على طريقة "بيدي لا بيد عمرو"، اختار بعض التونسيين وضع حد لحياتهم هرباً من أوضاعهم الصعبة. منهم من لم يعش أكثر من سنوات قليلة كانت كافية لتجعله يتخذ قرار مغادرة الحياة حرقاً أو شنقاً أو رمياً بنفسه من مكان مرتفع. تتعدد الأساليب ولكن الانتحار واحد والأسباب كثيرة.
في شهر أبريل الماضي، قرر التلميذ جميل المنصوري (14سنة) أن يضع حداً لحياته بإضرام النار بنفسه. قيل أنه فعل ذلك احتجاجاً على تعنيفه من قِبل مدير مدرسته الواقعة في محافظة سيدي بوزيد. وفي محافظة القيروان، أقدمت فتاة في العاشرة من عمرها على الانتحار شنقاً بتعليق نفسها بإحدى الأشجار في محيط منزلها. المنصوري وفتاة العاشرة ليسا الحالتين الأولى والأخيرة. عشرات التونسيين قرروا الانتحار لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية. فعقب ثورة 14 يناير، ارتفعت معدلات الانتحار بشكل كبير. ربما يقتدي التونسيون بمحمد البوعزيزي الذي أضرم النار بنفسه وبنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وكان المرصد الاجتماعي التونسي كشف، في آخر تقرير أصدره، عن تزايد محاولات الانتحار خلال شهر أكتوبر الماضي لتبلغ 15 حالة أدت في معظمها إلى وفاة الضحية. علماً أن العدد كان 23 حالة خلال شهر أغسطس و8 حالات خلال شهر سبتمبر توزّعت على مختلف الفئات العمرية والاجتماعية. ويشير التقرير إلى تنوّع طرائق الانتحار بين الشنق والحرق والسقوط من المباني العالية، وإلى تنوّع الدوافع، فبعضها اجتماعي ونفسي وبعضها الآخر احتجاجي.
وبرغم عدم وجود أرقام دقيقة عن ظاهرة الانتحار في تونس قبل الثورة، فإن اختصاصيين نفسيين أشاروا إلى تضاعف معدلاتها 3 مرات بعد الثورة. وصل العدد إلى 111 حالة خلال النصف الأول من سنة 2011، منها 58 حالة قام بها شباب تتراوح أعمارهم بين 15 و25 سنة، وبينها 69 حالة حرقاً. وخلال السنوات الثلاث الأولى من الثورة، أي من يناير 2011 حتى أواخر العام 2013، بلغ عدد وفيات الانتحار في البلاد حوالى 450 حالة، وبلغ معدّل محاولات الانتحار 20 محاولة شهرياً.
في البحث عن الأسباب والدوافع الكامنة وراء ارتفاع معدلات الانتحار في تونس، يشير الخبراء إلى عوامل عدّة لعل أهمها اليأس الذي تعيشه قطاعات واسعة من المجتمع التونسي. فبعد الثورة، عانت البلاد من تراجع النمو الاقتصادي وتعمقت التباينات الطبقية والاجتماعية وتفشت نزعات العنف الإجرامي والإرهابي. هذا الواقع دفع التونسيين للهروب إلى عوالم أخرى غير هذه "الحياة". فبعد تعليقهم آمالاً عريضة على الثورة، لم يحصدوا غير خيبات الأمل برغم النجاح النسبي على المستوى السياسي.
في حديث لرصيف22، قال الباحث الاجتماعي، محمد الطيب، إن "الوضع العام في البلاد خلال فترة ما بعد الثورة يدفع المواطنين إلى اليأس. فقد أثّر الجوّ السياسي المحتقن سلباً على المزاج العام في تونس خاصةً في ظل تنامي العنف السياسي و"الجهادي" والاغتيالات السياسية، وهي ظواهر لم يألفها التونسيون من قبل".
وأكّد الطيّب أن "ما خلّفه الوضع السياسي من "حطام اقتصادي" كبير أثر سلباً في الوضع الاجتماعي. فمعدلات البطالة في صفوف الشباب ارتفعت بشكل كبير والفقر تفشى على نحو ملحوظ، وسوء توزيع الثروة بين الفئات والجهات أصبح سمة بارزة للوضع التنموي العام". من هذا المنطلق، لاحظ "ارتفاع معدلات الانتحار احتجاجاً مقارنة بحالات الانتحار التي تحدث عادةً نتيجة دوافع نفسية".
وأضاف أن "التأثير السلبي للأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستقرة لا يتجلّى في ظاهرة الانتحار فحسب، بل يتجلّى أيضاً في ظواهر سلبية أخرى كتعاطي المخدرات والاغتصاب والاعتداء على الأطفال والعنف الموجّه ضد المرأة والجريمة المنظمة".
ورأى الطيّب أن "الانتحار هو أحد أساليب الهروب من الواقع لدى فئة ذات نفسية هشة غير قادرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية". ولفت إلى "أن هناك أساليب أخرى يلجأ إليها التونسيون وهي عبارة عن انتحار غير مباشر ولعل أهمها ظاهرة "الحرقة"، أي الهجرة غير الشرعية في قوارب الموت، وظاهرة الالتحاق ببؤر التوتر في العالم الإسلامي في سوريا والعراق والقتال في صفوف الجماعات المتطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية وغيره من جماعات العنف الديني". وتحدث عن رصده عشرات الحالات من الشباب المحبط الذي "فضّل الالتحاق بداعش هرباً من واقع أليم".
على الرغم من تعاظم ظاهرة الانتحار، فلا تزال الدراسات والأبحاث التي تتناولها شحيحة جداً إذ هناك صعوبة في الحصول على أرقام رسمية لحالات الانتحار وتوزيعها العمري والاجتماعي والمناطقي، باستثناء بعض الإحصاءات التي تنشرها منظمات المجتمع المدني والتي تنقصها الشمولية والدقة في كثير من الأحيان.
قبل أسبوعين، اعترف وزير الصحة التونسي محمد بن عمار بـ"أن ليس هنالك إحصاءات دقيقة لعدد حالات الانتحار في تونس" وبـ"أن الدراسات الموجودة حالياً عن هذه الظاهرة تُعدّ منقوصة". الوزير الذي كان يتحدث خلال ملتقى محلي عن "الوقاية من الانتحار"، أكّد "أنه سيتم قريباً الانطلاق في إعداد سجل وطني للانتحار لأول مرة في تونس، وهذا ما يساعد في تأمين جميع المعطيات والإحصاءات الدقيقة والصحيحة المتصلة بهذه الظاهرة وتشخيصها والحدّ منها".
ربما يفي الوزير بوعده ويخرج "السجل الوطني للانتحار" إلى النور قريباً.ولكن كل المعطيات تشير إلى أن معالجة أسباب هذه الظاهرة تحتاج إلى وقت طويل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين