شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لم يبدأ مع البوعزيزي ولم ينتهِ معه... ماذا نعرف عن الانتحار الاحتجاجي في تونس؟

لم يبدأ مع البوعزيزي ولم ينتهِ معه... ماذا نعرف عن الانتحار الاحتجاجي في تونس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 15 يناير 202503:40 م

في كتابه "المياه كلها بلون الغرق" يقول إميل سيوران: "لا أحيا إلا لأن في وسعي الموت متى شئت، ولولا فكرة الانتحار نفسها لقتلت نفسي منذ البداية".

ويبدو أن هذه النظرية العدمية التي روّج لها الفيلسوف خلال القرن العشرين يتم تبنيها أكثر فأكثر من قبل الإنسان المعاصر الذي أصبح شديد التأثر بالعوامل الاجتماعية والنفسية، فإحصائيات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن أكثر من 720,000 شخص ينتحر سنوياً، وأن الانتحار هو ثالث سبب للوفاة لدى الشريحة العمرية المتراوحة بين 15 و29 سنة.

تونس ليست بمنأى عن هذا الإشكال الذي بات يؤرق العالم برمته، خاصة منذ الثورة التي اندلعت شرارتها بحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه في ساحة عامة. فقد رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 75 حالة ومحاولة انتحار في الستة أشهر الأولى من سنة 2024، كما رصد 95 حالة ومحاولة انتحار سنة 2023.

إلا أن هذه الأرقام غير صادرة عن جهات رسمية، كما أنه لا توجد إحصائيات رسمية في السنوات الأخيرة حول حالات ومحاولات الانتحار، وحتى إن وجدت، لم يتم الإعلان عنها ليتم من خلالها استقاء أعداد أكثر دقة وأقرب للواقع. فالمنتدى، رغم مجهوداته المبذولة في رصد حالات ومحاولات الانتحار، يشير في جل تقاريره إلى أنه يستند في عملية الرصد إلى وسائل الإعلام وفروعه الجهوية.

دوافع نفسية أم اقتصادية؟ 

منذ بداية سنة 2025، رصدت وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني ثلاث حالات انتحار. وقد أعلن الراديو المحلي "ديوان إف إم" عن فاجعة انتحار تلميذ بالمعهد النموذجي في محافظة سيدي بوزيد، وذلك بسبب حصوله على عدد 10 من 20، وفق ما تم تداوله. كما أعلن رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان، مصطفى عبد الكبير، عن انتحار شاب في القيروان كان قد أضرم النار في جسده يوم 4 كانون الثاني/يناير الجاري، وكذلك عن انتحار شاب آخر من محافظة القصرين. 

رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 75 حالة ومحاولة انتحار في الستة أشهر الأولى من سنة 2024، كما رصد 95 حالة ومحاولة انتحار خلال سنة 2023، ومنذ بداية سنة 2025 رصدت وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني ثلاثَ حالات انتحار في البلاد 

بدوره، بيّن الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، أن المنتدى سجل، حسب العينة المرصودة خلال شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، تسع حالات ومحاولات انتحار، و133 حالة ومحاولة انتحار كعدد إجمالي للحالات المسجلة طيلة سنة 2024، مشيراً إلى أنه يتم الاعتماد في رصد الحالات على ما ينشر في وسائل الإعلام بعد التثبت منه، وما يتم رصده على مستوى الفروع الجهوية للمنتدى من خلال عملهم الميداني، ويمكن أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى، بحسبه.

تواتر حالات ومحاولات الانتحار، وتوزعها بين مختلف الفئات العمرية، لتطال الشباب والأطفال والكهول والشيوخ، يثير العديد من التساؤلات حول الأسباب التي تقف وراءها.

يذهب المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه إلى أن ظاهرة الانتحار تزيد في المجتمعات كلما تعقّدت الحياة، وصعُب على الأفراد كسب قوتهم وتحقيق ذواتهم، فيتعرضون لضغوط كبيرة. والأشخاص المهيؤون لوضع حدٍّ لحياتهم عندما ينهزمون أمام الشدائد يقومون بفعل عنيف موجه نحو الذات.

ويقول الفقيه في حديثه لرصيف22: "في العاشر من أيلول/سبتمبر من كل سنة، تحيي منظمة الصحة العالمية يوم منع الانتحار، وتُعرّف الانتحار على أنه وباء يمكن الوقاية منه". ويضيف بأن بعض المراحل والفترات التي تعيشها المجتمعات تكثر فيها ظاهرة الانتحار لدرجة أن الناس يشعرون وكأنها ظاهرة جديدة، في حين أن الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم أثبت منذ القرن العشرين أن الانتحار ظاهرة مستقرة في المجتمع.

ويرى الفقيه أن أسباب الانتحار بصفة عامة عديدة، وكان دوركهايم قد أحصاها عندما بيّن أن الأصل في الشخصية هو الهشاشة. بمعنى أنه عندما يصبح الإنسان غير ضامن لتلبية احتياجاته المادية، ويعاني من ضغوط نفسية أو يتعرض للقهر ويعجز عن حل مشكلته، يعتقد أن وضع حد لحياته هو إنهاء لهذه الأحاسيس.

ولفت إلى أن المحرج في تونس هو أن الانتحار يقترب من مرحلة الطفولة، المعرفة بسن الثامنة عشرة. ويشير المتحدث إلى أن أسلوب الانتحار حرقاً ضارب في القدم، وظهر تقريباً منذ عهد عليسة، وليس فقط في حادثة محمد البوعزيزي التي أراد من خلالها أن يقول إنه استنفد كل الطرق لتجاوز الضغوط التي يعيشها، لكن المجتمع والقانون الصارم حالا دون تحقيق أهدافه، فاختار الانتحار أمام الجميع ليلقي اللوم على من أجبره على خسارة حياته. كما لفت إلى أن للانتحار أساليب عديدة، وفي بعض الأحيان يختار الشخص هذا الأسلوب الأبشع والأكثر ألماً سعياً لاستدرار التعاطف من الآخرين. 

وتقول الرواية إن عليسة هي أميرة فنيقية تحايلت من أجل الفرار بكنوزها مصطحبة معها وعدداً من سادة قومها، واستقرت في تونس حيث أسست مدينة قرطاج، وبحسب الروايات فقد انتحرت بإلقاء نفسها في النار وفاء منها لذكرى زوجها بعد أن كان الملك البربري إيارباس قد طلب الزواج منها.

الانتحار بين الإحصائيات والمقاربات

أوضح الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، أن المنتدى يمتلك معلومات مؤكدة عن محاولة شاب من محافظة القيروان حرق نفسه بداية السنة، موضحاً أن فترة نهاية السنة تعرف عادة بتوترات على المستوى الاجتماعي لأن العطل المدرسية تتيح للعائلات الالتقاء لفترات أطول، ما قد يخلق ضغطاً، ناهيك عن الوضع الاجتماعي وحالة الإحباط التي أصابت فئات واسعة من التونسيين والتونسيات.

وأكد بن عمر وجود حالات انتحار، لكن لا يمكن الحديث عن ظاهرة أو ارتفاع كبير، لأنها حالات تتواتر بدون نمطية زمنية واضحة، ولا خيط ناظم يجمعها. بل إن الوضع الاجتماعي والنفسي هما الدافع الأساسي للانتحار. 

كثير من محاولات الانتحار في تونس تقترب من سن الطفولة، فوفق الإحصائيات 18% من جملة 75 حالة خلال الستة أشهر الأولى من 2024 كانت لأطفال.

وأشار إلى أن استعمال وسيلة الحرق للانتحار يشيع بين الفئات العمرية ما بين 25 و45 سنة، والحرق يحيل إلى رمزية تاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر وله علاقة بالانتحار الاحتجاجي، وهو شكل من أشكال محاولة لفت الانتباه بطريقة فيها مسرحة للفضاء وتحضير للأدوات وتوجيه للرسائل قبل العملية، وكأن المنتحر يبحث عن شكل من أشكال الاعتراف بعد الحادثة.

وحذر رمضان بن عمر من أن الانتحار في تونس أخذ أبعاداً خطيرة خاصة لدى الفئات العمرية الصغيرة في غياب العمل على المستوى المركزي وغياب رؤية واستراتيجية واضحة، والاقتصار فقط على ردة الفعل. لافتاً إلى أن موضوع الانتحار، بعد ما أثار الرأي العام في السنوات الأخيرة، دفع وزارة الصحة إلى بعث لجنة تقنية للتعامل مع هذه الظاهرة، لكنها اختفت بعد إصدار تقرير واحد لسنة واحدة.

وأكد المتحدث أن ما يهم المنتدى هو مسألة محاولة الانتحار ومسألة الإحاطة الاجتماعية والنفسية بهذه الفئة، لأن هناك نسب عود، وهو ما يؤكد عدم إعطاء الأهمية اللازمة لمحاولات الانتحار، وكأن الدولة منخرطة في وصم من يحاولون الانتحار من خلال رفضها التعامل الجدي مع الموضوع.

وأشار إلى أن الحل يمر عبر مقاربة متكاملة للدولة وأجهزتها تنخرط فيها وسائل الإعلام والمجتمع المدني وكل المتدخلين في الموضوع، لتكون رؤية فيها تنسيق وتبادل أدوار ومقاربات على المستوى التربوي والثقافي للتصالح مع التحديات النفسية التي نواجهها بعيداً عن الحلول اليائسة.

كما شدد على أن الجانب النفسي والصحة النفسية مهمان، ولا بد من إعادة الاعتبار لهذا الجانب الذي ما زال غامضاً (تابو) على المستوى العائلي والأوساط الاجتماعية الضيقة التي لا توليه الأهمية الكافية، مشيراً إلى أن مسألة الإنصات داخل العائلات مهمة، لكنها غائبة، في الوقت الذي أصبح فيه التونسي مثقلاً بالرهانات، ليس فقط الشخصية والعائلية، بل الاقتصادية والاجتماعية التي تطرح عليه تحديات جديدة.

ما زال موضوع الانتحار يحظى باهتمام بالغ من قبل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كما يحظى ضحاياه، سواءً الذين تمكنوا من وضع حد لحياتهم أو حاولوا ذلك، بتعاطف اجتماعي، خاصة في حالات بعينها، مثل انتحار أستاذ بسبب تعرضه لحملة تنمر.

وقد وضعت وزارة الصحة التونسية دليلاً للتناول الإعلامي المهني لمسألة الانتحار، دعت فيه إلى تبني خطاب إيجابي، وحثّ الأسرة على الإنصات للمراهقين، وتسليط الضوء على استراتيجيات الوقاية من الانتحار، واحترام خصوصية الأشخاص المعنيين بالانتحار وعائلاتهم.

الأرقام تتخذ منحى تنازلياً

لئن تصاعدت وتيرة الانتحار ومحاولات الانتحار في تونس، فإن المؤكد، وفق الإحصائيات والأرقام المتوفرة، أنها تراجعت مقارنة بالسنوات التي تلت الثورة مباشرة. فقد كشف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تقرير له أن حالات ومحاولات الانتحار بلغت 75 حالة، مقابل 95 حالة سنة 2023، و111 حالة سنة 2022 حتى شهر تشرين الثاني/نوفمبر، و181 حالة سنة 2021، و235 حالة سنة 2020، و268 حالة سنة 2019، و467 حالة سنة 2018، و626 حالة سنة 2017. 

أغلب حالات ومحاولات الانتحار يتم تسجيلها في المناطق الهشة. لا سيما في محافظات القيروان والقصرين وسيدي بوزيد وقفصة، ويعود ذلك، بحسب الدراسات، إلى عدة عوامل، منها النفسية، والاقتصادية، وكذلك الانقطاع المبكر عن الدراسة

وبخصوص حالات ومحاولات الانتحار المسجلة سنة 2015، فقد بلغت 549 حالة، وفق معطيات المنتدى، وهي أرقام مرتفعة مقارنة بالأرقام المسجلة سنة 2014 والتي بلغت، وفق معطيات قدمها رئيس قسم الطب الشرعي بمستشفى شارل نيكول، منصف حمدون، 372 حالة. أما في سنة 2013، فقد تم تسجيل 304 حالات انتحار، وفق معطيات قدمها وزير الصحة آنذاك، محمد صالح بن عمار، مبيناً أن محاولات الانتحار يمكن معرفتها بضرب عدد حالات الانتحار في خمس مرات.

وفي غياب إحصائيات واضحة عن حالات ومحاولات الانتحار لسنتَي 2011 و2012، أشارت رئيسة اللجنة الفنية لمقاومة الانتحار بوزارة الصحة، فاطمة الشرفي، إلى أن طرق الانتحار العنيفة، مثل الحرق، تضاعفت عشرين مرة منذ الثورة.

والملفت للانتباه هو أن العامل المشترك بين جميع حالات ومحاولات الانتحار طيلة السنوات التي تلت الثورة وإلى غاية سنة 2024 هو أن نسبة المنتحرين والمحاولين أغلبها من الشباب والذكور، وأعلى النسب مسجلة في المناطق الداخلية غالباً.

لكن الأخطر من هذا هو ارتفاع محاولات الانتحار في صفوف الأطفال، فقد بلغت نسبة محاولات وحالات الانتحار في صفوف الأطفال، وفق إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 18% من جملة 75 حالة خلال الستة أشهر الأولى من سنة 2024.

ويشير مصطفى عبد الكبير، في حديثه لرصيف22، إلى أن أغلب حالات ومحاولات الانتحار يتم تسجيلها، حتى من قبل سنة 2011، في المناطق الداخلية والمناطق الهشة. وطالما حافظت محافظات القيروان والقصرين وسيدي بوزيد وقفصة على الصدارة في نسب حالات ومحاولات الانتحار سنوياً، لافتاً إلى أن ذلك يعود إلى عدة عوامل، منها النفسية، ومنها متغيرات المناخ والحدود والصعوبات الاقتصادية، وكذلك الانقطاع المبكر عن الدراسة.

وأعرب عبد الكبير عن أسفه لنقص التفاعل من قبل السلطات مع هذه المسألة، التي تحتاج إلى تعميق الدراسات حول أسباب الانتحار، ودراسة خارطة الانتحار في تونس.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image