أُعلن عن وقف إطلاق النار في غزة. وبدأ الناس بالخروج من خيامهم وركام منازلهم، ومن خوفهم وإرهاقهم، بخطوات حذرة، مترددين في الحركة والتنفس.
سيرفعون رؤوسهم نحو السماء، يحدقون فيها بحثاً عن الطائرات، ويتساءلون بينهم وبين أنفسهم: "هل غادرت حقاً؟".
انتشر الخبر كالنار في الهشيم، عبر مكبرات الصوت في المساجد، ومن أفواه الباعة المتجولين، ومن منشورات رواد وسائل التواصل الاجتماعي. يُردَّد في كل زاوية، وتعلوا أصوات الزغاريد، مصحوبة بالتهليل بـ"الله أكبر".
خلال لحظات، عمت الفرحة الشوارع؛ ركضٌ، إطلاق صافرات، تبادل التهاني، وبكاء ممتزج بأصوات أبواق السيارات المحتفلة. سيتصالح كثيرون مع الأرض التي أقسموا على مغادرتها بعد الحرب، سيقبلون ترابها، يسجدون فوقها، ويرفعون أطفالهم على الأكتاف بعد أن قضوا عاماً ونصف العام يرفعون أشلاءهم.
وفي ذروة الفرح، سيبقى هناك من يراقب بصمت، دموعه مختنقة، ضحكاته ممزوجة بالحزن. سيتذكر الجميع كيف عاشوا هذا الكابوس لأيام طويلة اعتقدوا فيها أن التنفس نفسه بات ضرباً من الخوف.
لكن هذه اللحظة لن تدوم طويلاً، فبعد أيام قليلة، ستبدأ الحقيقة بالتكشّف. سيظل هوس النجاة حاضراً، يطغى على أي محاولة لاستيعاب الجروح والألم الذي عايشوه.
توقفوا عن المزاح… هل انتهت الحرب فعلاً؟
كيف يمكننا أن نقتنع، بعد أربعمائة وخمسة وستين يوماً من الحرب، أن صوت الطائرات ستختفي؟ أن ضربات المدافع ستتوقف؟ وأن كلمات مثل "مجزرة"، "نزوح"، "استهداف"، و"أحزمة نارية" ستصبح جزءاً من الماضي، بهذه البساطة؟
كيف يمكننا أن نقتنع، بعد أربعمائة وخمسة وستين يوماً من الحرب، أن صوت الطائرات ستختفي؟ أن ضربات المدافع ستتوقف؟ وأن كلمات مثل "مجزرة"، "نزوح"، "استهداف"، و"أحزمة نارية" ستصبح جزءاً من الماضي، بهذه البساطة؟
حتى لو صدقنا ذلك، كيف يمكننا إقناع الآخرين بالنوم بسلام دون أن يوقظهم رعب منتصف الليل، خوفاً من أن يتحولوا إلى أشلاء؟ كيف سنقنع الآباء بالتوقف عن متابعة أخبار المفاوضات لأن "الأمر انتهى"؟ وكيف سنخبر الأمهات أننا سنعود متأخرين دون أن يقلقن من القصف؟ كيف سنجعلهن يتوقفن عن التحديق طويلاً في السماء؟
كيف سنعود إلى الأسواق والتجمعات دون أن تراودنا المخاوف من قصف مفاجئ؟ وكيف سنجيب أطفالنا عندما يسألوننا مراراً: "هل ستعود الحرب؟"
ماذا سنفعل في اليوم الأول بلا موت؟
مر عام وأكثر من نصف العام تحت وطأة الموت والخوف، بين الأشلاء والفقر والجوع والبرد. كم مرة وعدنا أنفسنا والجميع أننا سنغادر هذا البلد فور انتهاء الحرب؟ وعدنا بأننا سننام طويلاً، نختفي، وربما نكفر بكل شيء. لكننا نعلم جيداً أننا لن نفعل شيئاً من هذا. كل ما سنفعله هو الصمت.
سنلتقط أنفاسنا لأول مرة بلا خوف من رصاصة تدخل من فتحة الباب، أو صاروخ يمرّ من خيمة مهترئة، أو صوت يفجع لحظات نعاسنا.
ستقف نساؤنا بأثواب الصلاة البالية، ورجالنا بسجائرهم الرديئة، يتأملون بصمت، ويتمتمون خلف الأغاني التي تُذاع بصوت مرتفع، يراقبون وجوه الأطفال المندهشة بفرحة لا يدركون معناها.
سنمشي كثيراً بعد أن ينام الأطفال. سنصمت، نبكي، ونمشي أكثر مما تحتمله أقدامنا وأرواحنا المنهكة.
سنعود، لكن بأي أقدام؟ بالعكاكيز، بالأرجل الصناعية، وبالكراسي المتحركة. لا منازل تحتضننا، لا شوارع تسير بنا، لا أحياء تنبض بالحياة، لا وظائف نعود إليها، ولا عائلات كاملة تلتئم من جديد.
سنبكي كثيراً في طريق العودة، نتأمل الشوارع المدمرة، الركام المتناثر، وطريق البحر الذي كان يمنحنا الحياة ذات يوم. سنرى زهور الأرصفة تحاول أن تزهر من بين الحجارة. سنلتقي بأبناء العم والخالات وجارات الزمن القديم، وبكل ما فرقنا عنه السابع من أكتوبر، وما جاء بعده.
سنعود، لكن بأي أقدام؟ بالعكاكيز، بالأرجل الصناعية، وبالكراسي المتحركة. لا منازل تحتضننا، لا شوارع تسير بنا، لا أحياء تنبض بالحياة
سنبدأ معاً، خطوة بخطوة، في إزالة الركام، بحثاً عن بقايا ملابسنا وأثاثنا وذكرياتنا التي لم تغادرنا أبداً. سنقف على أكوام الحجارة، نحدق في مدينتنا وحيناً، نراقب الناس وهم يتفقدون منازلهم المهدمة. لا شيء نستطيع فعله سوى الحزن وتأمل ما حدث.
وفي المساء، عندما تهدأ الشوارع ويخفت الضجيج وتنتهي الاحتفالات، سندرك أن الإبادة انتهت، لكن حروباً أخرى ستبدأ مع شروق الصباح.
كيف سيفرح المفقودون في الهدنة؟
أول ما سنفعله بعد يوم واحد من توقف الطائرات وصمت المدافع، هو العودة للبحث عن أشلاء أطفالنا، وعن جثث أحبتنا. سنفتش في المقابر، نحفر قبوراً جديدة تتسع لهذا الموت المتكدس في الشوارع، وفي ساحات المستشفيات، وفصول المدارس، وحدائق الجامعات، وبين بيوت الجيران. الجثث في كل مكان، لا يمكن عدّها أو إحصاؤها. نصف المدينة مفقودة ومجهولة المصير.
فنحن لا ننتظر الهدنة لنحتفل، بل لنكرم موتانا وندفنهم بكرامة، لنتناول طعاماً نظيفاً لأول مرة منذ زمن طويل. نحتاج مياهاً نظيفة، حماماً بلا طوابير، ووقتاً لتضميد جراحنا وفحص أجسادنا الهشة التي ما زالت تنبض بالحياة.
نريد احتياجاتنا الأساسية: فوطاً نسائية، ملابس، بطاطين تقي من البرد. نريد يوماً واحداً طبيعياً، يوماً بلا شعور أن حقوقنا تحولت إلى أحلام بعيدة المنال.
لا نريد أن نفرح فقط بالحصول على وجبة طعام، ولا أن نُدهش لرؤية الفواكه والخضراوات. نريد أن نستعيد حياتنا السابقة، حتى وإن كانت نسخة رديئة منها.
توقّفت الحرب، لكنها لم تنتهِ داخلنا. وأشد الأمور بؤساً، بعد خبر وقف إطلاق النار، أن الخيام والطوابير ستظل قائمة، قائمة أطول من قدرتنا على الصمود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته