في ذروة الثورة الإيرانية، أواخر العام 1978، أرسل آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، أستاذ المرجع النجفي الكبير السيد محمد علي السيستاني، إلى الشاه محمد رضا بهلوي خاتماً من العقيق مرفقاً بدعاء خاص. أراد بحركته هذه التعبير عن استهجانه لفكرة ولاية الفقيه كما طرحها خصم الشاه، الإمام روح الله الخميني.
كان الخميني أول فقيه شيعي يستخدم مصطلح "الحكومة الإسلامية". أتت أفكاره مناقضة للفقه الشيعي الذي لطالما حصر دور رجال الدين بتسيير أمور أبناء المذهب "الحسبية" أي أمور الحياة اليومية من زواج، طلاق، خمس، إرث...، ولم يكن يسمح لنفوذهم بتعدّي القضاء وحجية الفتوى. وهذا التقليد لم يأتِ من فراغ، ففي الفقه الشيعي التقليدي، لا يمكن إقامة الدولة العادلة إلا بعد ظهور الإمام المهدي. لكن الخميني ذهب بعيداً وقال بـ"ولاية الفقيه المطلقة"، وهي تعني امتداد ولاية الفقهاء إلى كل الجوانب السياسية التي تسري عليها ولاية النبي والإمام المعصوم، واعتبر أن اتّباع الناس للولي الفقيه واجبٌ عليهم.
في فترة صعود الخميني إلى واجهة الاهتمام الإعلامي العالمي، كان الخوئي هو مَن ينطق بالموقف التاريخي للشيعة في ما خص العمل السياسي. اعتبر أنه "لا تثبت الولاية للفقهاء في عصر الغيبة بأي دليل" وأن "الولاية تختص بالنبي والأئمة".
وإلى الآن، ينعكس هذا الخلاف الفقهي على خارطة الجماعات الشيعية الموزّعة على دول مختلفة، ويصل أحياناً إلى حدّ تبادل الاتهامات العنيفة. ولكن الفقه ليس العامل الوحيد الذي يحدد ممارسة جماعات الشيعية السياسية. وإنْ كان الخلاف حول مدى شمولية ولاية الفقهاء يضع غالبيتهم في مواجهة "تجديد" الخميني، إلا أن السياسة تلقي بغالبيتهم في مدى النفوذ الإيراني.
مَن الزعيم؟
مع انتصار الثورة الإيرانية، في العام 1979، نجح آيات الله الإيرانيون في إنشاء أول حكومة دينية شيعيّة في التاريخ. معهم، قامت أول دولة مبنية على العقائد الدينية الشيعية يحكمها فقهاء، وقامت بالتحديد على أحد الاجتهادات حول علاقة الدين بالسياسة.
بتبنّي مفهوم ولاية الفقيه المطلقة، اقترب الشيعة من الفقه السنّي ومفهوم الخليفة الذي ينبغي أن يقيم العدل في ديار الإسلام، وابتعدوا عن تراث طويل يضعهم في تنافر مع السلطات الدنيوية منذ وقوع ما يعتبرونه "اغتصاباً" لحق أئمتهم الـ12 في السلطة على يد الأمويين فالعباسيين.
إعلامياً، لم تطرح الثورة الإيرانية نفسها كثورة شيعيّة بل كثورة إسلاميّة طموحة. من واقعة نجاحه في تأسيس أول دولة إسلامية حديثة يعتلي سدّة الحكم فيها رجال دين يرفعون لواء الشريعة، اندفع النظام الإيراني وراء هدف تزعّم العالم الإسلامي. وبذلك، بدأ النزاع الإيراني السعودي.
كان الخميني يسخر من السعودية، الدولة التي تتخذ لنفسها اسم أسرة، كما كان يوصّفها، وطالب بإشراف مشترك على مكّة والمدينة المنوّرة. طموحاته لم تعجب سنّة العالم الإسلامي. لم ينتبه إلى أنهم لا يمكن أن يرضوا بقيادة شيعية. وفي المقابل، ردّ ملك السعودية فهد بن عبد العزيز بتسمية نفسه "خادم الحرمين الشريفين".
آيات الله الإيرانيون لم يكونوا بعيدين فكرياً عن تنظيم الإخوان المسلمين. في المصنع الفكري حيث كوّنوا طروحاتهم، كانت كتابات سيّد قطب حاضرة. من هذه التقاطعات نفهم التقارب النسبي بين إيران وإخوان مصر، وهو تقارب لا أحد يعلم إلى أين كان يمكن أن يصل بالمنطقة لو لم يشهد ضربة قوية مع اندلاع الصراع بين الإخوان المسلمين في سوريا ونظام حافظ الأسد، واختيار الإيرانيين القرابة المذهبية مع نظام الحكم العلوي في سوريا على الفضاء الإسلامي الواسع المتجاوز للمذاهب.
ثورة للتصدير
فور إرساء الثورة الإيرانية دعائمها، بدأت سياسة تصدير الثورة إلى الخارج. كان لبنان الذي يشهد حرباً أهلية الساحة المثالية للاستيراد. تقاطعت ثلاثة عوامل هي شعور شيعة لبنان بأنهم مهمشون، الصراع مع إسرائيل، والدعم الإيراني، وساهمت، في العام 1982، في ولادة قوة سياسية- عسكرية شيعية منظّمة هي حزب الله.
بدعمها لهذا الحزب، دخلت إيران ساحة الصراع العربي الإسرائيلي من باب عريض، ما ساعدها على مدّ نفوذها في العالم العربي، نظراً لما تعنيه القضية الفلسطينية في الوجدان العربي.
يرتبط حزب الله عضوياً بإيران، ولكن ليس بالدولة كدولة، بل بمؤسسة الولي الفقيه. حزب الله هو قصة إيران الناجحة في عملها الخارجي. ولكن حتى هذه القصة الناجحة لم تمكّنها من استتباع كل الشيعة اللبنانيين. على المستوى الديني ظهرت مرجعية السيد محمد حسين فضل الله، وعلى المستوى السياسي يتوزع ولاء شيعة لبنان بين حزب الله وحركة أمل البعيدة عن فكر ولاية الفقيه المطلقة.
في الفقه الشيعي التقليدي، لا يمكن إقامة الدولة العادلة إلا بعد ظهور الإمام المهدي. لكن الخميني ذهب بعيداً وقال بـ"ولاية الفقيه المطلقة"، وهي تعني امتداد ولاية الفقهاء إلى كل الجوانب السياسية التي تسري عليها ولاية النبي والإمام المعصوم
قصة النجاح الإيرانية الثانية كان مسرحها العراق. والعراق ليس كأي دولة أخرى بالنسبة إلى الشيعة، إذ لهم ارتباطات وجدانية قوية به. ففيه أعرق الحوزات الدينية، حوزة النجف الأشرف، وفيه أضرحة بعض أئمة الشيعة، وعلى أرض كربلاء وقعت الحادثة التاريخية التي ساهمت في بناء الوعي الجماعي الشيعي.
بعد دخول الأميركيين إلى العراق، في العام 2003، وقف آية الله علي السيستاني في وجه المجموعات الشيعية التي أرادت محاربة "الغزاة". خاف من تكرار سيناريو 1920 حين ثار الشيعة على الاستعمار البريطاني فكانت النتيجة إقصاءهم عن السلطة. لجم "ثورية" بعض أصحاب الرؤوس الحامية كي لا تدفع الطائفة الشيعية مرّة جديدة الثمن بعقود من الإقصاء عن الحكم. ولعلّ مما ساعده بشكل غير مباشر في النجاح قناعة الإيرانيين بأنهم، والجماعات العراقية المرتبطة بهم، الأقدر على قطف ثمار المرحلة الجديدة عاجلاً أم آجلاً.
ظروف الغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين ساعدت طهران كثيراً على التغلغل داخل جارها الغربي الذي كان عصيّاً عليها في زمن نظام البعث. عوامل كثيرة ساعدت إيران على بسط نفوذ واسع في العراق. فعدا الرابط المذهبي مع شيعة العراق عامةً، ومكانتها كمركز سياسي للشيعة، عاد إلى العراق آلاف العراقيين الذين كانوا مطرودين من بلدهم ولاجئين في إيران، وجزء كبير من هؤلاء كانوا قيادات سياسية في أحزاب كحزب الدعوة و"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق"، الذي غيّر اسمه لاحقاً إلى "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي".
ولسخرية القدر، ساعد الإرهاب السنّي إيران على بسط نفوذها في العراق. فمع بدء تنظيم القاعدة نشاطه الإرهابي في العراق، زاد نفوذ المتطرفين الشيعة على حساب المدنيين والعلمانيين، في ظل حرب طائفية طاحنة. ثم لاحقاً، مع توسّع تنظيم داعش، استطاعت طهران وحرسها الثوري الاستثمار في تنويعة واسعة من الميليشيات الشيعية التي دعمتها بفعالية في مواجهة التنظيم المتطرف وأشرفت على عملياتها ضده ميدانياً.
الآن، اللوحة السياسية في العراق معقدة جداً، وزاد من تعقيدها بروز تيار مدني رافض للهيمنة الإيرانية على خلفية انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019. نسبة كبيرة من العراقيين قاطعت الانتخابات النيابية الأخيرة. ولكن الواقع العملي الذي أفرزته الانتخابات هو أن القوى السياسية الشيعية الموالية لإيران هي الأكثرية في البرلمان. وأيضاً، مقابل الأغلبية السياسية الشيعية الدائرة في فلك إيران، لا يقف المدنيون القدماء والجدد، بل يقف عملياً مقتدى الصدر.
يظهر العامل العربي أحياناً في سياسة هذا الزعيم الشاب الذي أسس حركة سياسية مستنداً إلى المكانة الشعبيّة لعمّه محمد باقر الصدر وأبيه محمد صادق الصدر، المرجعين الدينيين الكبيرين اللذين أعدمهما صدام حسين عامي 1980 و1999 على التوالي. ولكن المتتبع لمساره وتقلّباته سيجد صعوبة في تحديد اصطفافه السياسي، فالثابت الوحيد في سياسة الصدر هو رغبته في تزعّم شيعة العراق، أما المفاضلة بين إدارة العراق وجهه إلى العرب أو إلى إيران فهي متحرّك.
ربيع قلب فصول المنطقة
مع سقوط صدام حسين، اتّصلت إيران عبر العراق بحليفتها سوريا وعبرها بلبنان حيث نفوذ حزب الله القوي. نشأ ما أسماه الباحث الفرنسي ميشال سورا، في ثمانينيات القرن الماضي، "المحور الاستراتيجي الشيعي"، أو "الهلال الشيعي"، حسب المصطلح الذي راج بعد استخدام الملك الأردني عبد الله الثاني له.
الشيعة العرب الذين لطالما كانوا مقصيّين عن السلطة في معظم فترات التاريخ العربي الإسلامي، وبالأخض بعد تأسيس الدول الوطنية الحديثة، شعروا بفائض من القوة، استمدّوه من نجاح إيران في إثبات نفسها كلاعب ذي شأن في المنطقة العربية، فخاف زعماء الدول السنيّة من هذه المتغيّرات، ليس بسبب ما أفرزته من تغيرات في لبنان والعراق وبينهما سوريا، بل بسبب "صحوة" الشيعة في البحرين والسعودية...
إنْ كان الخلاف حول مدى شمولية ولاية الفقهاء يضع غالبية الشيعة العرب في مواجهة "تجديد" الخميني، إلا أن السياسة تلقي بغالبيتهم في مدى النفوذ الإيراني
في البحرين، ظهر هذا الانقسام المذهبي بشكل حاد. ففي المملكة ذات الأكثرية السكانية الشيعية، تجلس على العرش عائلة آل خليفة السنّية، ولإبقاء الأمور على ما هي عليه، لجأت السلطة- العائلة إلى مجموعة إجراءات تحدّ من الحريات وتتلاعب بديموغرافيا الشعب. ولهذه الأسباب، انتفض الشيعة البحرينيون، بقيادة حركة الوفاق التي يرأسها علي سلمان، رافعين برنامجاً سياسياً معتدلاً يطالب بإيقاف عمليات التجنيس على أساس طائفي وبإشراكهم في السلطة وبتحويل الجزيرة الصغيرة إلى مملكة دستورية. ولكن ما إن توسعت الحركة لتشكل احتمال تهديد للنظام حتى دخلت قوات درع الجزيرة وقمعت التحركات السلمية.
تاريخياً، يقلّد معظم شيعة البحرين المرجع اللبناني محمد حسين فضل الله الذي لم تكن تربطه علاقة ود بالإيرانيين منذ إعلانه نفسه مرجعاً للتقليد في بداية تسعينيات القرن الماضي. ولكن بعد قمع ثورتهم، لم يجدوا من نصير سياسي سوى إيران وحلفائها، وصرنا نسمع خطابات متشددة لم يكن لها وجود قبل سنوات، وإنْ كانت لا تزال هامشية.
الحدث الآخر البارز في علاقة السنّة والشيعة في المنطقة العربية كان مسرحه في سوريا. ما إن اندلعت الثورة السورية حتى انقلبت الحسابات في العراق. قبل الثورة، كان المطلوب من سوريا عدم التلاعب باستقرار العراق. ولكن بعدها، أعادت بعض الأنظمة إحياء مطلبها بإيصال السنّة إلى حكم سوريا مقابل وصول الشيعة إلى حكم العراق، لإبقاء التوازن في المنطقة، كما صار كثيرون من الشيعة يخشون سقوط النظام السوري وتشكّل كتّلة سنية تمتد من القاهرة إلى إسطنبول.
إلى الطائفة... دُر
قبل نشوء الدول الوطنية، عانى الشيعة في العالم العربي من التهميش. السلطات الإسلامية لم تعترف بهم كجزء أصيل من الدين الإسلامي. هذا الواقع كان من أسباب ميْل معظم الشيعة العرب إلى فكرة القومية العربية، خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، وذلك لأنها تحقق لهم المساواة بغيرهم من أبناء المذاهب الأخرى.
ومع خفوت نجم أيديولوجيا القومية العربية، اختار معظم الشيعة تأييد الأفكار الوطنية. ووجد عدد كبير منهم ضالته في الأحزاب الشيوعية الداعية إلى المساواة التامة بين البشر.
والآن، بعد خفوت نجم أيديولوجيا الشيوعية والعودة إلى الروابط الاجتماعية ما قبل الوطنية في كل مكان، تترّس الشيعة وراء طوائفهم، وتشكّلت أحزاب سياسية وميليشيات على أساس هذا التترس، وبما أن منطق الغلبة هو المنطق الحاكم لصراعات الهويات، وجد الشيعة العرب أنفسهم سياسياً في الحضن الإيراني، وهذا مفهوم، فهو ما يمنحهم اليوم الشعور بالقوة، وإنْ كجماعات يرتبط بقاؤها قوية بعدم قيامة دول حديثة جامعة.
*نُشر هذا الموضوع للمرة الأولى بتاريخ 25/ 10/ 2013، وجرى تعديله بتاريخ 21/ 03/ 2023 بغرض تحيينه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه