شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"علمتنا الحرب ألا نحلم"... كيف ينظر الغزيون إلى المستقبل؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، تكررت كثيراً دعوة الغزيين والمناصرين للقضية الفلسطينيين إلى عدم اعتبار الغزيين مجرد أرقام. وفي هذه الدعوة ضرورة للتقرب من أفراد المجتمع الفلسطيني في القطاع، في يومياتهم وأحلامهم وطموحاتهم.

ربما يحمل هذا التقرب تعميقاً حقيقياً لمعنى التضامن الذي تعبر عنه المجتمعات في أنحاء مختلفة من العالم.

ونظراً لحجم الدمار المهول الحاصل على الحياة المدنية في قطاع غزة، كالبنى التحتية والمؤسسات التعليمية والمدنية والمنازل والمعالم الأثرية، لا يمكن التكهن بعدد السنوات التي سيحتاجها المجتمع الغزي حتى يعيد إعمار حياته التي بات يفقد ماضيها وحاضرها ومستقبلها في غارة واحدة.

وعليه، فقد أصبح التفكير بالمستقبل والتخطيط له بالنسبة للكثير من الغزيين والغزيّات، أمراً عبثياً، لا سيما أن نهاية للحرب لا تبدو أنها تلوح في الأفق. وقد تبدو، في الوقت نفسه، لآخرين، ضرورة وجودية للتمسك في الحياة.

صارت الأحلام بسيطة

تؤمن إسراء فروانة (32 عاماً)، النازحة من الشجاعية إلى غزة، بأن الحياة تجبر المرء على خوض دروب شائكة. هكذا فعلت الحرب تماماً. قصف منزل العائلة فوق رؤوس أفرادها. فاستشهد أخاها وأختها وأصيبت هي.

"حين أصبت لم أدرك الإصابة. تلقيتها في رأسي ووجهي. مرت علي أيام حتى تمكنت من استيعاب ما حدث، بوجهي المحروق. في تلك اللحظة تغيرت أحلامي وصار حلمي الكبير أن أتعافى وأن أرى وجهي في المرآة قبل أن يحترق"، تقول فراونة لرصيف22.

وتضيف: "لقد خبأ كل من حولي المرآة عني حتى لا أصدم بحروق وجهي وعظامه الظاهرة والجلد الذي ذاب بفعل الإصابة".

أحلامنا نحن الغزيين بسيطة. كأن نمتلك بيتاً وأن نسافر ونجوب العالم. قد يراها غيرنا تافهة، لكن كثيرون منا يرونها أحلاماً كبيرة

أما أميرة فتحي (31 عاماً)، النازحة من خانيونس إلى رفح، فكانت تخطط للسفر لأول مرة خارج غزة، وكان حلمها على وشك أن يتحقق قبل الحرب. تقول لرصيف22: "منذ سنوات وأنا أنتظر اليوم الذي سأخرج فيه من أسوار غزة لأرى العالم. حلمي الكبير كان السفر، إضافة إلى أحلامي البسيطة المتعلقة بأطفالي والاستثمار بهم وتعليمهم اللغات ورؤيتهم في أعلى المراتب".

كان موعد سفر أميرة إلى القاهرة لإجراء عملية ليزر لعينيها، في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2023. لكن الحرب اندلعت وأفشلت مخططها.

وتردف: "أحلامنا نحن الغزيين بسيطة. كأن نمتلك بيتاً وأن نسافر ونجوب العالم. قد يراها غيرنا تافهة، لكن كثيرون منا يرونها أحلاماً كبيرة". تنتظر أميرة اليوم الذي تسافر فيه، والذي تعتقد بمجيئة بعد شهور، أو سنين، حسب تعبيرها.

وعن تحول أحلامها في زمن الحرب، تقول أميرة: "لقد علمتنا الحرب درساً قاسياً، يكمن في ألا نخطط كثيراً وألا نبني آمالاً كبيرة. أنت لا يمكن أن تضمن العيش في الدقيقة القادمة. فقد يأتي اليوم الذي تهدم الدنيا فيه فوق رأسك".

وتضيف: " تحولت خططي من السفر واكتشاف الأماكن الأثرية في بلاد العالم وشراء سيارة إلى كيفية إعمار البيت الذي قصفه الجيش الإسرائيلي. تتمثل خططي اليومية في جلب مياه نظيفة لأولادي، وكيفية التخفيف من الشعور بالشمس الحارقة داخل الخيمة، وتوفير حاجاتهم من مأكل ومشرب".

الخطط التي انكسرت مع المكان

أما إسراء محمود (29 عاماً) من مخيم النصيرات، فلم تكن يوماً من صاحبات الخطط. لكنها منذ أن أصبحت أماً صارت كذلك. لقد كانت أكبر أحلامها أن تمتلك بيتاً مستقلاً وحديقة تحاذيه. "كان من الصعب جداً أن أحقق هذا الحلم قبل الحرب. كان يتمثل الحلم في مجرد السعي له. والآن أصبح مستحيلاً بعد أن دمرت غزة"، تقول لرصيف22.

امتلاك البيت بالنسبة لإسراء يعني المرساة التي تنطلق منها حياة مستقرة واستثمار بالأطفال وبمستقبلهم، حتى تضمن لهم شأناً في مجتمعهم، كما تقول.

ويبدو أن حلم البيت انكسر مع انكسار المدينة التي دمرت فيها إسرائيل معظم معالمها ومرافقها العامة ومطاعمها وميادينها. فقد كانت إسراء تنوي تعريف صغارها على مدينتهم، وعلى الأماكن الأثرية فيها، وعلى زواياها القيّمة، والتقاط الصور لهم في هذه الأماكن، حتى تغرس فيهم الشعور بالانتماء.

لكن إسراء تعتقد بأنه حتى لو تم إعمار غزة بعد سنوات، لن تعود المكان الذي كانته في السابق. "سأخبر براء وشام أنه كانت لدينا أجمل مدينة في العالم. سأخبرهما عن كل مكان وعن الذكريات التي يحملها. سأدرسهما التاريخ جيداً. وسنغوص معاً في كل صورة سابقة لغزة قبل أن يعمها الخراب بفعل آلة الحرب الإسرائيلية"، تؤكد إسراء محمود.

وتضيف: "نعم خسرنا المكان، لكن ما دمنا على قيد الحياة، فسنروي حكايات فلسطين وسأحكي لأطفالي عن غزتنا، شارعاً شارعاً".

سأخبر براء وشام أنه كانت لدينا أجمل مدينة في العالم. سأخبرهما عن كل مكان وعن الذكريات التي يحملها. سأدرسهما التاريخ جيداً. وسنغوص معاً في كل صورة سابقة لغزة قبل أن يعمها الخراب

قُطعت الأرزاق

أشارت التقديرات إلى أن أكثر من 200 ألف وظيفة فُقدت في قطاع غزة نتيجة للحرب، ما يشكل حوالى 90% من وظائف القطاع الخاص، وحوالى 15% من وظائف القطاع العام. وقصة الصحافي باسل خير الدين (33 عاماً)، النازح من بيت لاهيا إلى غزة، هي واحدة من مئات آلاف القصص التي فقد أصحابها أرزاقهم منذ السابع من أكتوبر.

كان في قائمة باسل سيل من الخطط والأحلام، منها افتتاح شركة للإنتاج الإعلامي، ليكشف للعالم، من خلالها، جمال المدينة وبأن غزة ليست مكاناً للموت فقط. فبدأ يخطو خطوات فعلية، برفقة شقيقه أحمد، من أجل تنفيذ المشروع.

يقول لرصيف22: "كانت هذه الشركة مشروع حياتي القادم. لكنه ذهب أدراج الرياح مع فقدان كل المعدات الإعلامية. ولم تنحصر الخسارة في المادة وحسب، بل طالت شقيقي وشريكي في العمل الذي استشهد بعد قصف منزلنا. ولم أتمكن من استخراج جثمانه من تحت الأنقاض لشهور".

أضحى حلم باسل الحالي هو إكرام شقيقه بدفنه، ناسياً كل طموحاته السابقة.

انتهت أحلامه بطريقة مأسوية، فحلمه بالسفر لعلاج ابنه الأصغر الذي يعاني من إعاقة توقف إثر الحرب. كما تحولت خططه من الغرق في الأبحاث الإعلامية والعمل الكثيف إلى البحث عن خيمة.

ويؤكد أن الحرب علمته أن لا جدوى من التخطيط للمستقبل. فقد تحل عليك حرب تسرق منك أحلامك وأحبابك ورزقك وكل ما هو بين يديك.

أما إسراء فروانة، فكانت سوف تستلم وظيفة جديدة كمحاضرة في جامعة فلسطين بعد أن انتهت من دراسة الدكتوراه في تركيا وعادت إلى غزة قبل يومين من اندلاع الحرب. لكن الجامعة تعرضت للقصف الإسرائيلي.

"وقبل الحرب، افتتحتُ شركة للبرمجيات في غزة. وبدأت بممارسة مهامي كمديرة مشاريع للشركة برفقة شركاء كثر. كان هذا الحلم الأكبر بالنسبة لي، ونتاج جهد سنوات عديدة. كنت أنتظر اليوم الذي أرى مشروع أحلامي وقد تحول واقعاً أمام عيني. والآن قلب العدوان الموازين وبدل الأهداف"، تؤكد إسراء. 

علمتنا الحرب درساً قاسياً، يكمن في ألا نخطط كثيراً وألا نبني آمالاً كبيرة. أنت لا يمكن أن تضمن العيش في الدقيقة القادمة

ماذا عن الأمل؟

هل بإمكان المرء أن يعيش من دون أمل؟ وهل بإمكان الأمل أن يعيش من دون أفق فعلي أمام الحاضر؟ ربما لا يمكن التكهن بإجابات هذه الأسئلة في غزة، ما دام الأمل الجمعي آمالاً صغيرة وفردية ومختلفة.

بالنسبة لإسراء فراونة، فهي لا تزال كما هي، تخطط وتدون أحلامها على الورق.

"أصطحب دفتري معي أينما أذهب. لم تهزمني الحرب ولا الإصابة. تعافيت إلى حد ما وعدت إلى عملي التطوعي في المجموعة التطوعية "سنابل"، التي تمد يد العون للمحتاجين. فالعمل بالنسبة لي هو بمثابة دواء"، تقول.

وتردف: "أحلم بإعمار بيتي ومدينتي وافتتاح شركتي مرة ثانية بعد قصف مقرها. وتسلّم منصبي كمحاضرة. سأحلم وانتظر هذه الأيام. فأنا لا أعترف باليأس".

وعلى الرغم من عدم تخليها عن أحلامها الكبيرة السابقة، تؤكد إسراء فروانة أنها وضعت خططاً تناسب المرحلة، كأن تقدم المساعدة لأكبر قدر ممكن من الغزيين.

أما باسل، فبدا ممتعضاً وحزيناً لدى سؤاله عن الأمل. يقول إن أقصى أمنياته الآن أن يلتقي بعائلته التي نزحت إلى جنوب غزة. أما خطط ما قبل الحرب، فقد باتت في عداد الذكريات.

ربما يأتي يوم وتتحقق. لكنها لن تتحقق في وقت قريب. فقد تحولت الخطط السنوية إلى خطط يومية بسيطة تتمثل في توفير مقومات الحياة العادية جداً لأطفاله.

تبدو النظرة إلى المستقبل مشابهة لدى إسراء محمود، التي تقول إنها نسيت أحلامها التي كونتها قبل الحرب.

"نسيت حلم البيت ومخططاتي مع أولادي. أفكر فقط في حمايتهم. لا أعرف إن كنت سأعيش أنا وأولادي حتى انتهاء الحرب. وعليه، فأنا لا أخطط للغد. أعيش الحياة يوماً بيوم"، تقول إسراء.

وتوضح أنها، حتى لو ظلت على قيد الحياة بعد الحرب، لن تبني أحلاماً وآمالاً كبيرة. فحياة الغزيين بالنسبة لها، لا سيما الأمهات، تبدو على الحافة، وقد تنزلق في كل لحظة فيفقد صاحبها كل أحلامه في غارة واحدة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image