يقع منزلي في دمشق بين اثنين من أفرع الأمن التابعة للنظام السوري السابق، المخابرات الجوية وأمن الدولة. طوال أعوام حياتي الاثنين والأربعين، كان هذان البناءان وعناصر المخابرات الذين يقفون خارجهما، جزءاً راسخاً من مشهدي اليومي: عند أي خروج أو عودة للمنزل، لا بد أن ألتقي بهم. ربما ألقي التحية وربما لا، لكن دائماً ما كنت أفكّر بأن من الأفضل المشي بسرعة واجتياز المكان دون لفت نظر. وبعد اندلاع الثورة عام 2011، ما عاد بإمكاني المرور بجانب هذين البناءين وغيرهما من الأفرع المنتشرة في أنحاء البلاد، دون الإنصات لعلي أسمع صوتاً ما من أحد الأقبية، مع وجود آلاف المعتقلين والمغيبين قسرياً في السجون.
اليوم، كل هذا تغيّر وانقلب المشهد رأساً على عقب، بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر.
أخرج كل صباح، وعند وصولي إلى جانب "الجوية" أبتسم بهدوء، وألقي تحية على جدران وأبواب البناء الفارغ من العناصر والضباط والمعتقلين، وأنا أعلم بأننا تخلصنا من الرعب الذي بثّه في نفوسنا لعقود طويلة، بعد أن أُفرغت كل السجون من المعتقلين والعاملين فيها. أكمل سيري نحو الفرع المجاور، تحية أخرى، وأنطلق نحو الفضاء الرحب الذي باتت المدينة اليوم تعنيه لنا، ونحن نسترجع قدرتنا على التجوّل في كل شوارعها وتفاصيلها، بكامل الحرية.
أخرج كل صباح، وعند وصولي إلى جانب "الجوية" أبتسم بهدوء، وألقي تحية على جدران وأبواب البناء الفارغ من العناصر والضباط والمعتقلين، وأنا أعلم بأننا تخلصنا من الرعب الذي بثّه في نفوسنا لعقود طويلة، بعد أن أُفرغت كل السجون من المعتقلين والعاملين فيها
خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، نشر معظم أصدقائي، ممن يعيشون في دمشق، صوراً ومقاطع فيديو لهم وهم يسيرون أو يقودون سياراتهم أو دراجاتهم الهوائية في شوارع كانت مغلقة بكتل إسمنتية وحواجز حديدية، مجاورة للأفرع الأمنية، أو لمقرّات إقامة وعمل الرئيس السابق وعائلته والضباط الكبار ورجال الدولة والأعمال المتنفذين. البعض كانوا سعداء وأقدامهم تطأ للمرة الأولى مناطق في مدينتهم كانت محرّمة عليهم، وبكل الأحوال كان التفاجؤ هو العامل المشترك تقريباً بين الجميع، فهذه الحرية في الحركة والوقوف والتصوير دون أن نتعرّض للتضييق والأسئلة من العناصر الأمنية ورجال الشرطة، هو أمر غير مألوف على الإطلاق.
ولعل ما يلخص كل هذه الحرية، هو مشهد سكان دمشق وهم "يبسطون سيطرتهم" مجدّداً على جبل قاسيون المشرف على المدينة والذي يكشف من ارتفاع أكثر من ألف متر، معظم تفاصيلها. الفسحة على قاسيون مع العائلة والأصدقاء هي مكوّن أساسي من حياة أي شخص يعيش في دمشق، والجلوس على واحدة من صخوره، خاصة "صخرة العشّاق"، والنظر إلى المدينة من أعلى، مع محاولة التعرّف إلى الشوارع والحدائق والأبنية البارزة ونقاط العلّام، هي واحدة من أكثر الأمور العالقة في ذاكرتي من سنوات ما قبل الحرب.
عام 2012، أّغلقت إمكانية الوصول إلى أماكن الفسحة في جبل قاسيون لأسباب أمنية وعسكرية، وتحوّل جزء منه إلى منطلق للصواريخ التي انهالت لسنوات على سكان محيط دمشق من الغوطة الشرقية وصولاً لمخيم اليرموك والحجر الأسود وداريا جنوباً وغرباً، وكنا نسمع أصواتها المرعبة من كل مكان. ما عاد بإمكاننا الوصول إلى واحدة من أهم مساحاتنا العامة النادرة جداً في دمشق، وكلما كنا نحاول الذهاب إلى هناك، يوقفنا حاجز في أول الجبل ليطلب منا العودة من حيث جئنا. ورغم انتهاء العمليات العسكرية في دمشق ومحيطها عام 2018، بقي الوصول إلى الجبل ممنوعاً.
بعد سقوط النظام بأيام قليلة، كان لا بد من زيارة قاسيون للمرة الأولى منذ اثني عشر عاماً، وكان مشهداً لا يمكن أن أنساه: مئات الزوار، رجال ونساء وشباب وشابات وأطفال، يسيرون أو يجلسون على كراسٍ وطاولات مرتجلة، البعض يتناول أطعمة خفيفة، آخرون وضعوا "نرجيلاتهم" أمامهم، ومجموعات متفرّقة تستمع إلى أغنيات صاخبة وترقص وتصفق. حالة احتفالية لا أعتقد بأنني رأيتها في دمشق من قبل، والكل يتحدث عن فرحه باستعادة هذا المكان المرتبط بذاكرتنا ووعينا ارتباطاً وثيقاً. وبشكل مشابه، أعاد الناس "احتلال" الحدائق الواسعة بجانب صرح الجندي المجهول المجاور لقاسيون، والتي كانت ممنوعة عليهم لسنوات طويلة، وتحولت إلى مكان للتنزّه والجلوس والتقاط الصور التذكارية.
الحالة الاحتفالية لم تقتصر على الجبل والشوارع وأماكن التنزّه، فسقوط النظام بكل أركانه الأمنية التي كانت جاثمة على حياتنا بالمعنى الحرفي للكلمة، أتاح لنا إعادة استكشاف وبناء علاقة مع الكثير من الفضاءات العامة.
الحالة الاحتفالية لم تقتصر على الجبل والشوارع وأماكن التنزّه، فسقوط النظام بكل أركانه الأمنية التي كانت جاثمة على حياتنا بالمعنى الحرفي للكلمة، أتاح لنا إعادة استكشاف وبناء علاقة مع الكثير من الفضاءات العامة
تحولت المقاهي الشعبية وسط دمشق مثل الروضة والكمال والهافانا، والتي كنا نسمع عن دور ريادي لها في الشأن العام في سوريا قبل عقود، إلى ما يشبه منتديات اجتماعية وسياسية وثقافية لا تهدأ على مدار الساعة، وتمتلئ بسكان المدينة والوافدين من محافظات أخرى، وأيضاً العائدين من المغترب، وهم يتناقشون ويخططون لمستقبل بلادهم الذي يرغبون بأن يكونوا شركاء في رسمه. أُعيد افتتاح مساحات أخرى بوظائف جديدة، مثل مقر حزب البعث العربي الاشتراكي في مدينة جرمانا شرق دمشق، والذي "احتلّه" شباب المدينة فور سقوط النظام، ليصبح اسمه "ملتقى جرمانا الاجتماعي"، ويستضيف بشكل شبه يومي ندوات حول مواضيع سياسية واقتصادية وحقوقية متنوعة مع حضور المئات، في حين أنه كان من قبل مجرّد مكان مهمل لا وظيفة له سوى الاجتماعات الحزبية الجوفاء.
هذه القيود التي سقطت، أتاحت لكثيرين أيضاً التفكير بإمكانية استغلال المساحات العامة بطرق مبتكرة، كأن يعرضوا أفلاماً على جدران فارغة في أحياء سكنية هادئة، وهو أمر كان شبه مستحيل في ظل القيود الأمنية المحكمة، أو يحتلوا أحد المسارح لتقديم عروض مسرحية بعيداً عن الرقابة، أو يملأوا الجدران برسوم غرافيتي معبرة عن مشاعرهم وأفكارهم وآمالهم.
هل ستبقى هذه الأماكن جميعها متاحة لنا في الأسابيع والأشهر القادمة؟ وهل سيستمر شعورنا بهذه الحرية والانعتاق من القيود؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sam Dany -
منذ 4 أيامانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ 6 أياموحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ اسبوعينمبدع