مقال من سلسلة مقالات للكتاب بعنوان: "غزّة بين واقعٍ وصورة"
في غزة، الحياة ليست فقط تجربة مُعاشة، بل تُختصر مراراً في رواية تُعرض للآخرين خارج غزة. إن كل ما يحدث هنا، مهما كان بسيطاً أو مأساوياً، يتم تصويره كجزء من قصة تُكتب بعيون خارجية. وكأن سكان لغزة لا يملكون الحق في تقديم نسختهم الخاصة بأي سردية، إلا بما يتماشى مع ما يريده أبطال السوشال ميديا وأصحاب حملات التبرع في الخارج، وثوار ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
كغزيين، نقول إن الصور التي رُسمت لنا؛ هي صورة الصمود الأسطوري في ساحات الخيام وتخوم الحرب. ومن جانب آخر، صورة الضحية المستمرة والمثالية، والتي كانت لصيقة بحياة الغزي منذ الانتفاضة الثانية، والتي تُقدم للعالم كقالب جاهز غير قابل للتأويل. هذه الصور ليست انعكاساً صادقاً لنا، بل صياغة مقصودة تستبعد كل ما لا يتناسب مع التوقعات أو الأجندات. ما يحدث هو عملية دقيقة لإعادة إنتاج واقع يخدم رؤى لا تمت بصلة إلى التجربة الفعلية للأفراد داخل المجتمع الغزي.
هذا النوع من التحكم الانتقائي بالرواية الغزية لصالح ما يُرى مناسباً بالنسبة لثورجيي السوشال ميديا وفناني معارض الجاليات في إوروبا وأصحاب حملات التبرع بالملايين، لا يقتصر على الإعلام أو السياسة، بل يمتد ليشمل كل مجال يسهم في تشكيل الفهم الجماعي لماهية الحرب على غزة.
صورة الغزي البطولية التي تُعرض، والأصوات التي تُسمع، تُنتقى بعناية شديدة، ليس لأنها تعكس الحقيقة، بل لأنها تناسب ما يُراد تصديقه.
في هذا الإطار، تصبح غزة نموذجاً للألم المعروض، وليس للألم الحقيقي الفعلي. لا أحد يسأل عن التفاصيل الصغيرة التي تُشكل الحياة اليومية للغزي، ولا عن كيفية تعامل الناس مع الروتين وسط كل هذا العبث، أو كيف نواجه نحن، أبناء وبنات غزة، لحظاتنا الخاصة بعيداً عن الكاميرات.
الغائب الأهم في هذا المشهد، هو الحق في الذاتية الشخصية. بمعنى أن تُعرَّف غزة من داخلها؛ أي من خلال أبنائها، لا من خلال رؤية الآخرين لها.
عندما يُفرض على مجتمع كامل أن يُرى فقط من خلال معاناته أو صموده، فإن ما يحدث ليس مجرد تقليل من التجربة التي يعيشها هذا المجتمع، بل محو للإنسانية الكاملة للفرد داخله.
تصبح غزة نموذجاً للألم المعروض، وليس للألم الحقيقي الفعلي. لا أحد يسأل عن التفاصيل الصغيرة التي تُشكل الحياة اليومية للغزي، ولا عن كيفية تعامل الناس مع الروتين وسط كل هذا العبث، أو كيف نواجه نحن، أبناء وبنات غزة، لحظاتنا الخاصة بعيداً عن الكاميرات
يتم إسكات الأصوات التي تتحدث عن تعقيدات الحياة اليومية لأنها لا تُناسب القصة الجاهزة، والتي شكّلتها "قصص إنستغرام" منذ اليوم الأول من هذه المقتلة، عن المقاوم الصنديد والغزي العنيد من قبل مثقفين في عمان ومصر ورواد بارات في رام الله وحيفا، والجاليات في الخارج وبعض المستفيدين من هذه الحفلة، التي أصبح بعضهم اليوم، بفضل التبرعات باسمها، أصحاب رؤوس أموال.
هذه السردية المُعدّة ليست بريئة. إنها تخدم، بشكل عملي، منظومة حقيقية وموجودة تستفيد من إبقاء الأمور على حالها. فحين نحاصَر في صور معدّة مسبقاً، يُسلب منا حقنا في المطالبة بما يتجاوز إطار المساعدة أو التعاطف. تصبح مطالبنا مسطحة، لا تهدد توازن القوى القائم.
وفي النهاية، يصبح الهدف من الصورة المصدّرة ليس تغيير الواقع، بل الحفاظ على استمراره بطريقة تُريح المتلقي. وهكذا، يُترك سكان غزة ليعيشوا حياتهم في ظل صورة لا تعبر عنهم، ولا تترك لهم مساحة للتعبير عن أنفسهم، ضمن نوع من البلطجة الاجتماعية على الأفراد.
المظلومية كأداة لإسكات الذات
المظلومية كأداة لإسكات الذات، تكشف عن ديناميكية عميقة تتجاوز الظلم الخارجي الممارس على مجتمع ما، لتتغلغل في نسيجه الداخلي. فتصبح جزءاً من بنية التفكير الجماعي، بل وأداة غير مرئية للتحكم في أفراده.
حين يُفرض على مجتمع بأكمله أن يرى نفسه من خلال عدسة المعاناة المستمرة، تُصاغ هويته وفق هذا الإطار المحدود. هذه المظلومية تتحول إلى هوية قسرية، تُلزم الجميع بارتداء عباءتها دون خيار حقيقي للمقاومة أو التحرر منها.
حين يصبح الحديث عن الظلم هو الطريقة الوحيدة للتعبير عن الذات، تُغلق الأبواب أمام أي محاولات لصياغة خطاب جديد يتجاوز دائرة الألم.
المشكلة هنا ليست فقط في أن العالم الخارجي يُفضل التعامل مع غزة أو أي مجتمع مشابه كضحية دائمة، بل في أن هذه السردية تُعيد تشكيل الداخل ليقبل هذا الدور.
فعندما ينشأ جيل جديد، وهو يسمع باستمرار أن المظلومية هي مركز هويته، وأن دوره هو الصمود والصبر وتحمل المعاناة، فإن هذه الهوية تتحول من حالة مفروضة إلى حقيقة داخلية. يبدأ الناس برؤية أنفسهم كضحايا قبل كل شيء، ويُعاد إنتاج هذه الصورة، داخلياً، عبر وسائل الإعلام المحلية والخطاب السياسي، وحتى عبر الأدب والفن.
في هذا السياق، يصبح المثقف أو الفنان، الذي يحاول أن يخرج عن هذه العباءة، مصدر خطر. ليس فقط لأنه يزعج العالم الخارجي الذي يحب السردية المريحة، بل لأنه يُهدد البنية الداخلية التي تأقلمت مع دور الضحية.
المثقف الذي يُقرر أن يكتب عن الأمل، أو عن الغضب، أو عن الحب كفعل مقاومة، وعن اليأس كمكون متعدد الأسباب، يُنظر إليه على أنه خائن للسردية السائدة. وكأنه يتجاهل الظلم الذي يعيشه مجتمعه من قبل الاحتلال ويلقيه على سواه.
عندما يُفرض على مجتمع كامل أن يُرى فقط من خلال معاناته أو صموده، فإن ما يحدث ليس مجرد تقليل من التجربة التي يعيشها هذا المجتمع، بل محو للإنسانية الكاملة للفرد داخله
لكن الحقيقة الفعلية هي أن مثل هؤلاء المثقفين لا ينكرون المظلومية، بل يرفضون أن تُحدد كل شيء، يرفضون أن تكون هي العدسة الوحيدة التي نرى من خلالها أنفسنا.
هذه الديناميكية تُبرز كيف أن المظلومية يمكن أن تصبح قيداً داخلياً، يمنع أي محاولة للتقدم أو التجديد. حين يُختصر مجتمع ما إلى ضحية، فإنه يُحرم من حقه في أن يكون أكثر من ذلك. يُصبح من الصعب عليه أن يُقدم صورة متكاملة عن نفسه، صورة تعترف بالمعاناة لكنها لا تقتصر عليها، صورة تُظهر القوة والضعف، الحلم واليأس، النضال والفرح.
تقبل المظلومية كهوية قسرية، يؤدي إلى حالة من الركود الفكري والثقافي، حيث يُعاد إنتاج نفس الخطاب مراراً وتكراراً، دون أي محاولة لكسره أو تجاوزه.
المعضلة الكبرى هنا هي أن الخروج من دائرة المظلومية لا يعني نسيان الظلم أو التقليل من شأنه أو التصالح مع المحتل والرضى بالواقع الذي فرضه على الأرض، بل يعني إعادة تعريف الذات الغزاوية الفلسطينية، بعيداً عن هذا القيد الذي فرضته قصص وفيديوهات إنستغرام، والقائمة على "أن الغزي هو مقاوم صامد لا يشكو الفقر ولا ضعف الحال. وهو بأصله فقير لا يمكنه العيش بدون تبرعات، ولا يلبس بدلة ولا يصفف شعره، أشعث وأغبر، وغير قادر على إدارة شؤونه الشخصية. وأن حياته في غزة هي شقاء دائم، ناكرين عليه حقه في أن يكون عادياً".
وإعادة التعريف تعني مواجهة الذات وإسقاط الحكم الثقيل والمحاسبة الفعلية للجميع، قبل مواجهة الاحتلال. وكذلك، مواجهة الأسئلة الصعبة: كيف نرى أنفسنا؟ وكيف نريد أن نُقدم روايتنا للعالم كغزيين؟
حين نحاصَر في صور معدّة مسبقاً، يُسلب منا حقنا في المطالبة بما يتجاوز إطار المساعدة أو التعاطف. تصبح مطالبنا مسطحة، لا تهدد توازن القوى القائم
هذه المهمة ليست سهلة، لأنها تتطلب كسر العديد من التابوهات، وتتطلب شجاعة لرفض القوالب التي تعودنا عليها. لكنها في النهاية، الطريق الوحيد لتحرير الذات من أسر المظلومية، لاستعادة القدرة على صياغة هوية أكثر اكتمالاً وتعقيداً؛ هوية تعترف بالمعاناة لكنها لا تُختزل فيها، هوية تُظهر أن هناك حياة خلف الألم، وأن هذا الألم ليس كل ما نملك لنقوله عن أنفسنا.
"التافهون" في المقدمة: تسطيح السردية الغزاوية
إن صعود "التافهين"، من رواد برامج "البودكاست" و"ريلز إنستغرام" والحلقات التلفزيونية التحليلية ومنشورات الكلمات القصيرة داخل تصاميم جاهزة على تطبيق "canva"، إلى واجهة السردية الغزاوية، بشعارات الصمود والمقاومة والتنظير والقصص الأسطورية والمناكفات الحزبية، هو انعكاس صارخ لفلسفة عصرنا الحالي التي تفضل السطحية على العمق، والرمزية المريحة على الحقيقة المزعجة، في زمن تهيمن فيه الصورة على الكلمة، وتُسحق التفاصيل لصالح العناوين البسيطة.
يتم تلميع وجوه صحافية، لا تمتلك سوى القدرة على تكرار السرديات الجاهزة، التي تتماشى مع القواعد التي وضعها العالم العربي والغربي مسبقاً لفهم غزة. لم نعد نفهم كيف يمكن عدم فهم أن "التافهين الذين يتصدرون المشهد" لا يمثلون غزة الحقيقية، بل يمثلون نسخة مصغرة وسطحية منها، نسخة تعيد إنتاج كليشيهات الصمود والمعاناة، بطريقة تجعلها قابلة للاستهلاك العاطفي دون أن تثير أي التزام حقيقي من المتلقي.
في الوقت نفسه، يتم قمع المثقفين والأدباء، الذين كانوا دائماً في الصدارة للدفاع عن سردية واقع غزة الحقيقية، أمام السلطات والتيارات السياسية، منها المحلية التي مارست بحقهم على مدار 17 عاماً، والتي تريد اختزال النضال الوطني الفلسطيني لمصالحها الخاصة، وقولبته من خلال قنواتهم الإعلامية ومثقفيهم في الدول العربية الذين يجيدون صياغة جملة أدبية تؤجج المشاعر.
المثقفون الغزيون الذين يحملون روايات أكثر تعقيداً، لأنها لا تناسب هذا النظام الإعلامي الذي يبحث عن ضحية سهلة وبطل مُلهم في إطار درامي بسيط، لا يناسبون معايير "المظلومية المثالية".
فهذا المثقف، الذي يكتب عن الخوف، عن لحظات الانكسار، عن الألم الذي لا يمكن تحويله إلى صورة جذابة، لا يُسمح له بالظهور، لأنه يُفسد السردية المعدّة مسبقاً. هذه السردية، كما أشار بودريار في نظريته عن المحاكاة، ليست انعكاساً للحقيقة، بل هي واقع زائف يُنتج ليُستهلك.
هؤلاء التافهون يُسهمون في هذا الزيف، لأنهم يكررون خطاباً جاهزاً يعيد تدوير نفس المشاهد كما ذكرنا: طفل يبتسم وسط الركام، أمّ تحمل طفلها تحت الغبار، شاب يرفع قذيفة أمام دبابة. كل هذه الصور تُريح المتلقي لأنها تثير التعاطف دون أن تُلزمه باتخاذ موقف واضح.
حين يُفرض على مجتمع بأكمله أن يرى نفسه من خلال عدسة المعاناة المستمرة، تُصاغ هويته وفق هذا الإطار المحدود. هذه المظلومية تتحول إلى هوية قسرية، تُلزم الجميع بارتداء عباءتها دون خيار حقيقي للمقاومة أو التحرر منها
إنها تُحافظ على غزة كرمز للمعاناة والصمود المتجددين، لكنها تُجردها من إنسانيتها، من حقيقتها المليئة بالتناقضات والتفاصيل التي لا تناسب وسائل التواصل أو التقارير الإخبارية ذات الأيديولوجيا.
والتافهون ليسوا مجرد أشخاص، بل هم أدوات لنظام إعلامي واقتصادي يُفرغ المأساة من جوهرها ويحوّلها إلى منتج عاطفي. في المقابل، لا يتحدث الغزي عن غزة كرمز، بل كمكان يعيش فيه الناس بكل تعقيداتهم؛ الحب والخوف، الأمل واليأس، الحلم والانكسار الظلم والعدل وحكم المليشيا وحكم الدولة، ونضال الاحتلال والانتحار الجماعي.
المثقف يطرح أسئلة لا يريد أحد سماعها: لماذا تستمر هذه المأساة على غزة دون غيرها؟ من يستفيد من إبقاء غزة في هذا الوضع؟ وما هي المكتسبات الفعلية؟ لماذا يُمنع أهلها من رواية قصتهم كما هي؟ ولماذا هناك "آخرون" يتحدثون عن مظلمة غزة في مؤتمرات ممولة؟
في هذا الإطار، يتحول تسطيح السردية إلى أداة سياسية تُبقي على الوضع الراهن.
والتافهون على منصات التواصل، لا يهددون النظام السائد حالياً، بل يدعمونه، لأنهم يُعيدون إنتاج القصة بطريقة تجعلها قابلة للبيع دون أن تُثير أي تحرك باتجاه تغيير حقيقي.
هذه العملية ليست مجرد صدفة، بل هي جزء من نظام استهلاكي شامل، كما وصفه ماركيوز، يُحول كل شيء إلى سلعة، حتى المعاناة.
يا للحسرة، غزة، بكل ما تحمله من تعقيد وألم، تُختزل إلى صورة بسيطة تُباع وتُشترى. والمثقف الحقيقي الذي يحاول كسر هذا النظام، يُقصى لأن صوته يُعكر صفو القصة المريحة. لكن في الوقت ذاته، هو الأمل الوحيد لاستعادة الحقيقة الواضحة، وهو صاحب العبء الأكبر لإعادة السردية الأولى لغزة، قبل تشويه طبيعتها واختزالها في منشورات أفراد فاقدين للهوية الجامعة وجاهلين بمتغيرات القضية الفلسطينية الفعلية على الأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته