منذ بداية الحرب وكل شيء ينمو حولي بسرعة غير معقولة، وعلى نحو نقيض ينمو ببطء غريب في داخلي. لم يكن بإمكاني استدراج أي نوع من المشاعر بالإجبار، كأني أدعو أحداً للاعتراف. بدا وكأني لو فعلت ذلك فسوف أقود هذا الشعور أو ذاك نحو الموت، ثم لأنني لم أجبر نفسي على فعل لا أقوى عليه، تحول البطء برتل الشاحنات خلفه إلى خطوات تتجه نحو الخلف ببطء من نوع آخر. وهناك في الخلف كانت نقطة الصفر تقف على الباب مثل زائر لا علاقة له بما يحدث وتطرقه: طق، طق، طق.
ثم عندما أفتح لها الباب تأخذ بيدي، فننزل الدرج كرفيقين أحدهما يقظ والآخر نائم أو منوَّم، ونتجه نحو القبو السفلي، حيث نستمر في الهبوط فوق درجات لا نهاية لها!
أي نهاية لها بداية، لكن ليس بالضرورة أن تكون لها نهاية. في الحلم نظل نهبط ولا أحد يوقفنا. عندما نصحو يكون الصحو عالماً جديداً لا علاقة له بالعالم السابق. إنها مثل ما يحدث حولي، ولا أستطيع أن أضع نقطة في آخره كجملة انتهت. لم تكن سؤالاً ولا جملةَ تعجب؛ كأنني في عالمَين منفصلَين في الحياة نفسها.
أقف خلف النقطة مشدوهةً. أنظر ولا أنتظر. كأنني أفقد الأمل أو أمتلئ به. ثم يبدأ هذا النوع من الأمل يشدني نحو الأسفل، مثل حجرٍ ربطه القاتل بقدمَي الجثة. والحجر الآن يشدّ الجثةَ نحو الأسفل، ثم يخفيها في القعر إلى الأبد
أقف خلف النقطة مشدوهةً. أنظر ولا أنتظر. كأنني أفقد الأمل أو أمتلئ به. ثم يبدأ هذا النوع من الأمل يشدني نحو الأسفل، مثل حجرٍ ربطه القاتل بقدمَي الجثة. والحجر الآن يشدّ الجثةَ نحو الأسفل، ثم يخفيها في القعر إلى الأبد. إن لم تمتلك، من داخل موتها، فن التآزر مع الماء، تدفع الحجر بعيداً، ثم تطفو على السطح، ليعثر عليها أحد لا يربطه بها رابط قبل الآن.
لا علاقة لهذا بتعريف الوهم، بل إنني أضيء على صورة الأمل في طور من أطواره.
في بداية الحرب لم يخل الأمر من محاولاتي المثابرة في الكتابة، ثم لاحقاً، اكتفيت بمتابعة ومشاركة ما يكتبه أصدقائي في المدن التي تموت، وهم ينزحون من مدينة هدمتها الحرب إلى مدينة أخرى ستهدمها الحرب. ألم أكن فلسطينية بما يكفي؟ ولماذا يصبح الموت دليلاً على الفلسطينية الكافية؟ أن لا أكون معرضة للموت الأكيد كما يحدث مع كل ما ومن يعيش في غزة، من الناس والبنايات والنباتات والحيوانات، هو تصريح للكف عن الكتابة عن الموت البعيد قليلاً. "قليلاً" لا تعني بُعد العجلات عن الجثة، بل بالخطأ الذي يصيب الرصاصة في طريقها نحو الضحية.
كل كتابة خارج الموت الأكيد، حتى لو بفرصة صاحبها غيرالاكيدة في الحياة، هي شك في الخيانة. ثم كأنها اقتراب أكبر من موت من نوع آخر. أعطيت نفسي الحق في هذا الإدلاء الضمني: كاتب خائب أفضل من كاتب خائن! الخيانة هنا لها أسبابها البسيطة كأن لا أجوع حتى يقربني الجوع من نهايتي، وأنا أكتب عن طريقي نحوها!
بدا البحث عن طرق بديلة للتعبير عما يعيشه الفلسطيني في غزة، ليس أكثر رحمة من التواطؤ مع الموت بخلق موت غير رحيم عند حافة المحاولة. تحولت محاولات التعبير تلك إلى اختبار لحشد استخلاصات من عبارات الحكمة باستخدام عبارة "ماذا لو؟!": ماذا لو لم تأكلك الحرب؟ ماذا لو لم تنج؟ ماذا لو كنت تعيش في مكان آخر؟ ماذا لو لم تكن كاتباً؟ ماذا لو لم يُبتلَ الفلسطينيون بعدوّ مثل إسرائيل؟ ماذا لو كان هناك إله يتدخل في الوقت المناسب وفي اللحظة المناسبة؟ ماذا لو كنت أعيش في غزة ولم أكن أعيش في الغور الفلسطيني؟ ماذا لو توقف التاريخ عن أن يكرر نفسه؟ ماذا لو تخلت الحرب عن وظيفتها وعملت في مهنة أخرى؟ ماذا لو علقتُ في غزة في آخر زيارة للقطاع قبل عام بالضبط من الحرب الأخيرة؟
أتذكر جيداً ما قلته لأصدقائي في آخر لقاء لنا في غزة: لو كنتُ في غزة، لما كنت لأتحمل هذا الموت طيلة هذه السنوات.
أتذكر جيداً ما قلته لأصدقائي في آخر لقاء لنا في غزة:
- لو كنتُ في غزة، لما كنت لأتحمل هذا الموت طيلة هذه السنوات.
- لو كانت غزة مدينةً بلا حرب، لاخترتُها لأقضي فيها ما تبقى من حياتي.
تخيلت نفسي قبل الحرب أعيش في مدينة تطل على البحر. كنت، في الخيال، كمن يعيش أحداث فيلم فيه غابات سرو كثيفة، وطرق ترابية واسعة بالقدر الذي يسمح لي بالمشي ضامّةً يدَ رفيق، أو داخل قصيدة، بين سطورها الشفّافة التي تشير إلى غاية ما يستنتجها كل قارئ حسب هواه ومناه. بعد الإبادة الأخيرة لغزة التي حولت البحر إلى حرب، سأحتاج لقضاء عام أو أكثر، في مدينة لم تمت، على نحوٍ واقعيّ أولاً، قبل البدء مجدداً بوصف ذلك الشعور، حتى أضمن أن يخلو من شبهة الأمنية.
الآن لو كتبت عن المدينة سيبدو الأمر كما لو كنتُ شخصاً يتغنى بالضحية، أو فاقداً يرثي ميتاً يعزّ عليه، أو زائراً يزرع ورودَ صبار بجانب قبور الراحلين الذين ماتوا دفعة واحدة، فحولهم الموت إلى جثة واحدة بأرواح كثيرة، أو كلباً جائعاً يأكل الجثث دون أن يعلم أبداً أنّ خلفها أهلاً سيفتقدونها، وسوف يتحسسون الفراغ الذي تركوه عندما يستعيدون أصابعهم التي جمدها البرد أو قطعتها شظايا الصواريخ. كل ذلك وهو يحيل إلى عبارة من عبارات الحكمة، دون شبهة تدخّل نوع آخر من أنواع الحزن، رغم أنه لا يمكنني نفي الإشارات والخطوط عن وجه أمنية شخصية جداً، بدأت تشيخ، منذ عام، على مرأى من الجميع: أمنية امتلاك مدينة.
من يستطيع أن يقول، الآن، إن المدينة لم تمت؟!
كأنّ الموت، منذ 454 يوماً للحرب، يقيم في الغرفة المجاورة للغرفة التي أنام فيها. كأنني الصديقة التي رضيت بأن ترافق صديقتها المريضة في رحلتها نحو الموت الذي فُرض عليها. أرادت "مارثا"، في فيلم "the room next door"، اختيارَ يومِ موتِها بنفسها، ووضعَ حدٍّ لحياتها الدافقة بالألم، وعلى كل حال، على صديقتها أن تخفي علاقتها بهذه النهاية التي اختارتها الأولى، كي لا تتلقى تهمة المشاركة في صنع الموت المنتخب!
لا أعرف إلى أيهما سينحاز المشاهد في مشاعره، في ذلك الفيلم؟ إلى أنغريد، الروائية التي اختارتها صديقتها كي ترافقها في الأيام الأخيرة من حياتها، رغم أنها كانت تعلم أنها تذعر من الموت؟! قالت لها: أريد أن أسمع أنفاساً في الغرفة المجاورة، وأنا أموت.
وهكذا وجدت أنغريد نفسَها تسير إلى جانب الموت الذي ترهبه، وتراقب باب غرفة صديقتها. قالت لها: سوف تعرفين أنني فعلتها. سيكون باب غرفتي مغلقاً!
تدخلت الريح مرة، فدخل من النافذة وأغلق الباب بنفسه، فأعطى إنذاراً خاطئاً بالموت، ثم صححته مارثا بظهورها المؤقت فوجدت أنغريد وهي تبكيها:
_ أتكون كتابتي، لو فعلت على هذا النحو، بكاءً خاطئاً؟
قالت مارثا لأنغريد الغاضبة: هل أنت غاضبة الآن لأنني لم أمت إذاً؟!
أم ينحاز إلى مارثا، الصحافية التي رافقت الحروب، من العراق إلى البوسنة، فأبعدها الموت في المدن الكثيرة، عن دورها في أمومة ابنتها التي ستنام على فراشها بعد رحيلها، وسوف تراقب رقاقات الثلج المتساقطة، وهي تستلقي على الكرسي المطل على غابة السرو، بنفس الطريقة، وبنسخة مكررة عن أمها؟!
اختارت مارثا البيتَ الذي ستموت فيه، وعندما وصلته، وبدأت بإفراغ حقائبها، اكتشفت أنها نسيت حبة الموت وراءها.
أين هي حبة الموت في حالة الفلسطيني؟
وجدت مارثا نفسها تظهر في بيتها الأول مجدداً، كأنها شبح، كما وصفت نفسها، تعود من خلاله لتطل على حياتها.
في بداية الحرب لم يخل الأمر من محاولاتي المثابرة في الكتابة، ثم لاحقاً، اكتفيت بمتابعة ومشاركة ما يكتبه أصدقائي في المدن التي تموت، وهم ينزحون من مدينة هدمتها الحرب إلى مدينة أخرى ستهدمها الحرب. ألم أكن فلسطينية بما يكفي؟ ولماذا يصبح الموت دليلاً على الفلسطينية الكافية؟
كيف أنفي أنني لست شبحاً، وأنا أحاول ملامسة آلام 45581 من الشهداء، ثم لا أستطيع أن أكون قطرة دم من دمائهم؟
أتابع تلك المفارقات داخل الغرفة المجاورة وأجدني أعود من الموت مرةً بأمل تدفع بابه الريح التي تدفقت من النافذة، وفي مرة أعود إلى حياتي السابقة كَشَبحٍ وأراقبها. وفي مرة أراقب الغرفتين معاً: التي أعيش فيها، والتي يسكن الموت فيها، وأنا أماشيه! لا أعرف متى بدأ يحدث هذا، منذ طفولتي مثلاً؟ منذ استشهاد الفتى عام 1992، منذ استشهاد أحمد، ابن قريتنا، عام 1987، أم بعد أن تتبعت غيابات كثيرة من الموت (العادي)، الذي أرفض الاعتراف بعاديته، حتى وهو يحدث لأسباب تتعلق بالأمراض القاتلة؟ فأنا أحدد دائماً مكان القاتل وهو يقف على نافذة الغرفة، يحجب الريح، فتظل الفرصة مفتوحة على الموت ببندقيته المشرعة على الحواجز، في اقتحامات الليل الباردة، على أطراف القرى، على مشارف المدن، داخل المخيمات، في أحلامي.
رائحة التعاسة تفوح من الأحداث التي امتدت لتتحرك حولي في العالم الواقعي، في مواجهة الحياة التي تتشبث بنفسها، في الغرفة المجاورة، فيما الموت يشدها من رجليها كأنه يسحبها، مثل مولود، إلى عالمه، والأمل يدخل في شجار مع اليأس على نقطة الخلاف نفسها بين الحياة والموت، ولا أدري إلى جانب أيّ منهما عليّ أن أكون في معظم الأحيان؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sam Dany -
منذ 4 أيامانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ 5 أياموحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ 6 أيامالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياماهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ اسبوعينمبدع