شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"سنبكي بعد أن تنتهي الحرب"... أحزان الغزيين المؤجلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لعلّ إرجاء الغزيين لحزنهم وحدادهم، غدا مسألة جماعية يتشارك فيها من مرّ بتجربة الفقد. ومن مرّ بها هم جميع الغزيين. فما من أحد لم يفقد عائلةً أو قريباً أو عملاً أو بيتاً أو شارعاً أو طرفاً من أطرافه، أو ربما اختبر أيضاً فقداً معنوياً أفقده شكل تفكيره عن العالم وإيمانه بالإنسانية.

يتفق الغزيون على أنهم لا يملكون وقتاً للحداد, وأنهم ينتظرون انتهاء الحرب حتى يتفرّغوا للبكاء. فالموت في غزة يليه موت. والوقت الآن بالكاد يكفي لصراع البقاء، وتوفير المعيشة، والنجاة بما تبقى.

في السعي نحو البقاء

محمد جلال، الشاب الثلاثيني، لا يزال صامتاً تجاه ألم الفراق الذي اختبره. وينتظر هو كذلك، كغيره من الغزيين، انتهاء الحرب، حتى يفتح صفحة الحداد على والده وجدته وعمته، الذين فقدهم دفعةً واحدة، إثر قصف إسرائيلي لمنزلهم في مخيم النصيرات وسط غزة.

"بعد نجاتي من استهداف منزلنا، أصبحت أحمل لقب 'ناجي' مع من تبقى من أفراد عائلتي. وهذا بالنسبة لي أقسى من احتمال أن أكون قد فارقت الحياة معهم"، يقول محمد لرصيف22.

ويردف: "بعد الوداع الأخير، لم يُفتح باب العزاء كما هو معتاد في طقوس الحداد المتّبعة. أصبح الأمر في زمن الإبادة، عبارة عن صلاة جنازة سريعة تحسباً من قصف محتمل، قبور جماعية كيفما اتفق، ومهمات أخرى تنتظر الناجي، مهمات وجودية لا تعطيه متسعاً للحزن".

أصيب محمد جراء القصف، كما أصيبت أمه ووصفت حالتها بالخطرة. "انتظرني معترك آخر للسعي نحو البقاء على قيد الحياة والاطمئنان على أمي، والبحث عن مأوى في خيمة أو مركز للإيواء، انتظرني الانتظار في طوابير المياه والطعام"، يضيف محمد.

بعد الوداع الأخير، لم يُفتح باب العزاء كما هو معتاد في طقوس الحداد المتّبعة. أصبح الأمر في زمن الإبادة، عبارة عن صلاة جنازة سريعة تحسباً من قصف محتمل

تبدو تكلفة النجاة في غزة باهظة. وهذا ما يشير إليه محمد بقوله: "يؤلمني قلبي على الفراق. لكني لا أقوى على البكاء أو الانهيار. سكينة الوقت تحزّ أنفاسنا. أشعر كغزي أني أعيش داخل دوامة من المشاعر ما بين عجز وقلة حيلة ورفض للواقع ونكران لما حدث لي. في المقابل، أترقب الموت في أي لحظة، حالي كحال كل غزي. هكذا ندفع تكلفة بقائنا على قيد الحياة".

خسر محمد منزله وعائلته وأصدقاء كثر. كذلك خسر مصدر رزقه وعمله. "وربما أكون أنا الفقيد التالي!"، يتساءل محمد.

وبينما هو يتحدث، أخذ ينظر إلى عقارب ساعته فوق معصمه الأيسر، منبهاً إياي أنه اقترب موعد شحنه لإحدى بطاريات الإنارة في نقطة شحن، ويريد يستعجل حتى لا يقضوا ليلتهم في ظلام دامس على صوت الانفجارات والطائرات الحربية الإسرائيلية التي لا تغيب عن سماء مدينته.

حزن جماعي

يعرّف علم النفس حالة الحزن المؤجل أو ما يسمى بـ"كرب ما بعد الصدمة"، والتي يمرّ بها محمد وغيره من الغزيين، على أنه ضرب من ضروب الحزن المتأخر؛ يؤجل الناس التعامل معه بشكل لحظي. قد يُخبرون أنفسهم أن احتياجات الآخرين أكثر أهمية من احتياجاتهم، فيركزون على الاعتناء بهم. لكن لا يكون ذلك إلا محاولة لتجنب مشاعرهم الشخصية المؤلمة، بسبب تعرضهم لفقد مفاجئ يخلق مشاعر من الصدمة والخدر وعدم القدرة الواعية أو اللاواعية على التعامل مع الحزن على نحو فوري.

عادة ما يمرّ الحزن المؤجل في خمس مراحل؛ مرحلة الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، ثم القبول. لكن يشير علم النفس إلى أن تلك المراحل قد لا تشمل كل من فقد عزيزاً، وليس بالضرورة أن يمرّ كلّ فاقد بجميع هذه المراحل.

توضح الاختصاصية والمرشدة النفسية عفاف مرشد، في حديثها لرصيف22 أن "الحزن في غزة ليس حالة فردية، بل جماعية. كما أن الخسارة لا تقتصر على البُعد البشري، بل هي خسارة ذات أصعدة متعددة؛ في الأرواح والمنازل والمال والمأكل والمشرب".

وتضيف: "يعيش العزي حالة من صراع البقاء في ظل الحرب الناقمة على كل تفصيل في حياته. ولا يمكنه أن يأخذ قسطاً من الحزن، لأنه في حالة فقدان مستمرة".

ترى مرشد أن هذه الحالة المستمرة لا تمنح الناس فرصة لللبكاء أو التفريغ أو الانهيار. وإن أُتيحت، تكون قصيرةً جداً، مقارنة بفترات الحداد الطبيعية التي يحتاجها الإنسان لإدراك الفقدان. "الغزي مشغول بالنجاة"، تؤكد.

يعيش العزي حالة من صراع البقاء في ظل الحرب الناقمة على كل تفصيل في حياته. ولا يمكنه أن يأخذ قسطاً من الحزن، لأنه في حالة فقدان مستمرة

وتشير في معرض حديثها، إلى أن الغزيين حين يفقدون فرداً من أفراد العائلة أو قريباً، ينشغلون في كيفية توفير القبر أو الكفن، أو نقل جثمانه، أو لملمة أشلائه، أو انتشاله إن علق تحت الحطام، أو إسعافه إن كان مصاباً. وهنا يتأجل الحزن.

ماذا يحدث في إرجاء الحزن

وتشير مرشد إلى أن "الناس لا يتبعون توقيتاً موحداً للحزن. فقد يؤجلون حزنهم حتى انتهاء الحرب. ومنهم من تنتهي الحرب ولا يجدون الحزن المؤجل. لكن قد يمرّون, بعد أسابيع أو شهور, بلحظة ينفجر فيها حزنهم المخزّن، وقد يبدأون حينها في رحلة التعافي بعد تجربة الفقد القاسية، وهو ما يسمى 'كرب ما بعد الصدمة'".

وعن الفرق بين الحزن الفوري والمؤجل، تقول شارحة: "الأول يتزامن مع الفراق وقد ينتاب صاحبه بوتيرة متقاربة أو متباعدة. أما الثاني، فينشغل صاحبه بشيء آخر عدا الحداد، كالعمل أو المهام الملحة في الحياة".

وتتابع: "بالنسبة للغزي، الانشغال بالنجاة يعمل كمسكن للألم. لكن لاحقاً، قد يتعرض الفرد لنوبات من الاكتئاب ولأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم. كذلك التوتر والقلق الزائد والإفراط في العصبية المتكررة". وتنصح مرشد كل فاقد بأن يعطي حزنه حقّه ولا يتجبر على مشاعره.

يُقتل أحباؤهم ويستمرون في العمل

"لا وقت لنا للحزن أو الانطواء أو الانكفاء على ذواتنا، ولو للحظات، حتى نشعر أننا من طينة الإنسان المليء بالمشاعر"، هكذا علقت الصحافية الغزية روبا العجرمي على فقدان زميلها سيف السويطي لطفلته الصغيرة خلال الحرب.

وظهر سيف في صورة التقطها له أحد زملائه في الميدان، يحمل بين ذراعيه طفلته الصغيرة مغطاة بكفن أبيض، وهو ذاهب لدفنها. تقول روبا: "هذا الصديق الآن في الميدان، وقبل لحظات كان يدفن طفلته. يبدو أن سلاحاً إسرائيلياً فتاكاً وصل إليها هي أيضاً, فخرجت شهيدة من رحم أمها".

بعد دقائق من الدفن، لبس سيف درعه وخوذته ووقف أمام الكاميرا في بث حي، لينقل المجازر والفظائع التي لا تزال تلاحق الغزيين في كل مكان.

وربما يتشارك معظم الغزيون في حقيقة متشابهة تواسيهم, في اعتقادهم بأن أحباءهم شهداء، وقد غادروا الدمار والموت والحصار نحو الجنة، أو نحو حياة أفضل، في الأقل.

"أشعر بالفخر كوني أختَ شهيد، على الرغم من الغصة الكبيرة داخلي بسبب فراقه"؛ تقول الثلاثينية مها شهوان، متحدثة عن خسارة شقيقها حارث.

تشارك معظم الغزيون في حقيقة متشابهة تواسيهم, في اعتقادهم بأن أحباءهم شهداء، وقد غادروا الدمار والموت والحصار نحو الجنة، أو نحو حياة أفضل

وكانت مها قد غادرت قطاع غزة إلى مصر قبل إغلاق معبر رفح، وقررت النجاة بنفسها مع زوجها, لكنها تعيش صراع الغربة كل لحظة, والبرزخ الافتراضي في غيابها ووجودها، فمن جهة، يعيش بالها عند أهلها الذين تركتهم يواجهون الموت في غزة، وتعيش هي الوحدةَ التي لا تحظى فيها أن "يطبطب" أحد على ظهرها، على حد تعبيرها.

فتضيف: "عندما علمت بخبر استشهاد أخي، لم أعرف ماذا عساي أن أفعل. شعرت بعجز كبير؛ هل أصرخ أم أبكي أم أنهار؟ وما جدوى ذلك؟ وكيف سيعيد لي الحزن شقيقي؟ أغمي عليّ لحظتها دون أن أبدي أي رد فعل".

أكلمت مها يومها في استقبال التعازي الهاتفية والنصية من أصدقائها في غزة ومصر. "ثم عدت للحياة وانشغلت في عملي. وعلى الرغم من هذا الاستمرار الشكلي، إلا أني أشعر ببرد وقهر وألم في داخلي، وحزن مؤجل حتى أعود إلى غزة وينتهي 'هربي'. سأزور قبر شقيقي وأحتضنه. فأنا لم أودعه الوداع الطبيعي"، تقول.

وكان أقسى ما اختبرته مها، كصحافية، هو نشر خبر الاستهداف، دون أن تعرف أن الضحية فيه هو شقيقها، وقد كان من بين المستهدفين خلال محاولة الحصول على كيس طحين.

وربما يلاحظ المرء، محاولة الغزيين والغزيّات "إنكار" أحزانهم وهمومهم. فيظهرون أنهم بخير، وأن حياتهم تستمر بشكل شبه طبيعي. لكن تحت هذه الوجوه والجلود، تنمو أحزان ثقيلة مؤجلة، تنتظر فرج وقف إطلاق النار واستعادة الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image