحوُّل إلى ما يمكن اعتباره بـ"الوضع الطبيعي" في دولة ديمقراطية توافقية.
والأهم من ذلك، هل ما جرى يمكن أن يُقرأ كمحاولة لإعادة الطائفة الشيعية إلى الوراء؟
بماذا استفاد "الشيعة" من تحكّم حزب الله بقرارات الدولة اللبنانية المصيرية؟... الغالبية الساحقة من أبناء هذه الطائفة لم ينَلْهم من حقبة هيمنة هذا الحزب إلا الصيت، بينما عانوا في الواقع مثل باقي اللبنانيين، بل ربما أكثر، من الفقر ومن كوارث العيش في دولة مهترئة
لا عودة إلى الوراء
بمزيج قائم على تناقض، طرفه الأول تخويف اللبنانيين الشيعة من مؤامرات تُحاك ضدهم، تارةً بدعوى وجود مخططات لإعادتهم إلى حالة "الحرمان" وتارةً أخرى بدعوى وجود خطط لتهجيرهم من لبنان، وطرفه الآخر بث شعور بـ"فائض من القوة" بينهم لكونهم طائفة تحتضن حزباً مدججاً بترسانة عسكرية ضخمة، فرض حزب الله سيطرته على أغلبية أبناء الطائفة اللبنانية الشيعية، ومارس بهم لعبة سياسية وضعت البلد على شفير الحرب الأهلية، منذ خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005.
وحدث كل ذلك على إيقاع نشر سردية أن الشيعة يجب أن يبقوا على الدوام قلقين ومتأهبين لأن هنالك مَن يتربّص بهم وسينقضّ عليهم فور استرخائهم، أو فور تحوّلهم إلى ناس "عاديين" مثلهم مثل أبناء باقي الطوائف. وبالفعل نجح حزب الله في تحويل هذه السردية إلى قناعة لدى غالبية اللبنانيين الشيعة.
ولكن بماذا استفاد "الشيعة" من تحكّم حزب الله بقرارات الدولة المصيرية؟ وبصياغة أخرى، مَن من الشيعة استفاد فعلاً من هيمنة هذا الحزب على باقي الأطراف اللبنانية؟
هنالك دائرة ضيّقة محيطة بحزب الله، وبشكل أوسع بالثنائي الشيعي، استفادت، ولكن الغالبية الساحقة من الشيعة لم ينَلْهم من حقبة الهيمنة المذكورة إلا الصيت، بينما عانوا في الواقع مثل باقي اللبنانيين بل ربما أكثر من الفقر ومن كوارث العيش في دولة مهترئة، دون إنكار أن نسبة أعلى من خدمات الدولة ومشاريعها وصلت إلى مناطقهم، مقارنةً بما كان عليه الحال في الماضي البعيد.
هذا الواقع الحقيقي لمئات الآلاف من الشيعة تجسّده قصة المواطن الشيعي المتحدر من الأطراف علي محسن مشيك، وهو أب لثلاثة أطفال. ولسخرية القدر، ترتبط هذه القصة بالعمل في العتالة في "البور". في الرابع من آب/ أغسطس 2020، عاد مشيك إلى مرفأ بيروت بعد انتهاء دوام عمله ليعمل في إفراغ حمولة من القمح مقابل 5000 ليرة لبنانية بالساعة، أي ما يساوي نحو نصف دولار حينذاك، فوقع الانفجار وقُتل. ولسخرية القدر أيضاً، لم تتحقق العدالة له لأن الثنائي الشيعي عرقل عملية التحقيق في ما جرى.
يبني حزب الله جزءاً أساسياً من نفوذه على أساس ادّعاء أنه هو مَن نقل اللبنانيين الشيعة من مرحلة الحرمان إلى مرحلة البحبوحة والحضور القوي في السلطة ومؤسسات الدولة. ولكن في حقيقة الأمر، لم ينل الشيعة مكانتهم في الدولة اللبنانية، أكان من جهة "حصصهم" في المؤسسات السياسية أو من جهة "حصصهم" في الوظائف الرسمية بفضل حزب الله، فكل هذا أُقرّ مع اتفاق الطائف وبعيده، أي قبل أن يدخل حزب الله في السياسة الداخلية اللبنانية.
وكانت بداية صعود الشيعة و"نهضتهم" كطائفة قد بدأت قبل ذلك، بفضل أبنائها، بديموغرافيتهم وتعلّمهم ونشاطهم السياسي في أحزاب شيعية وعلمانية وعمل مهاجريهم الذين كوّنوا ثروات كبيرة أو صغيرة في بلاد المهجر بدون أن تنقطع أواصر علاقاتهم بأقاربهم وبيئاتهم... وعليه فإن مكانة اللبنانيين الشيعة اليوم ترتبط بعوامل لا دخل لحزب الله بها، لا بل يمكن المحاججة بأن هذا الحزب يضرّ بهم، ففي لبنان يتسبب بتدمير أجزاء واسعة مما يراكمونه كل بضعة سنوات بفعل الحروب، ويتحمّل جزءاً من المسؤولية عن تردّي مستوى التعليم، وخاصة الجامعي، وفي بلاد المهجر يعرّضهم لأضرار بسبب نظرة معظم العالم السلبية إليه مع ما نتج عنها من عقوبات وقيود على حركة الأموال.
فكرة "حقوق الطائفة" في الدولة، مثلها مثل فكرة "قوة الطائفة"، هما فكرتان خاليتان من المضمون، تُستخدمان لتجييش الناس في بلد طائفي معظم السجالات الدائرة فيه تحمل شيئاً وفيراً من الانفصال عن الواقع
وهم عام
فكرة "حقوق الطائفة" في الدولة، وهي فكرة ليست حصرية بحزب الله والشيعة بل تشكّل جزءاً من خطاب كل الطوائف اللبنانية وأحزابها، يخصِّص لها معظم اللبنانيين نصيباً وافراً من اهتماماتهم، لكثرة تردادها في الأحاديث السياسية مع إيحاءات بأن حال كل مواطن مرتبط بها، مثلها مثل فكرة "قوة الطائفة". لكن عملياً، هما فكرتان خاليتان من المضمون، تُستخدمان لتجييش الناس في بلد طائفي معظم السجالات الدائرة فيه تحمل شيئاً وفيراً من الانفصال عن الواقع.
فإذا سألنا عمّن يستفيد من أن طائفته "قوية" وتنتزع "حقوقها"، بحسب المصطلحات الشائعة في السرديات الطائفية في لبنان، سيكون الجواب أنهم فئة قليلة محظية محيطة بالأحزاب السياسية المهيمنة على الطوائف، فيما غالبية الناس تعاني.
والمفارقة أن هذه السجالات تدور في وقت يتضرّر عموم اللبنانيين، من كل الطوائف، بشدة من واقع مأساوي قائم على تفشي الفساد والمحسوبيات في مؤسسات الدولة وغياب الاستقلالية في عمل القضاء وأجهزة الأمن... وهذا هو الوجه القبيح لـ"الديمقراطية اللبنانية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
KHALIL FADEL -
منذ 4 ساعاتراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ 23 ساعةعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 4 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري