شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"عائدون إلى سوريا"... سقوط النظام يعيد الخيارات إلى اللاجئين السوريين في تركيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 14 يناير 202512:00 م

"استبينا"، يقول هاشم بكور (50 عاماً)، من ريف حلب، ويملك محلاً لبيع الخضروات والفواكه في إسنيورت في إسطنبول، بلهجته السورية، ويعني أننا فعلنا كل شيء هنا، ونريد العودة إلى مكاننا الطبيعي. وردّاً على سؤال رصيف22: "متى العودة؟"، يجيب: "لن أنتظر كثيراً. أحتاج إلى شهرين فقط حتى أسلّم المحل وأنتهي من الحسابات المالية وأعود. أرسلت ابني حسن، قبل أيام إلى حلب، لكي يستطلع الأحوال تمهيداً لعودة العائلة".

أما أبو محمود مرعي (58 عاماً)، من ريف حلب، فلم يحسم أمره بعد. يقول لرصيف22، إنه يريد أن يطمئن على الوضع الأمني في سوريا، قبل أن يتخذ قرار العودة، فمسألة الأمن والأمان ضرورة بالنسبة له: "لقد فقدت ثلاثةً من أشقائي هم وعائلاتهم في الحرب، نتيجة قصف النظام في العام 2013، ولا أريد أن أذهب دون ضمانات"، صحيح أنّ قرار العودة بالنسبة لأبي محمود متّخذ، لكنه ينتظر الوقت المناسب، فكل الذين التقيناهم من السوريين في إسطنبول يريدون العودة إلى سوريا، والمسألة مسألة وقت فحسب.

نهاية التغريبة السورية؟

مرّ وقت طويل على اللاجئين السوريين في تركيا، قبل أن يصلوا إلى "لحظة النهاية"، نهاية تغريبتهم التي طالت كثيراً. ففي السنوات التي خلت من عمر هجرتهم القسرية، كان الأمل يصعد ويهبط، تبعاً لحال سوريا وحربها الطاحنة.

"لا أريد أن أذهب دون ضمانات" و"المسألة مسألة وقت فحسب"... كيف يفكّر السوريون اللاجئون إلى تركيا بعد سقوط نظام بشار الأسد؟ وما هي العوامل التي ترتهن بها عودتهم إلى بلدهم؟

سوريون عائدون من تركيا إلى بلدهم

مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأت ملامح الأمل الممزوج في اليقين، ترتسم على وجوههم. "المعارضة المسلحة استعادت حلب، وهذا يعني أنّ توازناً ما قد حدث، توازن يجعل المرء أقرب إلى العودة"؛ هذا ما يقوله محمد الفرج (42 عاماً)، واللاجئ إلى تركيا حيث يقيم في منطقة أفجلار في إسطنبول، وهو من ريف القنيطرة، ويعمل مترجماً محلّفاً معتمداً لدى الدوائر الرسمية التركية.

ناصر الخطيب (55 عاماً)، صاحب محل مفروشات في إسطنبول، التي قدِم إليها من دمشق قبل أكثر من عشر سنوات، يتحدث إلى رصيف22، عن تسارع الأحداث التي وصلت حدّ سقوط النظام. يقول: "الأثر كان واضحاً وجليّاً لنا جميعاً. إسقاط النظام يعني أنه أصبح لدينا خيار آخر، غير هذا الخيار الذي نحياه، ونتحمل بصعوبة كبيرة تبعاته على كل الأصعدة. سقوط النظام يقابله صعودنا". قالها ولحظات الفرح بادية على وجهه، فالخيار الجديد بالنسبة له ولغيره ممن قابلهم معدّ التقرير، يعني العودة إلى الديار وبدء البناء من جديد.

الكثير من السوريين الراغبين في العودة، يعتقدون أنّ عودتهم مسألة وقت. كل من حاورهم رصيف22، أظهروا رغبةً في العودة سريعاً، ولكن كلهم يريدون أن يكملوا بعض الإجراءات الضرورية. غالبية المواعيد التي ضربوها لعودتهم ترتبط بشهر رمضان، أو انتهاء الموسم الدراسي، أو انتهاء الصيف.

"بداعي السفر"

أمّ عمار مدخنة (65 عاماً)، القادمة من دمشق قبل 14 عاماً لاجئةً إلى تركيا، تسكن في إسنيورت في إسطنبول، وتعمل مدرّسةً للتربية الدينية في إحدى الجمعيات الخيرية. عرضت قبل أيام على مجموعات واتساب، عفش منزلها للبيع، تحت عنوان: "بداعي العودة إلى سوريا"، وبالمناسبة غالباً ما كان السوريون في إعلاناتهم يضعون جملة "بداعي السفر"، دون تحديد الوجهة، وفي حالة أم عمار كانت الوجهة محددةً هذه المرة.

محمد أمين، درعاويّ يعيش في إسطنبول، قرر عدم الانتظار: "سأعود إلى درعا بعد أيام بصحبة عائلتي، وسيبقى أحد أولادي ليهتم بإنهاء بقية التفاصيل". أمين البالغ من العمر 70 عاماً، لم ينقطع عنه الأمل؛ غالباً ما كان يحلم باقتراب هذا اليوم. "لقد بدأت بالاتصال بالأقارب في سوريا، لتحضير المنزل الذي سأستقرّ فيه".

بعض السوريين الذين يمتلكون منازل في تركيا، عرضوا منازلهم للبيع. ليلى محمد (64 عاماً)، من دمشق، عرضت منزلها للبيع في إسطنبول  والذي اشترته قبل سنوات بعد حصولها على أموال التقاعد من وكالة "الأونروا" التي عملت فيها مرشدةً اجتماعيةً، وطلبت من وكيلها في دمشق عدم تجديد عقد إيجار منزلها هناك، لأنها ستعود بعد بيع منزلها في إسطنبول.

سوريون عائدون من تركيا إلى بلدهم

52 ألف عائد

منذ سقوط النظام قبل شهر تقريباً، بلغ عدد السوريين العائدين إلى بلادهم، 52 ألفاً حتى اليوم، وفق إحصائيات وزارة الداخلية التركية. صحيح أنّ هذا الرقم قليل جداً، نسبةً إلى أعدادهم التي بلغت قرابة 3 ملايين لاجئ، لكن من الملاحظ أنّ وزارة الداخلية التركية أعطت تصاريح سفر للسوريين، للذهاب لزيارة سوريا، واشترطت في هذا التصريح أن يُعطى لفرد واحد من العائلة، تُسمح له بزيارة سوريا والعودة قبل نهاية شهر تموز/ يوليو 2025. الهدف من تصريح الزيارة هذا، استطلاع الوضع وتأمين فرصة العودة في المستقبل القريب، لكن الوزارة لم تفصح حتى كتابة هذه السطور، عن عدد التصاريح التي منحتها إلى الآن.

الحكومة التركية من جانبها، أصبحت مقتنعةً بأن مسألة اللاجئين في تركيا، أصبحت منتهيةً، ولم تعد موضع تجاذبات داخلية كانت حتى الأمس القريب عنواناً صادماً متكرراً بينها وبين المعارضة. واللافت أنّ الأتراك، قد طووا هذه المرحلة، فقبل أسبوع كانت لهم تظاهرة في إسطنبول تحت شعار: "بالأمس آية صوفيا، واليوم الأموي، وغداً الأقصى".

وزارة الداخلية التركية أعطت تصاريح سفر للسوريين، للذهاب لزيارة سوريا، واشترطت في هذا التصريح أن يُعطى لفرد واحد من العائلة، تُسمح له بزيارة سوريا والعودة قبل نهاية شهر تموز/ يوليو 2025. الهدف من تصريح الزيارة هذا، استطلاع الوضع وتأمين فرصة العودة في المستقبل القريب

سوريون عائدون من تركيا إلى بلدهم

وما يؤكد هذا التوجه، حديث سائق التاكسي التركي، قبل أيام معدّ التقرير، عندما سأله: "من أي البلاد أنت؟". وعندما أجابه بأنّه من فلسطين، قال له: "بعد دمشق، القدس إن شاء الله".

للدقة، فإنّ مجريات الأحداث في سوريا، سمحت لتيار شعبي تركي بإعلان رأيه، وبصورة علنية بأنّ تركيا معنية اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بالتدخل في الشأن الإقليمي، وفلسطين من أولوياتها. وتنعكس خطابات المسؤولين الأتراك، على الشارع مباشرةً. جار معد التقرير، العجوز التركي، طلب منه الانتظار قليلاً: "فقط سنة واحدة، وسترى الفرق في ما يتعلق بفلسطين، عليك بالصبر فقط". سمعت كلامه، وكل ما كان يعنيني منه أن نزعة العنصرية والعنصريين التي استفحلت كثيراً، في السنوات الثلاث الماضية، قد تراجعت إلى حدودها الدنيا، بعد أن اتضحت الصورة، ولم يعد هناك قلق من "الديموغرافيا السورية التي تهدد النسيج التركي"، وفق مزاعم النخب السياسية التركية في الأحزاب العنصرية، والتي بنت نصها السياسي على قضية اللاجئين السوريين، كحزب "الظفر" وحزب "الجيد" وأصوات أخرى داخل حزب الشعب الجمهوري المعارض.

وبالمناسبة، بعد إعلان سقوط النظام ودخول المعارضة إلى دمشق، يلاحظ السوريون المقيمون في تركيا غياب الحملات الأمنية التي كانت تستهدف الأجانب، خاصةً السوريين منهم، ولم يعد يلاحَظ جهاز الشرطة التركية وهو يوقف المخالفين منهم، وعادت الأمور إلى سنوات اللجوء الأولى، حيث بات هناك تسامح أكبر مع السوريين الذين دخلوا تركيا تهريباً عبر الحدود البرّية الطويلة بين البلدين، فالحملات الأمنية بالأساس، كانت تستهدف كل من لا يستوفي شروط الإقامة الإنسانية، وبذلك ينتهي الهدف من الحملات تلك. كما وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، السوريين الراغبين في البقاء بتركيا بـ"ضيوفنا".

سوريون عائدون من تركيا إلى بلدهم

تبعات اقتصادية

ومع طي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة، لا تزال هناك قضايا شائكة، تتعلق بالوجود السوري في تركيا، وشكله المستقبلي، بعد الحديث غير الرسمي من قبل صحافيين أتراك وبعض العاملين السوريين في الشأن الإعلامي، عن مسعى الحكومة التركية خلال منتصف الصيف المقبل، لإلغاء نظام الحماية المؤقتة للسوريين "الكمليك"، وفتح المجال لمن يريد البقاء منهم في تركيا، وذلك من خلال تحويل "الكمليك" إلى إقامة نظامية تُعطى بعد توافر شروط البقاء في تركيا، كوجود "إذن عمل"، أو قبول جامعي للطلاب، فتقديرات المتابعين للشأن السوري، تفيد بوجود 500 ألف عامل سوري في مختلف القطاعات الإنتاجية، منهم 100 ألف عامل مسجّل بشكل قانوني حتى لحظة سقوط النظام. وفي كل الأحوال، ما زال الوقت متاحاً، لبناء تصوّر حكومي يأخذ في الحسبان حاجة الاقتصاد التركي إلى العمالة السورية، فلم تعد المسألة السورية مسألةً إنسانية وسياسيةً، بعد سقوط النظام، وهي في طريقها لتتحول إلى علاقة ثنائية تقوم على المنفعة للطرفين، خاصةً بعد أن جنّست الحكومة التركية، 238 ألفاً و55 شخصاً من السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة، بشكل استثنائي منذ بدء اللجوء السوري، تحت بند الجنسية الاستثنائية، وفق معايير حددتها مسبقاً، منها حيازة المتقدم شهادةً جامعيةً، أو إثبات وجود مشروع استثماري له في تركيا، وربما هذا الأمر سيرتبط مستقبلاً بالعمالة السورية المسجلة بشكل قانوني، لناحية إضافتها إلى قوائم المجنّسين.

درويش الذي لا يخفي بعض القلق على مستقبل العودة إلى سوريا، نتيجة الأخبار عن عدم عودة الاستقرار الأمني إلى حلب، يقول برغم ما سبق: "لقد خُيّرنا الآن بين البقاء في تركيا، تحت رحمة الغلاء الفاحش، والعودة والبناء من الصفر... المهم أصبح لدينا خيار آخر"

مراحل متعددة

لقد مرّت الشخصية السورية بمراحل متعددة، منذ أن بدأت محنة اللجوء، وغالباً لم تكن تعبّر عن كينونتها الأصلية، بعد أن أحاطت نفسها بالغموض، بهدف الدفاع عن الذات التي تعرّضت للكثير من الاهتزاز والخيبات وفقدان الأمل، فلقد كان الشعور الطاغي لدى غالبية اللاجئين السوريين، أنهم لم يكونوا فقط ضحايا للنظام السوري السابق، بل ضحايا للمعارضة السورية أيضاً التي تركتهم دون تمثيل مصالحهم في دول اللجوء، بالإضافة إلى تخاذل المجتمع الدولي والمؤسسات المنبثقة عنه في حمايتهم وتقديم الدعم المالي والقانوني لهم. مثلّث "المظلومية" هذا، جعلهم يشعرون بأنّ خلاصهم فرديّ، ما رتّب أعباء إضافيةً عليهم، زاد من حدّتها انعدام الأفق السياسي لحلّ قضيتهم، وبعد إعلان سقوط النظام، أصبحت كل الخيارات متاحةً أمامهم.

اليوم كان الفرح بادياً على وجوه الجميع، "لقد تخلصنا من كل الظروف التي دفعتنا إلى اللجوء، وأصبح لدينا دولة ووطن وسنعود جميعاً"، وفق محمد درويش (42 عاماً)، القادم من مدينة حلب، والذي يعمل في مكتب لتقديم الخدمات الاستشارية الطبية للقادمين العرب، في ما يُعرف بـ"السياحة الطبية". درويش الذي لا يخفي بعض القلق على مستقبل العودة إلى سوريا، نتيجة الأخبار عن عدم عودة الاستقرار الأمني إلى حلب، يقول برغم ما سبق: "لقد خُيّرنا الآن بين البقاء في تركيا، تحت رحمة الغلاء الفاحش، والعودة والبناء من الصفر... المهم أصبح لدينا خيار آخر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image