شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أخاف أن تنتهي الحرب وقد نسيت شكل حياتي القديمة

أخاف أن تنتهي الحرب وقد نسيت شكل حياتي القديمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

صار من الصعب التصديق بأن الحرب ستتوقف في غزة. فكلما اجتمعت الوفود المتفاوضة، ترتفع حدة التفاؤل في التصريحات الإعلامية والصحافية فقط. لكننا هنا، على أرض الواقع، نصدق الحرب لا غيرها، فهي الآن أكثر الأشياء حقيقة في حياتنا.

للحرب طعم مر، وكادر سوداوي مرعب. لكنها ليست مضللة. صحيح أنها تقتلنا كل يوم، تُهجّرنا من منازلنا، تفعل ذلك بقسوة وهمجية، لكنها لا تبيعنا وهماً، كما إشاعات الهدنة المرتقبة.

نتوق إلى السلام، لكننا لا ندري ما السلام الذي يتحدثون عنه؟ وكيف ستكون حياتنا في ما بعد؟ هل سنرجع لشمال وادي غزة؟ هل ستكون غزة صالحة للعيش؟ هل هي هدنة مؤقتة، وسيتم استئناف الحرب ضدنا في ما بعد؟ أم سندخل للحياة عبر فرصة أخرى، ونجاة من محرقة وإبادة؟

لا أخفي بأنني أخاف أن تطالني لحظة الصفر مع الحرب، فالكثير ممن قالوا إن الهدنة اقتربت، غادروا العالم شهداء.

نسيت شكل حياتي القديمة

هنا من أرض الإبادة، أخضع لروتين يومي من صناعة الحرب؛ روتين لا علاقة لي به، فأنا جندي صغير، بلا سلاح، ضمن لعبة الشطرنج. غمرت الفوضى وسحلت للتيه والضياع، وبقسوة نظمت كل ما أملك وسرقته، بفعل حرب الجنرالات.

عندما أفكر في ما سيحدث بمجرد إعلان الهدنة أو نهاية الحرب، أشعر بأن فوضى كبيرة تتدفق داخلي، وأسئلة بأرجل مطاطية تداهمني، تحقق معي حول مستقبلي وهويتي. وحقاً، لا أعرف كيف سأجيب عن هذه الأسئلة. ولا أعرف أصلاً ما الخطوة التالية لحياتي.

هنالك خوف كبير من اليوم الذي يتبع الحرب. الهدنة هي مجرد كلمة، لكن ستنطلق بعدها حياة أخرى.

عندما أفكر في ما سيحدث بمجرد إعلان الهدنة أو نهاية الحرب، أشعر بأن فوضى كبيرة تتدفق داخلي، وأسئلة بأرجل مطاطية تداهمني، تحقق معي حول مستقبلي وهويتي

فأنا هنا في دير البلح، حيث مكان نزوحي، اعتدت على الإيقاع السريع للحرب، واستسلمت للتدجين القاسي، والبحث عن المياه والخبز والطعام.

ألفت التفكير في المشاكل الكبيرة التي لا تتوقف، في حياة بدائية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أدمنت سماع أخبار القتل الجماعي على مدار الساعة. وعايشت الحسرة الناجمة عن الصراخ المندلع من الخيم لحظة القصف.

خضعت للجوع والألم واليأس والقيامات المتكررة، وكل يوم أشاهد النار ذاتها، التي فقدت جبروتها في عيني.

فإذا جاءت الهدنة، سيتوقف إيقاع الحرب المرهق. ولا بد أن ينطلق إيقاع جديد للحياة. ولست أدري، إن كان سيكون أبطأ أم أسرع. لكنه مختلف.

أكثر من مرة، حاولت مقارنة إيقاع الحرب بإيقاع الحياة القديمة، لكنّي فشلت دائماً. لعلّي نسيت حياتي القديمة؛ فلم أعد أعرفها. فقدت طقوسي اليومية، ورحلة البحث عن الجمال بين الكتب واللغة، فقدت لذة الشعر، ودهشة الاختباء في يده، عبر العزلة عن ضجيج العالم، التي صنعتها لنفسي، ثم انطلقتُ بفعل الحرب لأنخرط في عبث صنعه الآخرون.

لقد غيرتني هذه الحرب، ونجحت مشاهد الجثث المتحللة والدمار والانفجارات المرعبة في سحق ذاكرتي، وانتزاع ماضيّ كاملاً. لذا، إذا تمت الهدنة، فسأكون أمام ساعة رملية، لاستعادة حياتي أو فقدانها للأبد.

خط فاصل

يتم تصوير المدينة التي كانت قبل عام ونيف مدينتي، والتي لم أغادرها طيلة عمري، ويتم مقارنتها بمشاهد قديمة لنفس المكان. بعد التدقيق فيها، أشعر بأن هناك من لعب بالزمن أو بإعدادات الحياة بأكملها. فكيف لمدينة أن تشيخ وتهرم في وقت قياسي كهذا؟ من نزع من مدينة غزة حلاوة ريقها؟

أفكر أن الهدنة هي الخط الفاصل بين موت جماعي يحدث الآن، وحياة سيواجهها كل فرد لوحده في ما بعد؛ حيث سنذهب إلى هناك، نتفقد تفاصيل الدمار التي سمعنا عنها، لكننا لم نلتق بها بعد. نعم، نحن ذاهبون إلى الخراب بأقدامنا، نواجهه دون أدنى رحمة بأنفسنا.

ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً، أن الهدنة ونهاية الحرب ستكونان محاولة لوضع الأشياء في أماكنها من جديد. ولا يعلم المفاوض بأن تحولات الهوية آلت بها إلى تشوهات حقيقية. أرى أنه من الصعب أن تعود غزة إلى السلام كما لو أن شيئاً لم يحدث.

صرنا نخشى الهدنة كما نخشى الحرب تماماً، نخاف أن نُترك في مواجهة حياة جديدة، بوجوهنا القديمة

فثمة فجوة كبيرة بيننا وبين الحضارة الآن. غزة، بخرابها، والحضارة المتوقعة، هي فخ كبير، واختبار لا ينهي الصراع، بل يبدأه.

بعد الهدنة سيذهب مئات آلاف الأطفال إلى مقاعد الدراسة في خيام ومراكز تعليمية غير مجهزة. أولئك الطلاب أنفسهم، هم من عملوا في الحرب بائعي خضار وطرود غذائية وشوادر، وتسوّلوا. أولئك أنفسهم، هم من تخطوا الطفولة، وتعلموا كيف يكسبون المال قبل أن يكسبوا التعليم، فكيف سنخبرهم أن هناك إيقاعاً أبطأ، لكنه أكثر واقعية، لاستكمال الحياة؟

هؤلاء الطلاب، هم أنفسهم الذين سيأتي كل فرد منهم، وقد فقد أمه، أو أباه، أو أحد أفراد عائلته، أو صديقه. كل واحد منهم سيحمل جرحه في الحقيبة مع الكتب.

مجيء الهدنة يعني أيضاً استعداد كل عائلة للعودة للقنوات القديمة، ومحاولة نسج خيوط اجتماعية تقطعت بفعل الحرب والنزوح وانعدام الخصوصية داخل الخيم والبيوت المتكدسة بالنازحين. الكثير من الآفات الاجتماعية ظهرت خلال الحرب، وانكسرت أعمدة علاقات كانت في السابق وطيدة. لقد انكشف الناس أمام بعضهم بعضاً نتيجة التدافع الاجتماعي الكبير الذي حدث. هزة بقيمة مائة ريختر، هتكت خيوط الثوب الاجتماعي الغزي، وصار من الصعب حياكته.

ثمة خوف من تحقق الهدنة، كأنها ستكشف الشلل الجسدي والروحي الجماعي الذي أصابنا. أتخيل بأننا كنازحين، جميعاً نجلس على كراسٍ متحركة، نراقب أشكال الموت في أهلنا وأحبابنا، ولا نستطيع أن نحرك ساكناً. أخاف من تلك اللحظة التي ستنهي الحرب، فأحاول الوقوف، ولا أستطيع.

الهروب أو البقاء

ستمنح الهدنة للغزي باباً كبيراً للهروب من السجن والتعذيب الوحشي. ففي نصف مدة الحرب الأول، عانى الغزيون من الابتزاز المادي للسفر والنجاة من قبل شركة "يا هلا" المصرية، وفي نصفها الثاني، جُررنا إلى لسجن كامل، باحتلال معبر رفح من قبل إسرائيل. والهدنة تعني فتحه للسفر بآلية غير واضحة حتى الآن.

إن سألتَ معظم الغزيين، وأنا منهم، ماذا ستفعل مباشرة بعد انتهاء الحرب؟ سنجيبك باندفاع: "سنسافر". الأمر بديهي، أن يهرب فأر الهامستر من المكان الذي خضع فيه للتعذيب، بمجرد فتح الباب.

لقد انكشف الناس أمام بعضهم بعضاً نتيجة التدافع الاجتماعي الكبير الذي حدث. هزة بقيمة مائة ريختر، هتكت خيوط الثوب الاجتماعي الغزي، وصار من الصعب حياكته

وأنا أعترف بأنني متردد بين الهروب من غزة أو البقاء فيها، وأخوض صراعاً مع عائلتي بشأن ذلك. سأترك لقاربي الفرصة لأن يهدأ، بمجرد انتهاء العاصفة، وأعيد التفكير في مصيري ومصير عائلتي من جديد.لا أعرف كيف أصف العاصفة، لكني ألمسها، وأشعر بها جيداً.

الإشكالية الكبرى تكمن في عدم ثقتي بأن المكان الجديد، أيّاً كان، سيمنحني الأمان؛ ذلك الشعور الداخلي الذي يعطيني بطاقة جديدة لحضور حياة أخرى، بلا عنف وجرائم وتنكيل بإنسانيتي وذاكرتي.

لقد سلبت الحرب منا هويتنا وإرادتنا واعتزازنا بالأماكن والمواقف والمشاعر الحميمية مع ذاتنا. وأنا أشك في أن تعيد الهدنة لنا ما فقدناه، وما سُلب منا دون إنسانية.

صرنا نخشى الهدنة كما نخشى الحرب تماماً، نخاف أن نُترك في مواجهة حياة جديدة، بوجوهنا القديمة. أن نعود فلا تعرفنا الحياة. ستتركنا للمجهول الذي نخاف أن نتمناه، فلا يمنحنا حياة تشبه حياتنا الأولى.

أما تلك الأماكن في غزة، التي رفضت الزوال، فسيكون من المرعب لقاؤها مرة أخرى، لأنها الشيء الوحيد الذي احتفظ بالأمل، وسيكون من المخيّب أن تتوقع منا الأمل نفسه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image