قبل سنة وشهرين، وقف وزير الحرب الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، أمام الكاميرات وأعلن حربه علينا نحن الفلسطينيين، باستخدام مصطلحين مدروسين تماماً، وهما: "حيوانات بشرية" و "داعش".
كان ذلك قبل أن يتم الزجّ بنا تماماً في المحور الإيراني، وقبل أن يتم تهيئة العالم لحرب أمريكية/إسرائيلية ضد إيران وحلفائها، أو تشكيلاتها في المنطقة. كان العالم يومها، أي بعد السابع من أكتوبر مباشرة، جاهزاً للقبول بالرواية الإسرائيلية، أو على الأقل التعاطف معها ومع حتمية الرد الإسرائيلي تحت مبرّر : "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
لم يدم هذا التعاطف طويلاً، وذلك بسبب الردّ المبالغ فيه ضد المدنيين، وضد البنية التحتية، من مبان ومستشفيات ومدارس ومراكز إيواء، فيما اصطُلح على تعريفه بـ "الإبادة الجماعية". هذه الإبادة الجماعية حركت العالم في الاتجاه المعاكس، أي أن تعريف الضحية انتقل من كونه حقاً حصرياً للإسرائيليين الذين تعرّضوا لهجوم السابع من أكتوبر، إلى مكانه الطبيعي الملاصق للفلسطينيين منذ نكبتهم في أواسط القرن الماضي، مروراً بكل الحروب والتهجير والمجازر التي تم ارتكابها بحقهم، وصولاً إلى هذا العدوان الذي لا يميز بين أي عنصر أو مكوّن من مكونات الشعب الفلسطيني.
لقد شهد العالم حراكاً شعبياً وطلابياً ومؤسساتياً، وحتى حكومياً في بعض دوله، لصالح الفلسطينيين وضد قتلهم وقاتليهم، وتم تتويج هذا الحراك بقرارات إدانة من محاكم دولية، أو كما يُحب بعض مُنكري المنجز الفلسطيني الطويل والمتراكم أن يقولوا: "لقد تم وضع القضية الفلسطينية على طاولة المجتمع الدولي". لنتفق مع هذا القول على كل حال، ولكن من حقنا أن نتساءل: ما العائد الذي انعكس على قضيتنا سياسياً أو قلّل من قتل أهلنا في غزة على مدار سنة وشهرين؟ وكيف استطعنا تجيير هذا الحراك الدولي لصالحنا؟
لقد أصبحنا بقدرة قادر جزءاً من المحور الإيراني، ولم نعترض على هذا التصنيف وهذه المَوضعة بحجّة أن إيران تدعمنا وتدعم قضيتنا، وأن البديل هو المحور المعادي لإيران ولنا معاً
الحقيقة هي أن قيادة حماس ومفاوضيها لم يلتقطوا هذه الفرصة من التضامن الدولي لإجراء اختراق في المفاوضات تؤدي إلى وقف هذه المقتلة، والحقيقة الثانية هي أن من انتبه إلى هذا التغيير في الخطاب الدولي هو نتنياهو وحكومته، واستطاع التملّص من ارتداداته، بأن توقف عن وصفنا بالدواعش والحيوانات البشرية، وبدلاً من ذلك قام بزجّنا في المحور الإيراني، ذلك المحور المصنّف كعدو للغرب، والذي يحوز بدوره على عداء الغرب، دولاً ومجتمعات.
لقد أصبحنا بقدرة قادر جزءاً من هذا المحور، ولم نعترض على هذا التصنيف وهذه المَوضعة بحجّة أن إيران تدعمنا وتدعم قضيتنا، وأن البديل هو المحور المعادي لإيران ولنا معاً.
لقد بدأ هذا الزجّ بشكله العلني الصريح مع اغتيال اسماعيل هنية في طهران، وتدرج من خلال استخدام نتنياهو نفسه لمصطلح "وحدة الساحات"، والتركيز عليه أكثر من أولئك الذين ابتدعوه، أي أكثر من حزب الله وحماس.
أمام هذه الحالة، بدأ الحراك الدولي المؤيد لنا بالتراجع، وصار متقطعاً وخجولاً، ولا يتحرك إلا مع مجزرة كبيرة أو حدث استثنائي. بالطبع لا يمكن نكران ما يمكن تسميته "الملل من التعوّد"، بمعنى أن الناس تمل من الوجود الدائم في الشارع، خصوصاً حين لا ينتج عن هذا الوجود إنجازات مهمة وفورية لصالح القضية المتبناة.
سبب مهم آخر لتراجع الدعم الدولي هو تشتيت الانتباه نحو أحداث أخرى تحدث في الإقليم، فمنذ أشهر كثيرة لم تعد القضية الفلسطينية، وتحديداً ما يحدث من عدوان سافر على أهل غزة، في صدارة الأحداث المغطاة إعلامياً، بل تراجعت في أوقات كثيرة إلى مكان الخبر الثاني والثالث. هذا التراجع حدث نتيجة لطبيعة الحرب المتدرّجة التي تشنّها إسرائيل على المنضوين تحت مظلة وحدة الساحات، فهي لم تدخل حرباً جدية مع حزب الله إلا بعد أن حققت أغلب ما تصبو إليه في غزة، ثم بعد أن تمكنت من هزيمة حزب الله انتقلت إلى سوريا، وهي بصدد أن تنتقل إلى الحوثيين أو إيران ذاتها.
أقصد أن إسرائيل، شئنا أم أبينا، استطاعت التحكم بمجريات الحرب، واستطاعت إدارتها بشكل متدرّج يعفيها من تأثير الضغوط الداخلية والخارجية على حد سواء، واستطاعت بالتالي نزع البساط من تحت أقدام حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، لدرجة أننا أصبحنا نفرح لفيديو تسجله فتاة في استراليا لصالحنا، أو موقف يصدر عن سياسي أمريكي أو أوروبي، ونتداوله باعتباره حدثاً مهماً.
يحدث ذلك بعد أن كانت شوارع أوروبا وجامعات أمريكيا محتلة بالكامل من أنصار القضية الفلسطينية، وأعداء الهمجية والتطهير العرقي الإسرائيليين.
واستطاعت إسرائيل، شئنا أم أبينا أيضاً، أن تسجّل انتصارها على هذا المحور الذي زجتنا فيه، ولا يغير من هذه الحقيقة لا الصواريخ المتقطعة للحوثيين ولا التصريحات المكابرة لخامنئي ووزير خارجيته. لقد تم سحق قوة حزب الله وتحويله إلى مشكلة داخلية لبنانية، وتم إسقاط زعيم محور الممانعة بشار الأسد، ويتم قصف الحوثيين وتهديد الإيرانيين.
نقطة أخرى يمكن تسجيلها هنا قبل الوصول إلى أية خلاصات، وهي أن النصر لا يقاس بقوة الخطاب بل بمدى تحقيق الأهداف الموضوعة سلفاً لأية معركة، وبالطبع ليس بتحقيق أهداف متغيرة تبرز حسب الحاجة في وقت معين وظروف معينة. أقصد أن هدفك من دخول حرب وتحقيقك لهذا الهدف هو ما يقرّر انتصارك، وليس وضعك لأهداف صغيرة أخرى أو تبنّي أهداف لم تكن موجودة بل برزت مع مسار المعركة.
لقد ملّ الشعب الفلسطيني وبعض شعوب المنطقة من الانتصارات التي يتم تسجيلها بدمهم وبيوتهم ومستقبل أطفالهم، وهم توّاقون لنصر حقيقي يجعل من حياتهم أفضل ولو قليلاً، ويقرّب وصولهم إلى أهدافهم ولو خطوة واحدة.
بدون مراوغة وكثير من التحليل والكلام، لا يمكننا إلا القول إن محور المقاومة بزعامة إيران قد تمت هزيمته، هل نريد دليلاً أكثر مما استعرضناه ومما نراه يومياً على شاشات التلفزة؟ وهل يكفينا أن الأمريكان يزيدون عدد قواعدهم في المنطقة، كالقاعدة الجديدة في عين العرب كوباني، وأن الحكومة العراقية هي من تطلب منهم تمديد بقائهم في العراق؟ أولا يكفي أننا ننتظر بارقة أمل لإيقاف هذه الحرب المجنونة من شخص مثل ترامب؟
ملّ الشعب الفلسطيني وبعض شعوب المنطقة من الانتصارات التي يتم تسجيلها بدمهم وبيوتهم ومستقبل أطفالهم، وهم توّاقون لنصر حقيقي يجعل من حياتهم أفضل ولو قليلاً، ويقرّب وصولهم إلى أهدافهم ولو خطوة واحدة
أمام كل ما سبق، يحق لنا أن نطرح الأسئلة التالية وأن نفكر بإجاباتها انطلاقاً من مصلحتنا الوطنية، ومن مصلحة أهلنا المطحونين في غزة، ومن مصلحة ومستقبل هذا الشعب وصموده على أرضه:
هل نحن وقضيتنا العادلة والمزمنة جزء من هذا المحور المهزوم، أو بصيغة أخرى: هل علينا أن نكون جزءاً منه؟ وهل فات الأوان لنعود إلى استقلالية قرارنا الوطني الذي ناضلنا طويلاً لنحققه ولو في حده الأدنى في عالم لا تستقيم فيه الفردانية والانعزال؟ ألم يكن من واجبنا أن نعمل من أجل تكريس مفهوم "وحدة الساحات" مع الشعوب الحية التي لا تقبل، لا هي ولا قيمها، السكوت عن القمع والجريمة والاحتلال والإبادة الجماعية؟
أعرف بالطبع أن هذا التساؤل مستفز للكثيرين الذين لا يعولون على شعوب العالم الغربي أو ما يُطلق عليه الرأي العام الدولي، مع أنهم هم من يفرحون لفيديو من مواطنة استرالية تدين جرائم إسرائيل، أو سياسي أمريكي يعترف بحقنا في العيش على أرضنا، ويتداولونه كـ "لقيا" مهمة.
هل علينا، بعد سنة وشهرين من الإبادة بحق شعبنا في غزة، ومن تشريده وجوعه وانسداد أفق العيش أمامه وأمام أبنائه، أن نستمرّ في نفس النهج الذي يجعل من قتل جندي إسرائيلي معادلاً لشعب كامل في الخيام، ومن صفارات إنذار في تل أبيب مساوياً لحرق بلاد بأكملها فوق رؤوس أبنائها. أما آن لفصائلنا ونخبنا السياسية والثقافية أن تفكر بطريقة للمقاومة والنصر تحترم جغرافية بلدها ودماء شعبها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Oussama ELGH -
منذ 10 ساعاتالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ 11 ساعةاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة