بينما أعيش هنا بين حطام غزة، ومن حولي أصوات الانفجارات لا تتوقف، ليس في وسعي سوى أن ألعن العالم، وأنقم على وجودي الذي صار أشبه بوجود جرثومة.
ساخطاً على كل ما يحدث، أفتتح يومي بروتين قاس من الألم والمشقة، وحين أفكّر بما يحدث لي، ولنا، أشعر بأنني تلقيت طعنة من مشواري هذا كله، وبتُّ ممدداً بنزيفي وأفكاري البشعة عن العالم، فلم أعد أثق بالحياة، ولا أستسيغها، وكأنني أحمل حجراً في يسار صدري، لا قلباً.
وسط هذا الاستياء، رأيت، كما الجميع، حرائق لوس أنجلوس الأمريكية، وشاهدت الجثث المحترقة والمختنقة؛ بشراً وحيوانات. وذهلت لمرأى المساحات الشاسعة التي تأكلها النار.
شاهدت كل ذلك، بينما كنت أجلس مع أصدقائي في "كافيه". أخذ الجميع يناقش ما يحدث، بينما داهمتني مشاعر الصدمة، وعرفت أنني بحاجة أكبر إلى الصمت، حتى أتأكد من مشاعري.
لا يمكن أن أصف الشامتين بضحايا أمريكا بالوحوش، ولا يمكن أن أقاطعهم، فمشاعرهم تؤكد فكرة وجود الإنسان، باعتباره وعاء للمشاعر والرغبات، لا يعطي إلا ما يتلقى
رأيت في مشاهد حرائق لوس أنجلوس الحزن المشترك بين غزة وأمريكا، وكيف يبدو الإنسان عاجزاً في لحظة، وضعيفاً وسهل الكسر، مثل مِفصل ملقط غسيل.
سمعت كثيرين من حولي في "الكافيه"، حتى أصدقائي، يتشمّتون بالضحايا، ويعتقدون بأن ما يحدث لهم هو عقاب إلهي، لأن أمريكا، كما يرون، هي السبب وراء كل ما يحدث في غزة.
لقد خلط أولئك الشامتون ما بين الحكومة الأمريكية ومواطنها، الذي قد يكون صديقاً أو قريباً لأي شخص يقرأ هذه السطور.
فرصة لإعادة التفكير بالإنسانية
نعم، في قمة قرفي من العالم، وإدراكي لحجم الظلم الواقع على غزة، حزنت على ضحايا الحرائق الأمريكية. لحظة شاهدت البيوت تحترق، استعدت مشاهد الحرائق في جباليا ورفح وغزة، والجثث الملقاة في تلك الطرقات، ذكرتني بـ"طريق الجثث"؛ شارع الرشيد في غزة، الذي صنعه الجنود الإسرائيليون، إرهاباً وإبادة للفلسطينيين.
كارثتان، الأولى من صنع الإنسان والثانية من صنع الطبيعة، لكن الشيء المشترك بينهما هو ألم الإنسان وعجزه عن منع احتراقه.
لا أؤمن بتلك الروابط التي يضعها الناس كمقدمة في حديثهم؛ حول الثواب والعقاب والانتقام الإلهي، لكني أؤمن بأننا أمام مصير مجهول دوماً، وبأن الكوارث ستبقى موجودة في محيطنا، وربما تُزاح عنا قليلاً، لنتمكن من عبور الطريق.
أرى في تلك الأحزان الكثيفة والمآسي التي تصيب الإنسان- في غزة وفي أي مكان في العالم- فرصة لإعادة التفكير في معنى الإنسانية، وأهمية مشاركة الألم أو عدم مشاركته، فمتى عليّ أن أحزن على الآخر؟ وهل هناك جدوى من مفهوم الرثاء العالمي؟ وأين يجب أن يقف فلسطيني وسط الإبادة، ليعزف على البيانو موسيقى السلام والتعاطف، بينما تتراكم من حوله أطنان الديناميت؟
وزن الألم
راقبت بعمق التعاطف العالمي مع ضحايا الحرائق الأمريكية؛ رأيت الهلع والحزن والبكاء، والمسارعة المؤسساتية لتقديم الدعم للضحايا والناجين، وأقسمُ، لو حدث وقدمت الإنسانية لضحايا غزة ربع ما قدمت لضحايا أمريكا، لتوقفت الحرب منذ شهرها الأول. أليست هي ذاتها المشاعر؟ أليس هو ذاته الإنسان؟ لماذا ألقيت غزة في الحفرة، وشارك الجميع في دفن أهلها داخلها؟
لا أخفيكم، أشعر بتلك الأيدي التي تمتد لضحايا أمريكا لتبرّد النار حولهم، أعدّها بذهول، وأتحسر.
لا أخفيكم، أشعر بتلك الأيدي التي تمتد لضحايا أمريكا لتبرّد النار حولهم، أعدّها بذهول، وأتحسر
بالنظر إلى طريقة إدارة الكارثتين، نجد أنفسنا أمام مشهد قاتم، وإنسانية مقسّمة وفقاً لمعايير يصنعها القوي، تماشياً مع مصالحه. شعرت بأن وزن الألم يختلف حسب موقعه الجغرافي، تماماً كما تحتسب القيمة المالية للنقر على الإعلان من شركة جوجل. محبط أن يكون ألم الأمريكي أكثر وزناً من ألم الغزي. دون حيادية، يشترك الجميع في إدارة هذا الميزان المائل.
ولا يمكن إغفال أن القضايا في العالم تدار من القوي بأدوات إعلامية قذرة، هي من توجّه المجتمعات، بهدف تحقيق أجندتها ومصالحها. لكني أضع احتمال أن يكون هنالك شخص يتعرّض الآن للكارثة الطبيعية في أمريكا، سبق وأن تعاطف ولو للحظة مع أهل غزة.
أعرف تماماً كيف عبرت قصص ضحايا غزة مثل أرقام، أو صناديق بلا عناوين، أو كتابات لم تُفتح لمعرفة ما بداخلها، وسُحبت ببلادة لمخازن مهملة. لم يتم إطلاق مشاعر الضحية وصراخها للعالم، فعبرَت مثلما تعبر نملة في الظلام، دون أن يكترث لها أحد، بعكس قصص الضحايا الأمريكيين التي تصنع بعناية، يكتبها متخصّصون بإثارة الحسّ الإنساني، لحشد المشاعر من العالم، وبنفس الطريقة تمّ حشد المشاعر للتعاطف مع الإسرائيليين المعتقلين بغزة، وهذا الاختلاف في السرد وطريقة التقديم، يتبع لإرادة القوي.
الشامتون ليسوا وحوشاً
انتقدني أصدقائي حين أدليت بفكرتي؛ أنا لست شامتاً بضحايا أمريكا، بل أتعاطف مع ضحايا الحريق، وأنفعل، مثلما أفعل مع قريبي وصديقي وجاري ابن غزة الذي أحرقت يد الإنسان الحربية جثته، لكني، في نفس الوقت، لا أهاجم من يشمت من أهل غزة بأمريكا. لا أستطيع فعل ذلك، وأدعو من ينتقد الشامتين أن يأتي ليختبر نصف تجربتنا، ثم يقر بحكمه. لا يمكنني أن أمنع أو أقنّن غضب الناس ويأسهم، كما لا يمكنني أن أسحب خيط الإنسانية من شخص مهدّد بأن يكون جثة تأكلها الكلاب والعصافير والقطط بعد أيام.
لا يمكن أن تُقنع من خضع لتجارب الجحيم المتكرّرة بفعل الإنسان، بقيمة الإنسانية. في أوقات كثيرة أفكر أن مشاعر الغزيين صارت قطعاً أثرية، تصلح لوضعها في متحف، والآن كيف ألوم من يحاول أن يعبّر عن الغضب المكبوت داخله، بطريقته؟
لا يمكن أن أصف الشامتين بضحايا أمريكا بالوحوش، ولا يمكن أن أقاطعهم، فمشاعرهم تؤكد فكرة وجود الإنسان، باعتباره وعاء للمشاعر والرغبات، لا يعطي إلا ما يتلقى، وذلك الطلب بالحصول على المشاعر النبيلة، قد يصير مزحة سمجة في بعض المرات.
ارتفع الصخب على الطاولة مع أصدقائي، واشتد النقاش، ولم يعد يسمع أحدنا الآخر. كان معظم الجالسين غاضبين، لا يقبلون فكرتي. في تلك اللحظة، شعرت بأن التعاطف مع ضحايا أمريكا شيء من الترف، لا يملكه من أهل غزة إلا القليل.
الإنسانية قطعة موسيقية مليئة بالاختلالات
صراع الأفكار والمشاعر المتضاربة، يدفعنا لإعادة تعريف الإنسانية، فالألم الشخصي مسألة ذاتية، والألم الجمعي تم تقديمه وفق قوانين إنسانية وتراث من القيم، لكن عندما يطبق، يتم ذلك بمعايير مزدوجة.
لقد اجتُثّت غزة بيد الوحوش من جذورها، بمن فيها، رُجّت رجّاً، أمام مرأى الجميع، واعتبرت مسألة سياسية، أما في مشهد حرائق أمريكا، فاعتبرت كارثة إنسانية، تتطلب المشاعر الناعمة والتقديس للإنسان. هذه السخرية لا يمكن التصفيق لها. إنها خدعة كبرى تفرغ كل شيء نعيشه من معناه، وأنا شخصياً، تخليت عن دوري في هذا المسلسل الممل.
لقد اجتُثّت غزة بيد الوحوش من جذورها، بمن فيها، رُجّت رجّاً، أمام مرأى الجميع، واعتبرت مسألة سياسية، أما في مشهد حرائق أمريكا، فاعتبرت كارثة إنسانية، تتطلب المشاعر الناعمة والتقديس للإنسان
محاولة فهم الإنسان من خلال هذا العطب، يجعل من العولمة مسألة شائكة، ويكشف عن هشاشة إنسانيتنا، فالضوابط التي وعدتنا بجسر الهوة بين الشعوب، وإزالة الفوارق بينها، صنعت عوالم من طبقات، ومنحت لأحدهم حق سرد قصته ومنعته عن الآخر، أو زيّفت سرديته، ليبقى وحيداً في قاع البئر.
ينظر ميلاند كونديرا إلى الإنسانية على أنها قطعة موسيقية مليئة بالاختلالات، وأرى أن هذه الموسيقى يختبرها الجميع، تمرّ من آذاننا، وليس من المعقول أن تمر دون محاولة للتذوق وتحديد مكان الخطأ ليتم تعديل اللحن. إن استمرار تقسيم الإنسانية حسب القوة والسياسة سيجعل من النبل الإنساني والمشاعر كذبة يتداولها الجميع، وستفقد القصص الإنسانية، مع الوقت، قوتها السردية وعناصر التأثير فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sam Dany -
منذ 5 أيامانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ اسبوعينمبدع